بقلم عبير انطون
لما غنّت فيروز للمرة الاولى على مسرح <الاولمبيا> في باريس العام 1979، كان <فريديريك ميتران> وزير الثقافة الفرنسي السابق في الثانية والثلاثين من العمر. لا ندري إن كان انبهاره بها وحبه لصوتها يرجعان الى ذلك التاريخ، ولا نعرف إن كان بين المستمعين إليها في الدار المسرحية الفرنسية العريقة حينئذٍ الا ان ما ندركه تماماً اليوم ان <فريديريك ميتران> خرق باحتراف كبير حميمية رمز قارب الاسطورة، رمز قليل الكلام والإطلالة والبوح..
<فيروز> هكذا عنون المخرج الفرنسي فيلمه الوثائقي الذي عرض في باحة المركز الثقافي الفرنسي الأسبوع الماضي كتحية جميلة تكريماً لهذه الفنانة العملاقة ولمسيرتها الفنية. هو ليس العرض الاول للفيلم المنتج العام 1998 على مدى اثنتين وخمسين دقيقة من نبع الارشيف الغني واللقاء النادر والشيق بالنجمة، وهو ليس الاول أيضاً في سلسلة افلام أنتجها <فريديريك ميتران> المأخوذ بسير الكبار والذي وثق سيرهم في افلام مختلفة.
<فريديريك ميتران> ليس رجل دولة فقط ولا وجهاً سياسياً في الحياة العامة الفرنسية، هو وقبل اي شيء رجل ثقافة وفن وإعلام عمل في التمثيل والإخراج والتقديم. ابن أخي الرئيس الفرنسي السابق <فرنسوا ميتران> المعجب بـ<ديغول> وإنجازاته. عين وزيراً للثقافة والتواصل في العام 2009 في حكومة <فييون> وهو مؤمن أشد الايمان بحوار اللغات والثقافات ما بين فرنسا والبلاد العربية بشكل خاص بعد ما سمي بالربيع العربي حيث دعا <ميتران> فرنسا للحديث جدياً عن جسور جديدة بين العالمين وبشكل خاص الجسور الثقافية، ذلك ان الديناميات الثقافية بين اوروبا والعالم العربي تشكل جزءاً من القلب النابض للعلاقات ويجب إعادة التأكيد عليها حالياً.
لماذا فيروز؟
لأن <ميتران> من مدمنيها كما يقول هو بنفسه، وهو يضع تجربتها مع الرحابنة في مصاف التجارب الإبداعية العالمية. المستشار الاعلامي في السفارة الفرنسية في بيروت <جان كريستوف اوجيه> نقل لـ<الأفكار> شغف المخرج ببلدنا ونجمته: <السيد <ميتران> ليس معنا اليوم إنما اعرف كم هو يحب لبنان ومتعلق به. هذا الفيلم هو أكبر دلالة على ذلك. بالطبع السيدة فيروز شاهدت الفيلم وأعتقد انها كانت ممتنة>.
تعقّب <فريديريك ميتران> فيروز منذ كانت الطفلة نهاد حداد بدءاً من الطفولة والنشأة في البسطة حيث يصر الموجودون في المكان على التذكير بأنها ابنة حيّهم وان كان أهل زقاق البلاط يعتبرونها لهم. على مسارين متوازيين اشتغل <ميتران> فيلمه: جانب سياسي يذكر بأهم المحطات التي مرّ بها وطن الارز، آخذاً على اللبنانيين جنّة ضائعة لم يحافظوا عليها، وجانب إنساني عن نجمة فيلمه وهي في مسيرتها تختصر يوم كانت طفلة كل اللبنانيين الهانئين السعيدين ما بين ضيعة وبحر.
<الماضي ما بيفلّ!>
جاء <فريديريك ميتران> الى لبنان في العام 1997 للبحث في تفاصيل فيلمه وإعداده، و كان البلد ورشة كبيرة. على صور ما بعد الحرب اللئيمة حيث الورش و<دينامية الحياة اللبنانية> كما يصفها، معطوفة على صور من الحمرا والأشرفية، يفتتح <ميتران> فيلمه ويبدأه من أحد أحياء بيروت الشعبية، من ذاك البيت الذي ذكر <فيروزته> بالكثير لتقوله من على أريكة زرقاء في منزلها الحالي وخلفها صور أولادها والعائلة:
نسمع فيروز على الشريط الوثائقي تقول:
- <الماضي ما بيفل لمطرح.. الذاكرة بتدقّ بالماضي وفيه اشيا حزينة واشيا حلوة كتير>.. من هذا الماضي، تسترجع ذكريات البيت العتيق: <كنت سعيدة، ما عندي شي من يللي عندهم إياه الأولاد بس كنت سعيدة. ما بعرف ليش، ما كان عندي راديو، فكنت اسمع الموسيقى من راديو الجيران. ما كان عندي اختيار شو بدي اسمع.. .اسمع يللي بيوصلني>.
وبروح فكاهية تزيد قائلة: <كنت أغني بصوت عالٍ، فينزعج جارنا صاحب الراديو وكل يوم يصرخ. مرة قال لي: لماذا لا ينقلون الإذاعة الى هنا.. بقيت هيك حتى فليت وريّحتو مني. كنت اسمع فريد الأطرش واسمهان.. تعلمت الموسيقى بالمدرسة من خلال الأناشيد وحتى بس غيب آخذ علامة من دون ترتيل مع الاولاد>.
نهاد حداد التي كانت تصطاف في بلدة الدبية والتي ولدت فيها العام 1935 كانت تفرح بزيارة عين الماء حيث تملأ الجرار. تشتاق لجدتها التي غنت لها والتي كانت قريبة جداً منها، تحكي لها الحكايات لتمضية الوقت حيث لا كهرباء ولا تسلية: <ضيعتي بتشبه طفولتي.. ما كنت العب مع الاولاد.. كنت اشتغل مع ستي بتنظيف البيت وتحضير الأكل، ونام بكّير... بس اتذكر الضيعة بتذكّر ستي.. طفولتي لم تعرف الهمّ>.
بالمــــــوازاة يصـــــور <ميـــــتران> بـــيروت زمـــــن الاربعينــــــات. كانت جميلة كحلم الفتاة الصغيرة التي لم تفكر يوماً بالغناء على المسارح ولا بالشهرة والمجد. تعلمت فيروز في <الكونسرفاتوار> وتــــوظفت في <كورال> الاذاعـــــة اللبنانيـــــة وتذكر انها غنت مـــــوال <يا ديرتـــي مالك علينا لوم> لاسمهان و<يا زهرة في خيالي> لأخيها فريـــــد الاطــــرش.. <كنت من البيت الى الاذاعــــــة ومـــــن الاذاعــــــة الى البيت>.
<ما اخترت شي!>..
تعرفت فيروز الى عاصي ومنصور الرحباني، عملاقان غيّرا الكثير في الفن اللبناني والعربي. استرجعت فيروز ايام الثلاثة معاً: فن عاصي ومنصور لم يكن كالفن الذي كنا نسمعه عادة من حيث الجملة الموسيقية اللبنانية مع النفحة الغربية، وكان هذا مختلفاً عما كان معروفاً عربياً>. في كانون الثاني/ يناير من العام 1955، تزوج عاصي وفيروز... <كان هوي سريع العطاء وأنا سريعة التلقي.. عملنا كان حياتنا. اعيش حياتي في فني فقط.. كان لازم هالقرب العائلي يصير حتى يسمح لهالفن يعيش اربع وعشرين على اربع وعشرين>.
وعن عاصي تزيد فيروز في
الشريط الوثائقي:
- <عاصي كان صعباً في الفنّ وقاسياً. وأنا بنت هذه المرحلة القاسية. إصرار عاصي كان كبيراً، كان شايف فيي كل الأدوار اللي عطاني ياها، انا ما اخترت شي من يلي عملتو. لما يقرر شي كان يمشي فيه وما تهمو مواقفي.. مرات كنت قلو: ما بعرف احكي.. ما بعرف امشي.. عاصي خلق الموجة الفنية غير الموجودة. حينها ما كنا محبوبين أبداً.. بس هالشي ما طوّل.. لم نهتم بما قيل عنا على الرغم من انه كان قاسياً جداً.. كنا نشتغل كتير ما نعرف انو طلع النهار الا من الضوّ. الساعة ما الا مطرح بعملنا.. ومرت سنوات هيك. بوجود عاصي ومنصور بدأ درب العمل سوا. وشعرت انني في مكان أحبه، أحبه جداً، مطرح كنت أفتش عليه من دون ان أعرف. وصار يكبر ويتسع من الاغنية الى المسرحية والقصة الكبيرة.. صار عملنا أوسع وأحلى وإعجابي بهما يكبر...>.
وبنسمة من الدعابة أخبرت فــــــــيروز عن حفلتهـــــا الاولى في أمــــــيركا :
- <ذهبنا واستخف بنا المتعهد. ما كان منيح. أعطانا غرفة صغيرة للتمارين. اقترب مني عاصي وقال: <لو ما إجا حدا عالحفلة بتوقفي وبتغني>.. قلتلو <كيف بدي غني>؟.. قلي <ما عليكِ: انت غني..>. في السهرة تفاجأت ان الصالة اكتملت وكانت أصداء الحفلة وكتابات الصحف في اليوم التالي ممتازة واستمرت الجولة الرائعة>.
في خضم كل ذلك، كانت فيروز مشتاقة للأولاد، لزياد بشكل خاص، هذا ما يذكره <ميتران> في الفيلم.
الحجاب الشفاف..
لم يمر <فريديريك ميتران> على عز الستينات اللبناني مرور الكرام. وثق المرحلة بصور من الارشيف الجميل عن انتخاب ملكة جمال اوروبا في بلد الارز وصور لفيروز مع <شارل ازنافور> ( الآتي الى لبنان ولا نعرف ان كان سيزورها)، وسعيد عقل ووديع الصافي وصباح او <لا بلوند> كما سماها <ميتران>. <سيدة لبنان> وعنى بها فيروز، وجدها الصورة الابهى عن البلد في عز الازدهار و<البترودولار> والصحافة الحرة.. كوكب الشرق ام كلثوم، سمتها خليفتها على عرش الغناء، والموسيقار الكبير عبد الوهاب اتى خصيصاً الى لبنان ليلحن لـ<السيدة>، صورة بيروت المشرقة. والسيدة تؤكد: <كنت أستحي وأهرب.. ما كان بدي حدا يعرفني>. لطالما أحاطت فيروز نفسها بما سماه <ميتران> (le voile infranchissable) او الحجاب الذي لا يخترق.
كانت فيروز أولاً زوجة وأماً لأربعة أولاد رفضت لأجلهم السفر الى مصر ام الدنيا والفن، ما جعل المخرج هنري بركات يحضر الى لبنان لأجل افلامها. عن هذه الافلام تقول:
<اعتبر افلامي فيها كل ما نحبه من بيوت ومطارح وقصص وجبال وناس>.
ويلاحظ <ميتران>: في افلامها لا مشاهد عنف بل حب. حب البلد اولاً، ففيروز هي أيضاً ذاكرة جغرافية للبنان، هي رمز الوحدة والسلام في بلد منقسم. هذا اللبنان الذي انتشر ابناؤه في أصقاع الدنيا كلها وكانت تشكل لهم بحسب قوله في الفيلم <الجامع والنوستالجيا>. <اغنيتي تعبّر عني>، تؤكد فيروز.
<متل ما بيحب عاصي!>..
<مرض عاصي لم يكن سهلاً على النجمة. <مع مرض عاصي بلّشت حس اشيا كتير.. بالخوف.. كذا خوف. مش بس خوف عمل جديد ما يحبوه الناس، خوف عالطريق اللي مشيتها، خوف عليه وعلى حالي وعلى عملنا..>. ويكمل الفيلم ما يحزّ بنفسها: <البيكاديللي> أقفل.. ومات عاصي (في الحادي والعشرين من حزيران/ يونيو العام 1986). ببوح صادق تعقب فيروز: <غيابه أتعبني وجعلني أشعر بكل ما كان يحمله عني. وأنا كل ما بغنّي بيكون موجود بشخصه وبالأغنية. بفتكر عم أعمل اشيا متل ما هوي بحبها>.
لم تغب أغنية <الغضب الساطع> عن الفيلم مع تلبد سماء بيروت بالغيوم السوداء ويأتي التعليق: <لا تنتظروا سوى صمت فيروز>. لا يغيّب الفيلم اللجوء الفلسطيني الى لبنان. عرض صور الاحياء المهجورة والبنايات المهدمة والشوارع والقصف. في عز ذلك بقيت فيروز القلقة دائماً صامتة. لم تعد تعرف بلد طفولتها، فما يجري لا يشبهها. انتظرت طويلاً قبل ان تعـــــود للغناء في وسط بيروت العام 1994 بعد انقطاع عن إحيــــاء الحفلات الغنائية في لبنان منذ العام 1977.
ويركز الفيلم على محطة كبيرة ومهمة: بعلبك ومهرجاناتها. <أيام العز> هكذا تصفها فيروز وتزيد: <لبنان كان بأهم مراحله الجمالية والحياتية. ببعلبك، الغنّية بيتغير الاحساس الها، بعلبك بتوحي وبتضيف الى الفن والى الانسان، مكان فيه الكتير من الجمال اللي مر قبلنا..>.
في القلعة التاريخية غنت فيروز للمرة الاولى في العام 1957 واليها اخذتنا كاميرا <فريديريك ميتران>. لم يكتفِ بالصورة، انما اخذنا معه الى قلب غرفتها الرقم 17 في <اوتيل بالميرا> البعلبكي حيث كانت تنزل اثناء حفلاتها. مالك النزل المتواضع، وهو يصعد الدرجات لفتح باب غرفتها كان يحاكيها، يناجيها، يستحلفها بالعودة الى بعلبك المجد والكرامة. <أهلاً ست فيروز>، يقول لها وكأنها امامه يحدثها في حضرة غيابها الكبير عن الفندق، عن تلك الغرفة البسيطة التي تضم سريرين صغيرين. هي محطة مهمة، لا بل أساسية ربط فيها <فريديرك ميتران> مخرج الفيلم <سلام لبنان وأمانه الحقيقي> بعودة فيروز الى الغناء في بعلبك اذ يقول في لحظات الفيلم الاخيرة قبل ان يقفل على موسيقى أغنية <تاري الاحبة عغفلة بيروحو، ما بيعطوا خبر>: <لن يتضح فعلاً مستقبل لبنان إلا يوم تعود فيروز الى بعلبك>.