ليس الوقت وقت مديح. وليس الوقت وقت إشادات فارغة. ولكن إعلان رئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي عن صندوق <ثمار طرابلس> هو الخطوة الأولى في الإتجاه الصحيح على صعيد طرابلس ولبنان وحتى المنطقة. من السهل لعن <داعش> والتبرؤ منها ومن أعمالها المخزية بحق الإسلام قبل أن تكون بحق المسيحيين في العراق. ومن السهل الكلام المفرط عن الإعتدال والتمسك بالعيش المشترك والصيغة اللبنانية. ولكن في غياب مبادرات على الأرض تحارب بذور التطرف وليس نتائجه يبقى الكلام مثل محاربة طواحين الهواء مهما علا صوت صاحبه وكثر المصفقون له.
أخطأ الرئيس ميقاتي في قبوله ترؤس حكومة كيدية قامت على إخراج الرئيس الحريري بـ«تهمة> شهود الزور. ولم يكفِ تمويل المحكمة الدولية الخاصة بإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لإلغاء الخطأ. وأخطأ أيضاً عندما تهاون مع الوضع المتفلت في طرابلس من الباب المذهبي، وراكم الأخطاء في شعار النأي بالنفس الذي تحول إلى موازنة بين دعم النظام ودعم المعارضة في سوريا بدل ان يعني الانكفاء عن الاثنين. ولكنه من خلال <ثمار طرابلس> وضع حجر الأساس لدور سياسي متجذر له قوامه ضرب الخلل الإجتماعي الفادح في طرابلس والشمال.
ومراقبة مسيرة الرئيس ميقاتي السياسية ستستلزم متابعة أعمال الصندوق وإنجازاته. ولو كان المجاهرون بالحرص على الفيحاء صادقي النوايا لانضموا إلى <ثمار طرابلس> أو على الأقل نافسوه عبر مبادرات مماثلة. فبدل أن يقتصر دعم طرابلس على ٢٥ مليون دولار يمكن أن ينمو إلى ١٠٠ مليون دولار ويحول عاصمة الشمال إلى نموذج حقيقي للتنمية المستدامة. وقتئذٍ لن يكون هناك مكان لـ«داعش> وأخوا
تها. وجمعية المصارف في مقدّمة المدعوين إلى الإنضمام إلى مبادرة ميقاتي أو إلى مثلها بأي طريقة ترتئيها لأن موجة التطرف الجارفة التي لم تتردد في استباحة بنوك الموصل تحلل إستهداف المصارف عند أول فرصة ممكنة.
صندوق ميقاتي لا يمثل فقط السلاح الناجع في مواجهة التطرف الآتي إلينا على الحصان المذهبي بل هو الطريق الإنمائي الأسرع في ظل عجز الدولة في الوقت الحالي و حتى في المستقبل. فالأرقام الآتية من الخزينة لا تنبئ بأي إمكانية للإنماء الحقيقي في لبنان لسنوات عديدة مقبلة. الدين العام أصبح يشكل رسمياً مرة ونصف الناتج المحلي أي أن ديننا يساوي ١٥٠ بالمئة من انتاجنا السنوي. كلفة هذا الدين تزيد عن سبعمئة مليون دولار سنوياً أي عشرين مليون دولار يومياً، حوالى نصفها يذهب إلى المصارف اللبنانية. الأعباء المتمثلة في إيواء النازحين السوريين تفوق الثلاثة مليار دولار سنوياً. العجز في مؤسسة كهرباء لبنان يتجاوز ملياري دولار كل سنة. أما السلسلة فحدث عنها ولا حرج لأن كلفتها على الخزينة لن تقل عن ملياري دولار سنوياً. ومع تلاشي النمو الإقتصادي هذه السنة أيضاً أي تراجع الموارد لن تتمكن الدولة من الإنفاق في أي خط انمائي جدي.
في ظل كل هذا العجز والذي لن ينتهي بين ليلة وضحاها أصبح من واجب القطاع الخاص اللبناني وبالتحديد القطاع المالي والمصرفي أن يتدخل مباشرة في أعمال انمائية حقيقية. وعلى طريقة الرئيس ميقاتي، يمكن للبنوك أن تؤسس صناديق للبلديات تشرف هي على الإنفاق فيها وتشمل مبادرات إجتماعية وإقتصادية. فعندما تكون معظم أرباح المصارف ناتجة عن خدمة الدين العام التي يدفعها المواطنون فمن حق هؤلاء أن يستفيدوا من ذلك عبر خطة انمائية تقودها جمعية المصارف. حتى أعمال البنية التحتية التي أصبحت أكثر من ملحة والتي لن تتمكن الدولة من القيام بها يمكن للبنوك اللبنانية أن تطلقها عبر شراكة مباشرة مع مجالس الدولة المختلفة كمجلس الإنماء والإعمار والذي في أدراجه مئات المشاريع الضرورية والجاهزة للتنفيذ.
القطاع المصرفي هو من أنجح ما حققه القطاع الخاص اللبناني. تشكل بنيته وتنظيمه وملاءته الصورة المعاكسة لصورة الدولة اللبنانية. من الصعب تخيل أي حل حقيقي في لبنان، إن على الصعيد الإجتما
عي أو الإنمائي أو الإقتصادي، من دون دور تنفيذي للبنوك اللبنانية يكون صنواً ورقيباً للدولة. من دون ذلك لا تلومنّ اللبنانيين الذين يمكن أن يروا في <داعش> مع الأسف باب الخلاص الوحيد .