تفاصيل الخبر

حضــــــارة بـــــــلاد مــــا بـيـــــــن الـنـهـريــــــــن تـسـكـــــن مـتـحـــــف ”نــابــــــــو“ شـمـــــــال لـبـــــــنـان!

26/10/2018
حضــــــارة بـــــــلاد مــــا بـيـــــــن الـنـهـريــــــــن تـسـكـــــن  مـتـحـــــف ”نــابــــــــو“ شـمـــــــال لـبـــــــنـان!

حضــــــارة بـــــــلاد مــــا بـيـــــــن الـنـهـريــــــــن تـسـكـــــن مـتـحـــــف ”نــابــــــــو“ شـمـــــــال لـبـــــــنـان!

بقلم وردية بطرس

في منطقة تشهد العديد من الاضطرابات والصراعات وتدميراً للآثارات والحضارات القديمة تم افتتاح متحف <نابو> الذي يحمل اسم اله الحكمة والكتابة في بلاد ما بين النهرين في ايلول/ سبتمبر الماضي في منطقة الهري شمال لبنان، ليقدم لنا لمحة عن التاريخ الثري والطويل لبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام. ويقدم المتحف في معرضه الحالي <قرون من الابداع> مقتنيات أثرية تعود الى أكثر من ستة آلاف سنة تتنوع بين اللوحات والتماثيل والرقميات المسمارية التي يعود بعضها الى أوائل العصرين البرونزي والحديدي، والى الحقبات الرومانية واليونانية والبيزنطية والاسلامية، فضلاً عن بعض المخطوطات النادرة والكتب التي تمتد من عمق التاريخ وصولاً الى عصرنا الحديث والمعاصر مع أعمال فنانين لبنانيين وعرب منهم جبران خليل جبران، وصليبا دويهي، وايفيت أشقر، وأمين الباشا، ورفيق شرف، وفاتح المدرّس، وأحمد المعلا، ودوروثي سلهب، وشاكر حسن آل سعيد، ولؤي كيالي، وسمير صايغ وغيرهم.

حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام!

ان المجموعة الأثرية في متحف <نابو> مهمة من حيث تنوعها، فهي تحيي أقدم الحضارات خصوصاً حضارات ما بين النهرين وبلاد الشام ومنطقة البحر الأبيض المتوسط: السومرية والأكادية والآشورية والحثية والبارثية والفرعونية والفينيقية واليونانية والرومانية والاسلامية. وقد تم تصميم مختلف واجهات العرض بهدف مقاربة القطع الأثرية من حيث التقنيات التي استخدمت ابان تصنيعها. وتضم هذه المجموعة عدداً كبيراً من الأعمال الفنية المصنوعة من البرونز والزجاج والفخار. ومن بين العديد من التحف الفنية تمثال صغير لرجل من البرونز يعود الى الحقبة الأشورية - القرن الثامن قبل الميلاد، وتمثال صغير يمثل الالهة <أفروديت> و<ايروس> المزينة بأساور ذهبية، وقارورة زجاجية رومانية نادرة على شكل عنقود العنب، بالاضافة الى تماثيل فينيقية صغيرة مصنوعة من الفخار، وتشكل القطع الأثرية الحجرية أيضاً جزءاً مهماً من المجموعة خصوصاً تلك العائدة الى تدمر وتل براك، وهي مجموعة بارزة من منحوتات العيون والنقوش التدمرية، الآرامية والاغريقية.

فكرة انشاء متحف <نابو>!

وهذا المتحف هو ثمرة جهود ثلاثة أصدقاء لطالما كان لهم شغف بالعلم والتاريخ والثقافة وهم: جواد عدرا، بدر الحاج، وفداء جديد اذ عملوا معاً لتحقيق حلمهم ايماناً منهم بأن هذا المشروع يوفر بيئة تمكن الناس من استكشاف الماضي وفهم الحاضر والمشاركة في بناء المستقبل.

<الأفكار> قصدت بلدة الهري وقامت بجولة في أرجاء متحف <نابو> وكان لنا حديث مع مؤسس المتحف السيد جواد عدرا ليطلعنا على تفاصيل فكرة انشاء المتحف، ومحتوياته، وأهمية الحفاظ على الارث التاريخي والحضاري في منطقتنا التي تشهد العديد من الصراعات والحروب ونسأله اولاً:

ــ كيف انطلقت فكرة انشاء متحف <نابو> ؟ ولماذا؟

- فكرة انشاء المتحف قديمة اذ بالنسبة الينا كأصدقاء انا وبدر الحاج وفداء جديد قد ورثنا رفقة الأهل وصداقتهم منذ الطفولة، وكان لكل منا شغف بالعلم والتاريخ والفن والثقافة، ولطالما حلمنا نحن الثلاثة بالقيام بأمر ما يخدم مجتمعنا. ومنذ عام وأثناء زيارة لمواقع أثرية وفنية في ايطاليا قلت لزوجتي زينة: أين نحن منهم، أي الغرب؟ ألم يحن الوقت لنفعل شيئاً لبلادنا؟ لذلك قررنا ان نطلق هذا المشروع الجديد، وكان ذلك بداية لمسيرة متحف <نابو> إذ قدمّنا بدر الى صديقه ضياء العزاوي الذي بدوره شاركنا رؤيتنا وانتقل الى تصميم واجهة المتحف، وبدوره العزاوي قدّمنا الى محمود العبيدي الذي كان ينفذ مشاريع بناء متاحف عدة، فشاطرنا حلمنا ورؤيتنا وقرر المضي معنا في هذه الرحلة. على صعيد المنطقة لا تزال الصراعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ذات التأثيرات الكبيرة ترسم معالم المشهد الحالي، وهنا تأتي أهمية هذا المشروع كمساهمة لتبادل وجهات النظر حول التقليد التاريخي والثقافي وأهمية تعزيز وتنمية الفنون والثقافة في بلادنا.

ويتابع قائلاً:

- يحمل المتحف اسم الاله <نابو> الراعي للكتّاب والكتابة والحكمة، وهو رمز مهم من رموز تاريخنا وتراثنا الثقافي. وكانت الفكرة الأولية لهذا المشروع تقضي بإنشاء مركز للبحوث والتدريب بهدف الحفاظ على تراثنا الغني وتشجيع الأبحاث العلمية. وتبلورت الفكرة وتركزت جهودنا وأفكارنا المشتركة على انشاء متحف جديد في بلدة الهري شمال لبنان. ويعد متحف <نابو> بناءً من نوع جديد على الشاطىء في لبنان سواء من حيث تصميمه او وظيفته، ولقد أدى التعاون بين ضياء العزاوي ومحمود العبيدي الى بناء هذا النصب... وعلى الصعيد الشخصي فأقوم منذ التسعينات باقتناء القطع الفنية والأثرية والحديثة من مصادر مختلفة أبرزها الأسواق الأوروبية والأميركية. وتضم المجموعة حتى الآن نحو 2000 قطعة من بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين تعود للحضارات الفينيقية والسومرية والرومانية والاغريقية والمصرية والاسلامية (وغيرها من الحضارات) الى الفن الحديث والمعاصر. وبدوره كان بدر الحاج يقوم بانجاز ونشر أبحاث عن الصور الفوتوغرافية في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، وقام بوضع مجموعته الفوتوغرافية الفريدة في تصرف الباحثين.

محتويات المتحف!

ــ وماذا عن محتويات المتحف ولأي حقبة تعود تلك القطع الأثرية؟

- يقدم متحف <نابو> مجموعة فريدة من نوعها من التحف الفنية التي تعود الى أوائل عصري البرونز والحديد والى الحقبات الرومانية واليونانية والبيزنطية والاسلامية، بالاضافة الى المخطوطات النادرة والمواد الاثنوغرافية. وتشتمل هذه المجموعة أيضاً على نماذج من الأعمال الفنية الحديثة العائدة لأبرز الفنانين أمثال: أحمد المعلا، آدم حنين، أمين الباشا، اسماعيل فتّاح، بول غيراغوسيان، جبران خليل جبران، سمير الصايغ، شاكر حسن آل سعيد، شفيق عبود، ضياء العزاوي، فاتح المدرّس، لؤي كيالي، محمود حمّاد، محمود العبيدي، مصطفى فرّوخ، مصطفى علي، هيلين الخال وغيرهم العديد من الفنانين الأساسيين، اضافة الى مجموعة مميزة من أعمال صليبا الدويهي الفنية التي تشمل مختلف مراحله منذ مطلع الثلاثينات وحتى وفاته سنة 1994. وما يتضمنه المتحف هو مجموعة فريدة من نوعها من الرُقم المسمارية السومرية والبابلية والمسلات الفينيقية التي يرجع تاريخها الى الفترة ما بين 2330 و540 قبل الميلاد، وتروي هذه الرُقم والمسلات حكايات ملحمية وتوفر دلائل على النظم الاقتصادية، ومعلومات عن الجماعات العرقية وخرائط المدن والعادات والرموز القديمة. وتحتوي المجموعة عدداً كبيراً من الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية التي تعود الى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين،

كما يضم المتحف مكتبة تحوي كتباً عن الفن، وعلم الآثار، والتاريخ، والجغرافيا، والرحلات ومجموعة من المخطوطات النادرة.

وأضاف:

- لقد قام الفنان العراقي ضياء العزاوي بالتعاون مع الفنان العراقي الكندي محمود العبيدي بتصميم واجهات المتحف من الفولاذ المقاوم للتآكل الذي تظهر عليه نقوش ورسوم بارزة تستند الى معجم بصري أعدّه العزاوي على امتداد سيرته المهنية الطويلة في الرسم والنحت والطباعة. وقد عمل العبيدي على ان يبقى شكل المتحف مكعباً بسيطاً يتضمن مساحة داخلية مفتوحة يمكن التحكم بها بما يتلائم مع برامج المعارض والأنشطة الفنية. ويوفر المتحف للفنانين الممارسين مساحة للعمل والعرض والسكن، وهو يعزز الحوار البناء ويبث في النفوس روح الانتماء المجتمعي ويشجع الفنانين المحليين على انتاج المزيد من الأعمال الفنية الراسخة في تاريخ المنطقة او الناقلة والمتنقلة بين ثقافات وتقاليد البلدان المتنوعة.

تصميم المتحف!

ــ وماذا عن تصميم المتحف؟

- تم تصميم متحف <نابو> بمقاربة جماعية من مهندسين وفنانين، على هيئة مكعب مستطيل الشكل سهل وواضح البنية وذي علاقة جوهرية بالهندسة ومفاهيم الكمال. ان الصور والأشكال المستخدمة في التصميم مستوحاة من اهتمام ضياء العزاوي بفن الخط كعناصر سيمائية مجردة، كما ان اتخاذ قرار استخدام الفولاذ المقاوم للتآكل او المعدن للواجهة أثناء نقاشه مع العبيدي حوّل البناء الى منحوتة، وقد ساهمت رؤية محمود العبيدي والتي تجمع بين الابداع والفهم العملي للهندسة المعمارية في انشاء هذا المبنى المميز في الهري. في البداية كان من المقرر استخدام الصخر المتوافر على نطاق واسع في المنطقة المحيطة وفي عدد من العمارات المحلية، ثم قُدم اقتراح آخر باستخدام الخرسانة الا ان العبيدي قرر أخيراً اعتماد الفولاذ المقاوم للتآكل، ويعتبر الفنان والمهندس المعماري ان هذه المادة من الخصائص الفريدة وأنها تشكل أداة نحتية، ما يجعل استخدامها في الهري أكثر اثارة للاهتمام من أي مادة أخرى، وان اختيار الفولاذ المقاوم للتآكل مرتبط ارتباطاً كاملاً بالبحر اذ ان ألوانه تتغير عند التعرض للرطوبة، وان وقوع الاختيار النهائي على هذه المادة له معنى شعري وعملي اذ انه ساهم في تحديد شكل وقالب ولون المتحف في آن واحد، وكان الهدف من ذلك خلق مساحة فريدة من نوعها من دون التعرض للمنظر الطبيعي، وقد صُنع الباب الرئيسي من الزجاج الممتد الى الطابق العلوي بحيث يستطيع المرء من خلاله رؤية الأفق البحري.

ويتوقف عند نقطة قائلاً:

ــ تبين لنا التحف الفنية من أدوات يومية ووثائق مثل الرُقم المسمارية والبابلية والمسلات الفينيقية أنه لطالما رافقتنا بعض أشكال العولمة، وذلك قبل اختراع الكمبيوتر او الانترنت بفترة طويلة. وأتساءل هنا لماذا لا ينتبه اولئك الذين ينظرون الى تاريخ الغرب باعتباره تاريخاً عالمياً الى الأشكال الأولية للعولمة قبل المطابع وحتى قبل اكتشاف العالم الجديد؟! ومن بين الأمثلة العديدة للعولمة يمكن للمرء ان يذكر العصر الروماني الهلنستي وصولاً الى الأندلس. ان الاهتمام بآثار بلادنا وبالفن الحديث هو بالنسبة الي مسعى فكري وشغف مكّنني من اكتشاف أهمية هذه التحف الفنية عبر اجراء بحوث علمية لمعرفة وقائع التاريخ كما هي دون تخيلات. ويهدف هذا النشاط أيضاً الى التقدم خطوة الى الأمام في ملء الفراغ الثقافي والى العمل لمستقبل أكثر اشراقاً للأجيال القادمة. وبصفته مؤسسة ثقافية سيكون المتحف ملاذاً آمناً للفنانين النازحين والعابرين حدود الثقافات والأمم ومختلف أشكال الفنون. لقد أبدع الفنانون المنفيون بهدف تحويل حالتهم الى حالة رمزية أخرى حيث ان المنفى وفقدان الوطن ليسا مجرد علامات للهجرة بل ايضاً اشارة الى المنفى الداخلي وهو أشد أنواع النفي. ويُتوخى من <نابو> ان يكون مركزاً ثقافياً لتيسير وتسهيل الانتاج والتعاون بين الثقافات. ولقد حان الوقت لأن نكتب تاريخنا كما هو ونعزز الحوار من أجل الأجيال القادمة. ولو أعدنا النظر في القرن العشرين فسيكشف لنا الوعي التاريخي عن حجم الكوارث التي ضربت العالم وكيف ألقت بظلالها على القرن الواحد والعشرين، انطلاقاً من <وعد بلفور>، الى المأساة الفلسطينية، ومجازر الحربين العالميتين، وحروب الهيمنة في شرق آسيا وجنوبي أميركا، والقنابل الذرية في اليابان، والحرب الأهلية اللبنانية، وحروب تدمير ونهب آثار العراق وسوريا، والتي تشكل سلسلة من الفظائع التي ارتكبها الانسان ويظهر فيها العالم كمجموعة من المهاجرين والمنفيين والسجناء. لدينا الكثير لنتعلمه من الفلاسفة الرواقيين، فهم يساعدوننا على التصدي للتحديات الجديدة التي قد نواجهها عند اجراء حوار أخلاقي او وجودي، وهذا الحوار يمنحنا الجرأة الكافية لمواجهة أسوأ ما يمكن ان تخبئه لنا الأيام، وما يتعلق بمكانة الانسان والبيئة الطبيعية، والمسؤولية التي نضعها على عاتقنا.

 

زوار المتحف!

ــ الى اي مدى لاقى المتحف اهتمام الناس؟

- في الحقيقة يستقطب المتحف اللبنانيين من كل المناطق والفئات، اذ حتى اليوم زاره تقريباً 5 آلاف شخص، وطبعاً يزوره السياح الأجانب أيضاً. وقد قالت لي سفيرة سويسرا في لبنان: ما قمت به هو سويسراني، وعندما سألتها ماذا تعني أجابت انني اشبه السويسري في هذا الخصوص لأن السويسري عندما يكون لديه المال يقدم على عمل يفيد المجتمع والبلد من ماله الخاص. وهناك اهتمام من قبل اللبنانيين بهذا المتحف منذ افتتاحه وهذا يعني ان هناك اهتماماً بالثقافة والتاريخ والحضارات،

وسنعمل مع المدارس لكي تأتي بتلاميذها الى المتحف ليتعرفوا على مقتنياته.

ــ الدخول الى المتحف مجاني فكيف سيتوفر المال للمتحف لكي يستمر بنشاطه؟

- هذا صحيح الدخول مجاني وسيبقى كذلك، بالنسبة الي ما يهمني ان يقصده اللبنانيون من مختلف الفئات والطبقات للتعرف على ارث الحضارات القديمة في منطقتنا. طبعاً هناك مصاريف ويحتاج المتحف للدعم المادي ليستمر ولكن ما يهمنا بالدرجة الأولى ان يقصده الناس ويتعرفوا على محتوياته لاستكشاف الماضي والشعور بالأمل لبناء مستقبل أفضل لهم وللأجيال القادمة.

 

دعم وزارة الثقافة ووزارة الداخلية!

ــ وهل كان هناك تجاوب وتعاون من قبل الدولة والوزارات المعنية لانشاء المتحف؟

- لمسنا الدعم من قبل الدولة اللبنانية منذ انطلاقة فكرة انشاء المتحف، إذ منحتنا وزارة الثقافة الموافقة للقيام بهذا المشروع، وأيضاً وزارة الداخلية وفرّت لنا الغطاء القانوني لنتمكن من ادخال القطع الى لبنان اذ لم يكن الأمر سهلاً لولا دعم وزارة الداخلية. وأود ان أنوّه بما قام به وزير الثقافة السابق روني عريجي الذي كان قد أصدر مرسوماً يشجع فيه ويقونن مسألة الاشهار والتسجيل للمجموعات الخاصة الموجودة في المستودعات والمنازل.