بقلم صبحي منذر ياغي
عرفت سوريا في أواخر الاربعينات سلسلة من الانقلابات قام بها العسكر وكان اولها انقلاب الزعيم حسني الزعيم، فعرفت سوريا بدولة <الانقلابات»، ولم يستقر الأمر الا في السبعينات عند تولي حافظ الاسد السلطة من خلال <حركته التصحيحية>. إلا ان لبنان لم يعرف انقلابات حقيقية، بل مجرد محاولات <تمرد وعصيان>... وانقلابات <كالاسهم النارية>، وبعضها كانت <انقلابات تلفزيونية> ليس الا... كانقلاب العميد الراحل عزيز الأحدب في 11 آذار/ مارس 1976.
يعترف عدد من الباحثين بأن لبنان هو الدولة الوحيدة من بين الدول العربية التي لم تعرف في تاريخها السياسي انقلابات تذكر، ربما يعود ذلك الى طبيعة نظامه القائم على التوافق والتجانس بين الطوائف، وبالتالي لتشابك مجتمعه وتنوعه، إلا أن الوقائع تذكر حالات جرت فيها محاولات لتغيير النظام او السلطة، فشهد عهد الرئيس بشارة الخوري محاولة عصيان مسلح، واعتداء على الدولة قاده رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي الزعيم انطوان سعادة الذي فر الى سوريا طالباً الحماية، لكن الرئيس السوري وقتذاك الزعيم حسني الزعيم غدر به وسلمه للسلطات اللبنانية. فأجريت له محاكمة صورية، وجرى اعدامه في 8 تموز/ يوليو عام 1949، بطريقة أثارت حفيظة الرأي العام المحلي والدولي.
الانقلاب الابيض
إلا ان حكم الرئيس بشارة الخوري شهد معارضة في نهاية عهده بسبب تعديله الدستور والتجديد لولايته، فتعاظمت تلك المعارضة التي قادتها الجبهة الاشتراكية الوطنية التي ضمت كمال جنبلاط، كميل شمعون، غسان تويني، وعبد الله اليافي وغيرهم... والتي دعت إلى إضراب عام في البلاد ما اضطر الرئيس بشارة الخوري إلى الاستقالة عام 1952، بعد تظاهرات ضخمة على خلفية اتهامه بالفساد. وخوفاً منه على تفاقم الأمور، استدعى قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب، وقدم إليه استقالته، بعد أن كلفه بتشكيل حكومة عسكرية تتولى إجراء انتخابات رئاسية. فخلفه الرئيس كميل شمعون.. وقيل يومئذٍ ان مارون عرب الذي كان المستشار الشرقي في السفارة البريطانية، قابل الرئيس المستقيل ليوضح له موقف الإنكليز مما جرى، فقال له: «نحن إلى جانبك يا فخامة الرئيس ولا تتصور أن لنا علاقة بكل ما حدث. أنا بعدني لحد هلق مش عارف كيف انقلبت هالدني فوقاني تحتاني»؟ أجابه الشيخ بشارة: «يا ابني يا مارون لا تعذب حالك وتحلف...أنا بعرف إنو الحق عالطليان»، وذهبت هذه الإشارة من الرئيس المستقيل كمثل للتندر وتحميل المسؤولية لما حدث للآخرين.
ثورة 1958
شهد حكم الرئيس كميل شمعون أحداثاً بالجملة عام 1958 ولاقى معارضة مسلحة بسبب مساندته حلف بغداد كادت ان تطيح بحكمه لولا التدخلات الإقليمية والدولية، وكان من أبرز قادة المعارضة للحكم الشمعوني وقتذاك الزعيم الوطني كمال جنبلاط، وفي 15 تموز/ يوليو 1958، دخلت قوات أميركية مؤلفة من 14000 جندي لمساندة الرئيس شمعون ثم انتهت الثورة المسلحة بشعار<لا غالب ولا مغلوب>، وفي 23 أيلول/ سبتمبر 1958، انتهت ولاية شمعون وتولّى قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب الرئاسة.
انقلاب فاشل للحزب القومي
بعد ذلك، قام الحزب القومي في الستينات بمحاولة انقلابية فاشلة للإطاحة بالرئيس فؤاد شهاب، وزج عدد كبير من مسؤولي الحزب وقادته في السجون لسنوات طويلة. ويؤكد الكاتب محمد سمعان في هذا الصدد في دردشة مع <الأفكار> ان الحزب السوري القومي الاجتماعي، وبعد انتخاب اللواء فؤاد شهاب، بتوافق إقليمي خلفاً للرئيس كميل شمعون الذي واجه أحداث 1958، كان من أبرز الذين ساندوا الرئيس شمعون، فأيقن القوميون انهم أصبحوا في <عين العاصفة>، وسيدفعون ثمن ولائهم للرئيس السابق. وأضاف سمعان: وما أن وقع الانفصال في سوريا مع مصر، استقر عزم رئيس الحزب عبدالله سعادة، فبادر فوراً، وبعد أربعة أيام فقط من وقوع الإنفصال الى تطيير البرقيات لبعض القوميين، وبدأت قيادة الحزب القومي بوضع الخطة النهائية لتنفيذ الانقلاب، وجرى وضع الخطوط العامة للخطة الانقلابية التي لاقت الفشل بعد ان وصلت للمكتب الثاني اللبناني معلومات مفصلة في هذا المجال.
ويقول النائب السابق اللواء سامي الخطيب: منذ ذلك التاريخ، انطلقت عجلة الشعبة الثانية لرصد تحركات القوميين السوريين على الصعد كافة وفي كل المناطق واعتبر نشاط الحزب القومي أولوية في عمل الشعبة الثانية وبدأت ترد الى رئاسة الشعبة التقارير اليومية عن تحركات القوميين السوريين. تقررت ساعة الانقلاب الساعة الثالثة من صباح 31/12/1961، واستطاع الجيش اللبناني إحباط الهجوم على مقر قيادة وزارة الدفاع، في حين تمكن عناصر الحرس الجمهوري بقيادة الضابط صادق رعد من اعتقال مهاجمي قصر الرئيس اللواء فؤاد شهاب في ضبيه، وجرى اعتقال قادة الانقلاب الذين خضعوا للاضطهاد ولمحاكمات جماعية أحدثت اشكالية في الساحة السياسية في لبنان .
انقلاب الأحدب
انهار الوضع الأمني في لبنان منذ حادثة عين الرمانة عام 1975 ليصل الى ذروته عام 1976 في ظل تفكك الجيش اللبناني وسقوط الثكنات العسكرية في العديد من المناطق، وسط نمو ظاهرة الملازم اول أحمد الخطيب الذي أعلن تشكيل <جيش لبنان العربي> بعد إعلان تمرده على القيادة في 21 كانون الثاني/ يناير 1976 وانفصاله مع مجموعة من العسكريين الذين التحقوا به، ليقوم بعدها بمهاجمة الثكنات، مستنداً الى دعم مالي ولوجستي من القيادي الفلسطيني خليل الوزير <ابو جهاد>.
ويؤكد عدد من المتابعين لتلك الفترة ان تفكك الجيش بدأ بشكل مذهل في 8 آذار/ مارس 1976، الامر الذي دفع بقائد الجيش وقتذاك العماد حنا سعيد لعقد اجتماع لأركان القيادة، وكبار الضباط لمناقشة سبل وقف انهيار المؤسسة العسكرية. وفي ليل 10 آذار/ مارس من العام نفسه صدر نداء عن قائد الجيش يدعو العسكريين للالتحاق بثكناتهم مؤكداً ان جيش المستقبل سيكون جيشاً للبنانيين جميعاً...
إلا ان الوضع الأمني الهش تواصل، مع استيلاء جيش لبنان العربي على الثكنات العسكرية في عدد كبير من المناطق اللبنانية.
بلاغ رقم واحد
هذا الوضع المتردي دفع بالعميد عزيز الأحدب قائد المنطقة العسكرية في بيروت للقيام بما يشبه الانقلاب في الثامنة والنصف من مساء 11 آذار/ مارس 1976، عندما قام بإعلان البلاغ رقم واحد من محطة التلفزيون اللبنانية في تلة الخياط، واصفاً حركته بالإصلاحية، وانها ترمي لإنقاذ الجيش وإعادة لحمته وطلب الاستقالة من رئيس الجمهورية سليمان فرنجية تمهيداً لانتخاب رئيس جديد خلال عشرة أيام معلناً في الوقت نفسه حال الطوارىء في لبنان ومنع التجول في بيروت.
لاقت حركة عزيز الأحدب الإصلاحية تأييداً من أوساط سياسية ومن عدد من الضباط في أيامها الاولى، في حين التزم قائد الجيش حنا سعيد بالصمت، لأنه لم يكن قادراً على مقاومة حركة الأحدب وهو غير ممسك بالجيش، ولا تأييدها لأنها بمنزلة خروج على القيادة والشرعية. اما الشعبة الثانية التي كانت برئاسة العميد جول بستاني فلقد وجدت في حركة الأحدب مجرد وعاء استوعب غضب العسكريين وتذمرهم.
انقلاب تلفزيوني
انقلاب الأحدب الذي عرف فيما بعد بـ<الانقلاب التلفزيوني> كان بلا جنود، بلا سلاح، ودون إراقة نقطة دم، واللافت ان الملازم أول أحمد الخطيب، قائد ما سمي بـ<جيش لبنان العربي> لم يعلن تأييده لهذا الانقلاب ولا الدعوة الى استقالة رئيس الجمهورية.
ومرت أيام، ولم يحظَ الأحدب بتأييد القطع العسكرية المقاتلة التي انضم أكثرها الى أحمد الخطيب. بالمقابل، قامت ميليشيات الجبهة اللبنانية باحتلال ثكنة الفياضية في 12 آذار/ مارس 1976. فيما أعلن العقيد أنطوان بركات ابن زغرتا ولاءه للرئيس سليمان فرنجية منذ 12 آذار/ مارس، وأعلن تأسيس ما سمي بـ<جيش الشرعية>، ومقره ثكنة الفياضية، في الوقت الذي تم الإعلان عن تجمع عسكريي ثكنة صربا بقيادة العقيد أنطوان لحد الذي ترك قيادة البقاع لينضم الى رفاقه في المناطق المسيحية، وتجمع عسكريي مسيحي زحلة الذي كان بقيادة المقدم ابراهيم طنوس( قائد الجيش فيما بعد) والرائد طارق نجيم، والملازم أول يوسف الطحان.
حركة فتح.. والانقلاب
وتبين ان لحركة فتح دورها الاول في تحريك < انقلاب الأحدب>، وينقل الزميل نقولا ناصيف عن العميد جول بستاني في هذا المجال ان احد المحيطين بقائد الانقلاب وهو ضابط شيعي نبه سوريا بالواسطة الى الأمر. فيما بعد وردت اليه معلومات تحدثت عن سيارتي جيب فلسطينيتين رافقتا موكب عزيز الأحدب الى محطة شركة التلفزيون اللبنانية، وضعهما في تصرفه رئيس الاستخبارات الفلسطينية علي حسن سلامة الذي كانت قد جمعته به علاقة شخصية.
من وحي الضمير العسكري
في أيلول/ سبتمبر 1980، وخلال المشاركة في تشييع الملازم أول عزمي الايوبي في برغون في الشمال، كانت لي دردشة سريعة مع الراحل عزيز الأحدب الذي صودف وجوده في المأتم عن أبعاد انقلابه في 11 آذار/ مارس 1976، ومدى الدعم الفلسطيني له، فأكد رحمه الله وبشيء من الانفعالية، وبيده <عصا المارشالية> ان كل هذا مجرد تلفيق وإساءة لحركة 11 آذار/ مارس التي انطلقت من وحي الضمير العسكري لإنقاذ الجيش اللبناني الذي كان في طريقه الى التفتت والتشرذم، وان العماد حنا سعيد كان من المطلعين على تحركاته وعلى تنسيق معه، ولاقى الانقلاب تأييداً من شريحة واسعة من العسكريين، وكان خطوة حفظت الشرعية وحركت الرأي العام ومهدت بالتالي لوصول الرئيس الياس سركيس الى الحكم... كانت حركة وطنية سلمية من أجل انقاذ الوطن...