تفاصيل الخبر

في الخطوط الخلفية.. وجوه أخرى للثورة!

21/11/2019
في الخطوط الخلفية.. وجوه أخرى للثورة!

في الخطوط الخلفية.. وجوه أخرى للثورة!

بقلم عبير انطون

 

الساحات والجسور هي نجمة ما يشهده لبنان حاليا، ففي الساحات تعلو الهتافات ويجتمع الناس ويرفعون اللافتات، والى الجسور يتداعون، يفترشون الارض بأجسادهم حينا وببعض الأثاث أحيانا أخرى كما حصل عند <الرينغ>، ويشهدون على الكر والفر، وعلى التلاقي والتنافر، وعلى الموقف والموقف الآخر، وفي كل ذلك يعيدون الوصل مع هذه المساحات التي كانوا يمرون يوميا في جوارها من دون ان يخطر ببالهم انهم سيكونون على موعد معها لايامهم وانتفاضتهم.

فهل تعدّت هذه الجسور والساحات، التي ما مرّ يوم الا وذكرت مئات المرات من <ساحة الشهداء> الى <رياض الصلح> و<ساحة العبدة> و<دوار ايليا> الى <جل الديب> و<الكولا> و<الرينغ> و<الاوزاعي> وغيرها، مفهومها العام من اماكن تجمع ولقاء الى جسور رمزية تشكل تواصلا كان صعبا بالأمس القريب ما بين المنتفضين؟ وهل في هذه الساحات، وان في الخطوط الخلفية، وجوه اخرى للثورة؟ ومن اي نوع هي؟

 

عبور..!

 تختار الناس التجمّع عند الجسور عادة لانها تشكل نقاط عبور وبوابة لقاء بين المناطق، تقول المهندسة منى الحلاق في معرض ردها عن سؤال <الافكار>، وهي تكتسب رمزية خاصة في العديد منها. فجسر <الرينغ> وهو <جسر فؤاد شهاب> اكتسب مثلا رمزية خاصة مع الثورة لانه شكّل نقطة تماس بين المناطق في ايام الحرب، وهو معبر مهم من الجهة الشرقية لبيروت الى جهتها الغربية ولانه قريب من ساحات الاعتصام، كذلك فهو شهد مؤخرا على اعمال الكر والفر بين المتظاهرين والجهات الأخرى.

ونسألها، وهي المهندسة الضنينة على ذاكرة بيروت وابنيتها وارثها العمراني، وخاضت بشراسة معركة <البيت الأصفر> (مبنى بركات)، وكانت لها مساهمة في اعادة فتح حرش بيروت للعامة كما وايضا في مشاركة الجمعية الأهلية التي دعت الى الحفاظ على دالية <الروشة>، إن كانت هذه المحجة اليومية للمتظاهرين منذ اكثر من ثلاثين يوما قد اعادت الوصل ما بين اللبنانيين والمساحات العامة التي اعتبر البعض أنها ما عادت <تخصه> كأنها باتت غريبة عنه؟

بالتأكيد تجيب الحلاق، لكن أهم ما حصل في وسط بيروت تحديدا هو اعادة وصل الناس مع الاماكن العامة التي لم تكن مفتوحة سابقا كالتياترو الكبير (او «الغراند تياترو» أو «مسرح الأوبرا» الذي شيّد عام 1929 في شارع المير بشير وسط «البلد» بين اللعازارية وساحة رياض الصلح)، ومبنى <البيضة>. وانا كمهندسة اعمل مع الجمعيات التي تعنى بالتراث أجد ان الاضافة الأكبر للثورة أنها فتحت مكانين أساسيين في ذاكرة بيروت الثقافية وتحديدا عند وسط بيروت مغلقين منذ نحو 30 عاما، فالناس كانت تنزل الى الساحات في اكثر من مناسبة، لكنها المرة الاولى التي يدخلون فيها الى هذين المعلمين، وقد شهدنا على من يعزفون الموسيقى ويغنون في <التياترو الكبير> احياء لذاكرته المهمة، والامر عينه بالنسبة لمبنى <البيضة>، وبعض من دخلهما لا يعرفون سوى انهما رمزان للحرب شهدا على أسوأ جولاتها.

 بيروت العزّ.. !

 هنا تجدر الاشارة الى ان مبنى <التياترو الكبير> كان يعدّ من أفخم مسارح بيروت في حقبة الثلاثينات، وشكل جوهر العاصمة المشعة فنا وثقافة، ففيه جرى اول عرض مسرحي لـ<فرقة ماري بل وشارل بواييه> الفرنسية، وفيه تم العرض السينمائي الاول لفيلم <الوردة البيضاء> لعبد الوهاب، والفيلم الاشهر <ذهب مع الريح> لكلارك غايبل، ولا يزال صوت <ام كلثوم> يرن بين ربوعه باحتفالها الذي طبل الآفاق فيه منذ ثمان وثمانين عاما يوم صدحت «يا غائباً عن عيوني وحاضراً في خيالي، تعال هدئ شجوني طالت عليّ الليالي...» للملحن والعازف المصري الكبير محمد القصبجي الذي رافقها الى بيروت. وقد تميّز هذا المسرح بكونه دائرياً يشبه في هندسته المسارح اللندنية القديمة، أما مقاعده الـ706 الحمراء فكانت تشبه إلى حد كبير مقاعد مسرح «الأوبرا» في باريس، الى أعمدة وجدران ملونة أضفت على الصالة رونقا خاصا. كما وتميّز «التياترو» ببهو فسيح يتفرع منه درجان عريضان يؤديان إلى مقصوراته الفخمة وغرف الممثلين الفسيحة، إضافة الى النقوش والرسوم التي ملأت أرجاءه، كما تميّز مدخله الخارجي بزخارفه الأنيقة، وقد علته قنطرة منقوشة وأربع قناطر صغيرة تزيّن الواجهة الخارجية، فيما غلبت البساطة على ديكوره الداخلي.

وقد عزز <التياترو> بتقنيات تتطابق مع المواصفات العالمية في ذاك الوقت، صوتا وضوءا، إذ كان مجهزاً بتقنيات صوتية مدروسة ليصل الصوت بوضوح إلى مشاهدي آخر الصالة، فيما

أضفت تقنياته الضوئية على الديكور أجواء رائعة.

اما مبنى سينما <غومون بالاس> أو <البيضة> (نسبة لشكلها الهندسي البيضوي) فقد كان آل صمدي وآل صالحة هم من قاموا ببنائه في بيروت في العام 1965، وصممه المهندس جوزف فيليب كرم، الذي قرر تشييد مبنى ضخم يضمّ خمس طبقات تحت الأرض ليكون أول <مول> في الشرق الأوسط. والسينما شكلت جزءاً من مبنى متكامل كان اسمه <سيتي سنتر> أو <الدوم>، وكان أول مبنى تجاري كبير بُني في بيروت، وكان يوجد فيه سلالم كهربائية، إضافة إلى محل <معتوق> المعروف بصناعة شرائح البطاطا وحلويات <الصمدي> الذي اشتهر بالكنافة وباب محلّه الزجاجي الذي يفتح إلكترونياً.. للاسف، تحول المبنى الرائد مع الحرب الأهلية الى خط تماس يفصل بين منطقة بشارة الخوري وساحة الدبّاس وبات مركزا للقنص.

 

جدد لبنان..!

الى المكانين السابقين، تشير الحلاق وهي مديرة مبادرة <حُسن الجوار> في الجامعة الأميركية في بيروت الى تجربة رائدة في الساحة العامة تواكب الثورة الى جانب التجارب السياسية التي تحدث فيها، وهي خيمة <جدد لبنان> أو<Regenerate Lebanon> مع جوسلين كعدي وتشرحها لـ<الأفكار>:

ــ نحن كمبادرة <حسن جوار> في الجامعة الاميركية ساندنا <جدّد لبنان> بجزء هو عبارة عن مبادرة بعنوان <تعوا نلعب عطاولة وحدة> بالتعاون مع <ديستريكت دي> وقوامها وضع طاولة للعب كرة الطاولة في الساحات العامة كعيّنة مسبقة عن طاولة نهدف الى تنفيذها باستخدام مواد معاد تدويرها. والهدف بهذا التركيب أننا نؤيد اعادة تفعيل الاماكن العامة باستخدام التدخلات التكتيكية التي تدعم الحق في الأماكن العامة واسترجاعها من خلال تعزيز عامل اللعب في هذه الساحات حتى أثناء

الثورة.

طاولة الـ<بينغ بونغ>، فضلا عن خيمة <جدّد لبنان> موجودة في ساحة الشهداء في الجهة الثانية لجامع محمد الامين، وهي ضمن مجموعات الخيم التي تقوم بنشاطات بيئية مختلفة من اعادة التدوير، الى المطبخ المستغني عن اي نوع من البلاستيك بحيث تأكل الناس في معالق وصحون من الـ<ستينلس ستيل>، إلى التشغيل بالطاقة الشمسية، وذلك بهدف تقديم نموذج للبنان الصديق للبيئة، والذي، الى الثورة بمعناها السياسي البحت، يواكبها بالمعنى الاجتماعي والبيئي.

فما هي مبادرة <جدد لبنان> التي أسستها السيدة جوسلين كعدي وكيف ولدت؟

هي مبادرة انطلقت من مجموعة متزايدة من المواطنين والمواطنات الفاعلين والفاعلات الذين تلاقوا عن طريق الثورة عبر قوة التفاعل البشري وبكل تواضع ومحبة لمزج الخبرة مع التجربة العلمية، الابتكار مع التقاليد، البنية التحتية مع الثقافة والاحلام مع الواقع.

 ويعتبر القيمون على منصة <جدد لبنان> انها <مختبر مفتوح بدون اي اجندة اخرى غير العمل من أجل وطن افضل لنا جميعا. نحن نركز على تصميم وتطبيق التغيير الكمي والنوعي الذي يمكن ان يتحقق عبر سلسلة من المبادرات الجماعية الموجهة نحو ايجاد الحلول>.

 أما اسباب الانطلاق بالمبادرة فهي ان لبنان يغرق تدريجيا في أزمة اقتصادية وبيئية ضخمة للغاية ومعقدة لدرجة اننا جميعا بدأنا نفقد الأمل في امكانية اصلاح هذا الوطن. كنا بحاجة الى تلك الشرارة لاشعال هذه الثورة كي نرى انه لا يزال امامنا فرصة واحدة: لنا جميعا، لنا معا.

وبحسب المؤسسين، فان مصطلح الثورة يتعدى المعنى السياسي المتضمن الاطاحة بالحكومة. ثورة تعني <تغييراً دراماتيكياً وواسع النطاق في الظروف او المواقف او طرق العمل، و<جدد لبنان> هي منصة للعمل الجماعي، هي خزان فكري ومركز انتاج جامع وشفاف. هذه المساحة الواقعية والرقمية ستتيح لنا كمواطنين لبنانيين ان نوجه جميع طاقاتنا، ايدينا وعقولنا، نحو عمل جماعي يؤدي الى التغيير الايجابي للنظام القائم.

فمن اجل معالجة القضايا الاجتماعية والبيئية بدءا من القاعدة الشعبية، تعمل <جدد لبنان> لحل المشاكل المتعددة من خلال سلسلة من التدخلات العلمية بحيث نتقدم تدريجيا ونوسع نطاقنا ونتعاون لوصل حلقة الاقتصاد الدائري في لبنان، وسيتم توحيد هذا النظام المنطلق من القاعدة الشعبية والمكون من صانعي التغيير وأصحاب المصلحة عن طريق رسم خرائط جماعية للنظام الايكولوجي، ما يؤدي الى تغذية سياسات جديدة لمواجهة التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة لتطبيق تغيير جذري للنظام القائم.