بقلم عبير انطون
[caption id="attachment_83764" align="alignleft" width="284"] العزلة والابداع.. مجد رمضان[/caption]قيل قديماً "العلم في الصغر كالنقش في الحجر" ويمكن أن نضيف اليها اليوم، أن العلم في الكبر، أو بعمر متقدّم في السن لهو أيضاً متعة وفائدة وغوص في بحور ربما لم تسمح الظروف السالفة بسبرها، وهي أيضاً تشغيل للفكر وتنمية لمواهب كامنة، وإنماء لعلاقات بين "طلاب" يستزيدون من العلم والثقافة على الرغم من ان بينهم من هو في أرقى الاختصاصات وحاملاً لارفع الشهادات. من هذا المنطلق، لم تتوقف "جامعة للكبار" حيث "التعلم لمتعة التعلم" في الجامعة الاميركية في بيروت عن الاستمرار في نشاطاتها ومحاضراتها المتنوعة، وما زالت تستقطب الاهتمام على الرغم من الظروف الحالية، حيث باتت،حتى متعة العلم، مزنّرة بكل أنواع الضغوط والصعوبات .
فكيف ولدت فكرة التعلم لمن هم "فوق الخمسين" وما الذي تقدمه للمنتسبين اليها ؟ ما هدف الطلاب منها وما أكثر ما يختارونه من مواد؟
تعود الفكرة الى العام 2010، الا انها وضعت فعلياً قيد العمل في العام 2013، حيث افتتحت الجامعة الاميركية في بيروت قسماً خاصاً بكبار السن أطلقت عليه اسم "جامعة الكبار"، وهو برنامج تعليمي رائد يوفّر فرصاً تعليمية وثقافية للبالغين (أعمارهم 50 عاماً فما فوق) ويقدم مجموعة متنوعة من الأنشطة بينها مجموعات دراسية ومحاضرات وبرامج سفر ثقافية وأنشطة بين الأجيال مع طلاب الجامعة، والأهم انه يقدّم فرصة مميزة للمتقدّمين في العمر للبقاء في حالة ذهنية محفّزة وليبقوا أعضاء فاعلين في المجتمع.
وبحسب الرؤية التي وضعتها، تهدف جامعة "كبار السن" إلى خلق وجه جديد وإيجابي للشيخوخة في بيروت ولبنان ومنطقة الشرق الأوسط، حيث يظل البالغون لهذه الأعمار منخرطين فكرياً واجتماعياً ، ويتمتعون بالطاقة لتعلم أشياء جديدة، فيساهمون بنشاط في مجتمعاتهم، وتمنحهم الفرصة لتبادل "الحكمة والعاطفة والتعلّم".
هذه المبادرة ، الأولى من نوعها في لبنان والشرق الأوسط هي باختصارمبادرة للتعلّم مدى الحياة، ويعود الفضل في إطلاقها إلى البروفيسورة سينتيا مينتي والبروفيسورة عبلة سباعي من كلية الصحة العامة في الجامعة الأميركية.
وفي اطلاق المبادرة تقول المؤسستان:
" منذ عدة سنوات، بدأنا في استكشاف فكرة إنشاء برنامج في الجامعة الأميركية في بيروت لكبار السن من شأنه أن يلبي تطلعاتهم للبقاء منخرطين
[caption id="attachment_83768" align="alignleft" width="275"] والمؤسسة سينتيا منتي[/caption]فكرياً واجتماعياً. فكرنا في برنامج يشجع الجميع على مشاركة ما يعرفونه وتعلم أشياء جديدة. ربما سمعتم عن برامج مماثلة في بلدان أخرى: جامعات السن الثالث ، ومعاهد التعلم في التقاعد ، وكليات كبار السن. درسنا هذه التجربة بعناية ، وزرنا برامج مماثلة في الولايات المتحدة واختبرنا الوضع هنا في بيروت من خلال مناقشات جماعية واستطلاع رأي لخريجي الجامعة الأميركية في بيروت، وأصبحنا مقتنعين بأن الفكرة ستلقى ترحيباً حاراً هنا، وولدت جامعة كبار السن وأطلقنا أولى أنشطتنا التجريبية في ربيع عام 2010".
وبحسب المؤسستين، وقفت خلفيات عدة وراء تأسيس جامعة للكبار، يمكن تلخيصها كالتالي:
أولاً، إرتفاع متوسط معدلات الحياة في لبنان الذي يناهز الـ72، وقد بيّنت الإحصاءات أنّ 20 في المئة من سكّان لبنان أعمارهم 50 سنة وما فوق، وهي نسبة عالية مقارنة بباقي الدول العربية.
ثانياً، أجرت الجامعة دراسة ميدانية لمحيطها تناولت تحديداً منطقة رأس بيروت، وأظهرت الدراسة أنّ معظم كبار السن يعانون الوحدة والضجر والقلق بعد هجرة أولادهم أو مغادرتهم المنزل للسكن في منزل آخر.
ثالثاً، أثبتت الدراسات العالمية أنّ التقدّم في العمر مع استمرار النشاط الفكري والجسدي، يجنّب الكبار الأمراض الفكرية والنفسية والجسدية.
وتختلف "جامعة الكبار" عن غيرها من برامج التعليم المستمر فلا امتحانات فيها ولا شهادات تعطى في نهاية كل فصل. اما البرنامج فإنه يشمل مجموعة من النشاطات تشمل مجموعات الدرس والاهتمام الخاص التي يغطّي مواضيع مثل السياسة والتاريخ والصحة والفنون والبيئة والتقنيات الجديدة والطبخ، الى غيرها العديد...
خبرات وصداقات ...
من جهتها، توجز مديرة البرامج في "جامعة الكبار" ماي ابي شاهين ان الهدف الأول هو التعلّم من الأقران، فكل شخص ملمّ في موضوع أو مادة معينة بإمكانه تدريسها ومشاركتها مع كبار السن، أما أساتذة المحاضرات فهم من المتطوعين. والهدف الثاني هو بناء المجموعة، أي أنّ المنتسبين إلى الجامعة أصبحوا أعضاء في مجموعة تتفاعل بعضها مع البعض الآخر وتتشارك الخبرات وتنسج الصداقات في ما بينها .اما الهدف الثالث فهو التواصل بين الأجيال من خلال الجمع بين طلاب الـجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الكبار عبر أنشطة أكاديمية ولا صفية (كصف الكومبيوتر، وصف مواقع التواصل الإجتماعي، وسلسلة أمسيات لتبادل الخبرات بين الجيلين ولمناقشة أبحاث ودراسات أعدّها الطلاب...)
اما عن قرارها في الانضمام الى جامعة الكبار، فتقول ابي شاهين ان رؤيتها الفريدة من نوعها في لبنان والمنطقة جذبتها، وأكثر ما يذهلها هو رؤية مقدار هذا البرنامج الذي يضيف إلى حياة الأعضاء ، سواء كانوا يحضرون العروض أو إلقاء محاضرات أو كونهم جزءاً من لجنة. وتشير أبي شاهين الى أن "البرنامج يتميز بإعطاء فرص متكافئة لنشر مفهوم التعليم المستمر عند كبار السن، لافتة الى أن "المنتسبين إلى ا
[caption id="attachment_83766" align="alignleft" width="446"] صادق الصباح وقصة كفاح.[/caption]لبرنامج يتوقون من خلاله إلى قضاء شيخوخة ناشطة ذهنياً وصحياً وجسدياً واجتماعياً ".
ورأت ابي شاهين أن "البرنامج عزز حق كبار السن في معرفة كل شيء من حولنا ومتابعته بتفاصيله المملة". كما ركزت على "القيمة المضافة للبرنامج الذي يلبي تطلعات جمهوره من خلال جذب العنصر الطالبي في جامعتنا للتطوع في تعليمهم كيفية استخدام وسائل التواصل الإجتماعي مثلاً"، وأوضحت أن "برامج كل فصل منفصلة عن الفصل التالي"، ويمكن حالياً المشاركة عبر الانترنت بسبب جائحة كورونا".
يعتمد البرنامج، بحسب أبي شاهين، على اقتراحات المنتسبين لجهة اختيار المواد والأساتذة، ووفق ما يرونه مناسباً كإدارة، مع مواكبة للتطورات في العالم. من هنا، يتضمن كل فصل باقة من المواد والمحاضرات تختلف عن الذي سبقه، نذكر على سبيل المثال: سوسيولوجيا الديانات، الفن الإسلامي، الكومبيوتر، مواقع التواصل الإجتماعي، التصوير الرقمي، منتدى الرواية العربية، سلسلة محاضرات عن الموسيقى، سلسلة محاضرات عن الشيخوخة الصحية، الموارد المالية، دور الجامعة الأميركية خلال القرن العشرين، فضلاً عن أمسيات شعرية...
وتضيف أبي شاهين: تطال مواد البرنامج جميع شرائح المجتمع اللبناني، وهم يأتون بشغف للتعلّم مع استعداد فكري وانفتاح كلي لتلقي المعلومات. ننظر في لبنان والبلدان المجاورة إلى كبار السن على أنهم فئة غير قادرة على الإنتاج أصبحت عالة على المجتمع، وهذا مفهوم خاطئ. فما نصادفه مع المنتسبين إلى جامعة الكبار يدل على أنّهم يملكون خزاناً من المعرفة والخبرة والصحة الجسدية، من الممكن أن يستفيد منها المجتمع.
من ناحيتها تشرح منسقة البرنامج في الجامعة اماني زيدان انها انضمت لأول مرة إلى جامعة كبار السن في مراحلها الأولى ، حيث كان لا يزال ناقش جدوى إنشاء برنامج بهذه الروح في الجامعة الأميركية في بيروت. كانت الفكرة رائعة بالنسبة لها بمعنى أنه يمكن لأي شخص فوق سن الخمسين ان ينتسب ، وقد أثر البرنامج حقاً بشكل إيجابي في حياة الكثيرين وغيّرها.
خريف وربيع ...
[caption id="attachment_83765" align="alignleft" width="375"] رمضان ترسم بيروت[/caption]ينقسم البرنامج في جامعة الكبار إلى فصلين: الأول يبدأ في الخريف والثاني في الربيع، مدة كل فصل 8 أسابيع، والشرط الوحيد للتسجيل في البرنامج، أن يكون عمر المنتسب 50 سنة وما فوق، وليس بالضرورة أن يحمل شهادة جامعية أو أن يكون ملمّاً باللغة الإنكليزية، وهو يستطيع اختيار ما يناسبه والمشاركة في كل الصفوف.
واذا ما كان طلاب الجامعة يتنوعون ما بين رجال ونساء ، وما بين سني عمر مختلفة (وصلت أعمار بعض المشاركين في العديد من الفصول إلى 87 سنة ) فإنهم أيضاً من جنسيات مختلفة ، كإحدى الطالبات التي سبق وانتسبت للجامعة وهي أردنية مقيمة في لبنان وحائزة شهادتي الصيدلة (العام 1972) والأدب العربي (العام 2005) من الجامعة الأميركية، كما انتسب الى "جامعة الكبار" طبيب جراح وجد متعة وإفادة في متابعة بعض الصفوف في جامعة الكبار هروباً من متاعب المهنة اليومية التي تأخذ معظم وقته ويجد في الإصغاء فنّاً "ففي الحالتين نتعلّم أشياء جديدة، المهم أن نحب ما نقوم به".
و"كورونا" لم تغب...
[caption id="attachment_83767" align="alignleft" width="250"] مؤسسة جامعة للكبار عبلة سباعي[/caption]الى مختلف أنواع المحاضرات التي سبق ذكرها، فإن مروحة هذه تتنوع جداً وكان بينها مؤخراً ما تناول الشعر والاغاني وصولاً مثلاً الى نظام الكيتو في الطعام ، والى الشيخوخة والتعامل معها ،حتى ان الـ"كورونا" لم تغب، وفي هذا الاطار قدمت الفنانة التشكيلية مجد رمضان منذ مدة وجيزة مشروعها الفني الذي يتضمن معرضاً ومحاضرة عن "العزلة والإبداع". والمعرض هو فني إلكتروني يهدف الى اضفاء وجه ايجابي للعزلة من خلال اكتشاف مواهب وطاقات دفينة وتحويل هذه المرحلة الى فرص من التجدد والابداع. واعتبرت رمضان ان "العزلة هي عزلة الجسد لا عزلة الروح، والرسم هو احد وجوه العزلة الجميلة، والفن يقدس العزلة، وان كان لها شرف الإشراف والتدريب لمجموعة من أعضاء جامعة الكبار".
وقد عرضت الجامعة المعرض الفني الإلكتروني الأول لمجموعة من ذوي الموهبة العالية في الفن التشكيلي على موقعها وتم استثمار الوقت لصالح الجمال، واللون لصالح الضوء والخسارة لصالح الربح والعزلة لصالح الحياة، فكانت تجربة لتهذيب النفس والوجدان والمحافظة على التجدد وشغف الجمال فينا واليقين ..حيث جميع الطرق تؤدي إلى ذواتنا.
كما تحدثت رمضان عن التحديات والصعوبات في التعامل مع كل جديد فرض علينا في هذه المرحلة المفاجئة، فقالت إن الحدث الفريد من نوعه في الشرق الاوسط تميز بطريقة تصوير اللوحات ومدى خبرة كل منهم من حيث الدقة والجهوزية والجودة ومن ثم معالجتها تقنياً تماشياً مع التكنولوجيا الإلكترونية للعرض في صالة فخمة ثلاثية الأبعاد تسمح للمشاهد التجوال في أنحاء المعرض حيث رهافة اللون والموسيقى الفيروزية.
وكفاح الصباح...
الى رمضان، ومن بين آخر اللقاءات الخاصة التي قدمتها الجامعة لطلابها كان لقاء مع رئيس مجلس إدارة شركة "الصبّاح إخوان" السيد صادق الصبّاح ليروي قصة نجاح هذه الإمبراطورية المستمرة منذ ٦٦ عاماً.
وفي كلمته أمام أكثر من مئة وخمسين طالباً تحدث الصباح عن الإرث الكبير الذي ورثه وكيف حافظ عليه طوال أربعين عاماً ضمن المبادىء الأساسية للشركة، مع معاصرة التقدم الذي يحرزه الإنتاج السينمائي والدرامي عربياً وعالمياً ، وقد اختار عنوان محاضرته "قصة كفاح" بدل قصة نجاح نظراً للصعوبات التي واجهتها الشركة خصوصاً خلال الحرب اللبنانية. أما التحدي الأكبر فكان دخول السوق العربي ومن بعدها نشر المصنّف اللبناني الذي أثبت نجاحاً باهراً، حتى كرّت السبحة من بعده لتصبح الإنتاجات اللبنانية على مستوى عالٍ من الجودة وتنافس الأعمال العربية وصولاً إلى جائحة "كورونا" التي كانت قاسية في البداية قبل أن تتعايش معها عجلة الإنتاج. وتحدث الصباح عن التوازن العائلي الذي حققه وانه يستمد القوة اليوم من أحفاده الخمسة ويرى في عيونهم مستقبل لبنان الذي يأمل أن يكون زاهراً ومستقراً، متطرّقاً ايضاً إلى أهمية لغة التواصل بين جيله وجيل اليوم وكيف يمكن أن يثمر هذا التواصل نجاحات إستثنائية تحاكي كل الفئات، خصوصاً جمهور المنصات الرقمية .