تفاصيل الخبر

«فـــالس » الـنـمـســا ونـفـــايـات لـبـــنـان

27/08/2015
«فـــالس » الـنـمـســا ونـفـــايـات لـبـــنـان

«فـــالس » الـنـمـســا ونـفـــايـات لـبـــنـان

بقلم سعيد غريب

SAM_5208ثلاثة وعشرون عاماً مضت على عودتي من فرنسا بعد إقامة لم تدم أكثر من سنتين ولا زال الناس يسألونني: لماذا عدت؟ ألم يكن أفضل لك ولعائلتك البقاء في بلد الحضارات والثقافات؟

وفي إحدى المرات أجبت أحد السائلين راوياً له هذه القصة:

حُكِي في إحدى النوادر الأدبية أن ملكاً كان يعشق الصراصير ويهتم باقتنائها، وأوصى بأن يأتوه بأفضلها وأكبرها، وحصل على مبتغاه.

خصص الملك للصرصار جناحاً في القصر مع خدم وحشم، ولم يمضِ يومان حتى ذبل وانزوى في إحدى الزوايا منهوك القوى.

فجنّ جنون الملك، وطلب من أطبائه أن يعالجوا صديقه أيّاً يكن الثمن، ولم ينفع معه أي دواء...

علّق الملك لافتات على الطرق الرئيسة والفرعية تدعو مَن لديه العلاج الشافي أن يتقدم، وخصص مبلغاً كبيراً من المال من أجل ذلك.

وصودف مرور أحد الفلاحين الذي قرأ الإعلان وطلب مقابلة الملك، وكان له ما أراد. قال له: <أنا أتكفّل بشفائه، ولكن أخشى يا جلالة الملك على نفسي إن أفصحت أمامك عن الدواء>.

فأجابه الملك: <ما عليك، إفعل ما تراه مناسباً، المهم أن يشفى الصرصار>.

ردّ الفلاح: <عليّ الأمان؟>. أجابه الملك: <عليك الأمان، ماذا تريد؟>. قال الفلاح:

أريد يا مولاي سلة مليئة بالنفايات! أجاب الملك ماذا؟ انت تهين الصرصار الذي أحب. رد الفلاح: قلت لك يا مولاي إن المسألة قد تغضبك، هل تريد شفاءه أم لا؟ قال الملك: نعم، رد الفلاح: إذاً، نادِ على الخدم أن يأتوا بسلة نفايات...

أتى الخدم بما طلبه الفلاح الذي أمسك الصرصار ورماه في السلة، ولم تكد تمضي بضع ثوانٍ حتى نفش الصرصار جناحيه واشرأبّ جسمه وعاد الى وضعه الطبيعي.

نعم، شفي الصرصار، ونحن العائدين الى لبنان لم نُشف من الإقامة في بلاد الحضارات وعدنا الى بلدنا المطمور بالنفايات حيث تآلفنا مع أمراضنا ولا نستطيع العيش من دونها.

والحق يقال إننا في لبنان لم نعد نشعر بأي شيء جميل، لقد فقدنا الإحساس والذوق السليم والفيلم الجميل والموسيقى الحلوة، والعائلة المجتمعة، ولا يوقظنا من سباتنا العميق إلا ما يمكن أن نشاهده بواسطة <الانترنت> وهذا <الغوغل> العملاق.

نشاهد عبر الشاشة الدولية، ويأخذنا شعور مؤلم بالغربة والخجل حيال جمال ليس بمتناول أيدينا.

<أندريه ريو> <André Rieu>، مايسترو ألماني يقدم في ديكور ومسرح راقيين في النمسا جمالية موسيقية بعدما كانت مخبّأة بخجل كاتبها وتواضعه لمدة خمسين عاماً.

<أنطوني هوبكينز> يطل وسط جمهور مغتبط، مرة أولى لبراعته التمثيلية، عبر الفن السابع، ومرة ثانية لنوتاته الموسيقية التي تحاكي أجمل ما قدمه <يوهان شتراوس> من موسيقى <الفالس> الخالدة.

وتسأل نفسك: أين نحن من هذا الفرح والسموّ في العمل الفني أولاً، وفي تذوّق روائعه ثانياً.

ترانا نغرق في القمامة على أنواعها وكأن الكون يعبر الى عصر جديد حالك، لا صوت فيه إلا العويل والصراخ والشتم والهدم.

في تدمر التاريخية، مواقع أثرية تُمحى ولا من يتحرّك.

في الشرق دول تزول وأنظمة تسقط بلا بدائل، كأن المطلوب تدمير منهجي لحضارة الإنسان وإنهاء لما أشرق من هذه المنطقة من العالم.

في هذه الأجواء، ماذا ننتظر وماذا يمكن أن يبقى من قيم وديموقراطية وحقوق إنسان؟

كيف يمكن لشعب أن يصمد وسط فوضى عارمة وبث مباشر لا يتوقف لمشاهد مروعة وكلام تُقشعرّ له الأبدان من مراسلين ومراسلات ومذيعين ومذيعات لسانهم يسبق تفكيرهم، ومواطنين تبهرهم الكاميرا فتسقط معهم كل الأدبيات حتى بتنا نعثر على تبرير للظلم والديكتاتوريات وحكم الملوك والأباطرة...

كيف يمكن لشعب أن يرتقي، وهو إذا سار في تظاهرة لا يعرف ماذا يريد، وإذا عرف لا يدري الى أين سيصل؟

كيف لشعب أن يسقط نظاماً لا يعرف ما هو، هل يريد إسقاط نظام ديموقراطي أم برلماني أم رئاسي أم ديكتاتوري أم طائفي؟

أي نظام يريد إسقاطه؟

إذا كان المقصود النظام الديموقراطي، فالعنوان خاطئ، لأننا لم نعرف هذا النظام منذ نشأته. فهو في الواقع نظام الديموقراطية التوافقية الداحضة كلياً للديموقراطية المطلقة.

وإذا كان المقصود النظام البرلماني، فالعنوان خاطئ أيضاً، لأن النظام البرلماني يأتي بنواب يختارهم الشعب لا الزعماء.

وإذا كان المقصود النظام الطائفي وهذا هو الصحيح، فلا مجال للمحاولة حتى، لأنه نظام عقيم ومتجذر في آن، ولا قوة برزت حتى الآن لإلغائه أو إسقاطه.

عن أي نظام يتحدثون؟ عن نظام لا رئيس جمهورية فيه، ولا مجلس نواب يعمل، ولا حكومة تنتج ولا بديل لها إذا سقطت كلها؟

هذا هو وضع لبنان، وهكذا عرفناه، كما عرفه أجدادنا وأجداد أجدادنا، بلداً لم تشهد الدول والأوطان مثيلاً له، بلداً لا حلول له على الأقل في المستقبل المنظور، بلداً يتحلل، وما تبقى من شعبه النابض يتوزع على القارات الخمس بل الست.

وعلى الرغم من كل ما سبق ومن كل ما سيلي، فإن شعوبنا الطيبة في هذه المنطقة من العالم، تبقى في سعي دؤوب الى تحقيق أحلامها، وإذا كان من تعويل، فعلى هؤلاء الشباب الذين يغرفون من أباريق أجدادهم ولو لم يدركوا ذلك...