نعيش جميعاً في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخنا لعبة الثلاث ورقات في السياسة الاقليمية والدولية، وكأن واشنطن وباريس ولندن وبعض دول المنطقة دخلت اللعبة فأخفت الحقائق عن الإعلام، وركزت على هدف واحد هو اقتلاع جذور تنظيم <داعش> في العراق وسوريا درءاً لخطر امتداده الى دول الجوار، ووصوله عبر الجهاديين الفرنسيين والبريطانيين وحتى الأميركيين الى قلب باريس وبريطانيا وواشنطن. ومثلما تخفي الولايات المتحدة وحلفاؤها حقائق الغزوة العسكرية ضد <داعش> كذلك يخفي تنظيم <داعش> خفايا الخطة الجهنمية التي تصل بجهادييه الى معاقل الدول الكبرى.
ومع التسليم المطلق بأن <داعش> منظمة بالغة الخطورة، وخصوصاً حين يكون سلاحها الإعلامي هو الذبح بالسكين، والإعدام الميداني لمن يخالفها خطها الجهادي، وان هذه الظاهرة غريبة كل الغرابة عن الدين الاسلامي الذي يبشر بالتسامح والاعتدال والعفو عند المقدرة، فإن <داعش> تتحضر لتطويق الحملة الدولية المسلحة ضدها، ولو من الجو، برشقها بتهمة الحرب الصليبية، وكأنها تستحضر تاريخ الفاتح الانكليزي <ريكاردوس قلب الأسد> والفاتح الفرنسي <ريمون دو سان جيل>، ويتمثلان الآن برئيس وزراء انكلترا <دايفيد كاميرون> ورئيس فرنسا <فرانسوا هولاند>، ولا ينقص المشهد إلا قول أمير الشعراء أحمد شوقي لـ<ريكاردوس قلب الأسد>: <يا فاتح القدس خلِ السيف ناحية/ ليس الصليب حديداً بل خشبا>.
وانضمام أكثر دول المنطقة الى الحملة العسكرية الجوية الأميركية ــ البريطانية ــ الفرنسية، وبعضها على استحياء، يجعل دول المنطقة، ولاسيما العراق، في قلب الاهتمام الدولي، وجزءاً من الترسانة الأطلسية، عسكرياً واقتصادياً، وإن كان الشريك الأطلسي التركي قد رسم هامشاً بينه وبين هذا التحالف ولم يعد واضحاً ما إذا كان الشريك التركي الأطلسي جاهزاً لعبور الطائرات الأميركية والبريطانية الى الجو العراقي والجو السوري من قاعدة <انجرليك> التركية، وإن كان الرئيس التركي <رجب طيب أردوغان> قد أبدى استعداده لأي تعاون مخابراتي ولوجستي!
حكومة عراقية بدون
وزير مسيحي!
ولئن كان ضرب العراق من الجو قد حظي بموافقة الرئيس العراقي فؤاد معصوم ورئيس الوزراء حيدر العبادي، وهما صاحبا القرار العراقي، فإن رئيس الحكومة العراقية فاجأ التحالف الأطلسي والأممي برفضه أن تسقط قنابل طائرات الحلفاء على المدن العراقية التي يحتلها تنظيم <داعش> مخافة أن تفتك بالمدنيين الأبرياء. وقد أجيب عبادي الى طلبه وسيقتصر القصف الجوي على الممرات التي يستخدمها مقاتلو <داعش>، والثكنات التي يرابطون فيها.
ولكن عبادي لا يسلم من تهمة السماح بتهجير المسيحيين. والدليل على ذلك ان تشكيلته الحكومية خلت من أي مسيحي خلافاً لما كان عليه الأمر مع طارق حنا عزيز زمن صدام حسين، وليس وارداً أن يعين عراقي مسيحي في حقيبة وزارة الداخلية أو وزارة الدفاع، وهما الوزارتان السياديتان المؤجل البت في تعيين وزيرين لهما. كذلك لم يحرك العبادي ساكناً وهو يرى مسيحيي العراق يغادرون مطار بغداد زرافات ووحدانا الى فرنسا التي أعلن وزير خارجيتها <لوران فابيوس> فتح باب هجرتهم الى جنوب فرنسا، أي <نيس> و<كان> و<مارسيليا> وأخواتها، فهل هذا التغاضي عن هجرة مسيحيي العراق وعدم اشراكهم في الحكومة، جزءاً من مخطط إفراغ المنطقة منهم، لجعل الخريطة محصورة في ثلاث دويلات عراقية: واحدة للسنة، وثانية للشيعة، وثالثة للأكراد؟
وقد انكشف هذا المخطط حين كشر الرئيس الأميركي <باراك أوباما> عن أنيابه العسكرية الجوية ضد <داعش> قرب كردستان، وعطّل بذلك أي تقدم لجهاديي دولة الإسلام في العراق والشام (داعش) نحو اقليم كردستان واعتباره خطاً أحمر، وبمثابة أي مدينة أميركية، وأفهم <أوباما> من يحب أن يفهم بأن دولة كردستان قد ولدت ولم يعد ذلك قابلاً لأي تغيير. وهذا وزير الخارجية الفرنسي السابق <برنار كوشنير> يقول للقطب البرلماني اللبناني مروان حمادة، بعد زيارته للعراق، ان دولة كردستان أصبحت على الخريطة.
وافراغ حكومة العبادي من أي مسيحي، رسالة الى من يهمه الأمر، بأن لا حقيبة وزارية لمسيحيين تهجروا ولم يعودوا موجودين.
والرئيس <أوباما> وهو ينزل بثقله العسكري الجوي ضد <داعش> في العراق ومعه ستمئة عسكري أميركي على الأرض، بعدما كان أعلن الخروج العسكري الأميركي من العراق عام 2008، يغالط نفسه بنفسه. فعندما تسلم مقاليد البيت الأبيض، بعد انتهاء ولاية <جورج دابليو بوش>، كان مأخذه الأول على سلفه <بوش> أنه تورط في حرب على العراق عام 2003، وكان ذلك غلطة تاريخية، فكيف يواجه الذين سمعوا منه هذا الكلام، وهو يرتكب الغلطة نفسها التي اتهم سلفه بارتكابها؟!
النزول.. براً
وأغلب الظن ان ترديده للإعراض عن التدخل العسكري البري، ما هو إلا محاولة تملص من أي تهمة له بالتورط العسكري في العراق مثل <دابليو بوش>، مع التسليم بأن الرجل سوف يعتمد الانزال البري في النهاية حتى يحفظ ماء الوجه، خصوصاً وإذا طالت المواجهة بينه وبين تنظيم <داعش> وزعيمه أبو بكر البغدادي. وإذ ذاك سيضحك <بوش> ملء شدقيه!
والرئيس <أوباما> يخفي الحقائق عن الناس، وكأنهم أغبياء، مع أنهم قطعوا رأس السمكة وذيلها. ومن هذه الحقائق ما قاله بالأمس آية الله السيد <علي خامنئي> بعد خروجه من المستشفى، حيث خضع لجراحة غدة <البروستات>. لقد أعلن الزعيم الروحي لإيران ان الولايات المتحدة أرسلت إليه موفداً يعرض عليه أن تكون إيران جزءاً من الائتلاف العسكري الدولي لضرب معاقل تنظيم <داعش>، على أساس أن إيران ضد الحركات الارهابية، ولكن السيد <خامنئي> رفض العرض جملة وتفصيلا. وقال: <لا أرى جدوى من التعاون مع دولة أيديها قذرة ونياتها غامضة>.
والذي يقوله وزير الخارجية الأميركي <جون كيري> ان الولايات المتحدة لا تريد ادخال إيران في هذا الائتلاف، برغم الالحاح الفرنسي على المشاركة الإيرانية، وردت فرنسا أسباب هذا الاقصاء الأميركي لإيران بأنه ترضية لبعض الدول الخليجية التي لا تريد أن تخسر صداقتها، وتعتبر إيران جزءاً من المشكلة وليست جزءاً من الحل.
ونأتي الى الجانب الآخر من الحملة العسكرية الجوية على <داعش>، وهي الأجواء السورية، فالرئيس بشار الأسد، كما أبلغ المبعوث الأممي <دو ميستورا>، مستعد للتعاون الجوي العسكري مع الحملة الأممية إذا أذنت سوريا بذلك..
لكن الوزير <كيري> وهو يشارك في مؤتمر باريس من أجل العراق يوم الاثنين الماضي، استبعد العمل مع الحكومة السورية، وإن كان قد تحدث بغموض عن اتصالات سياسية مفتوحة مع سوريا لتجنب الأخطاء، إذا باشرت الولايات المتحدة وحلفاؤها قصف مواقع التنظيم الأصولي في سوريا. كما صرحت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية <جنيفر باساكي> ان الولايات المتحدة لن تنسق عسكرياً مع إيران في حربها ضد <داعش>، لكنها تبقى منفتحة على أي <مناقشة ديبلوماسية> مع إيران في هذه المسألة.
ومما قاله الرئيس <أوباما> يوم الاثنين الماضي ان أي اعتراض عسكري سوري للحملة الأطلسية الجوية على <داعش> في سوريا سيكون ثمنه باهظاً للرئيس الأسد إذ سيتم تدمير كل قواعده الجوية.
ما هو دور لبنان؟
يبقى السؤال: لقد شارك لبنان بشخص وزير الخارجية جبران باسيل في كل من مؤتمر جدة، ومؤتمر باريس، وأعلن باسم الحكومة اللبنانية التي تقوم مقام رئيس الجمهورية، ان لبنان يبقى جزءاً من التحالف الأممي ضد <داعش> على اعتبار أنه واجه ولا يزال حركات الارهاب بدءاً من عرسال وجرودها، والمعركة الفندقية عند منطقة رأس بيروت، فيما يعرف بعملية فندق <ديرول>، ولكنه ــ والكلام لجبران باسيل ــ يدخل أي عمل عسكري ضد <داعش> إذا كان هناك قرار من مجلس الأمن بذلك. ولا نظن أن الوزير باسيل قد غفل عن أن مجلس الأمن كان ممثلاً في مؤتمر باريس بكل من فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا والصين.
بالمقابل.. ماذا يستطيع لبنان تقديمه في هذا المجال؟
اجتماع الوزير باسيل بوزير الخارجية الأميركي <جون كيري> في باريس كشف عن تقديمات أميركية للبنان حتى يواجه الارهابيين، ولم يكن هناك عرض من لبنان لما يستطيع تقديمه!
ليس في الوارد طبعاً أن يسمح للطائرات الاقليمية باستخدام مطار رياق أو مطار رينيه معوّض في القليعات في عملياتها العسكرية الجوية ضد <داعش>، لما يشكله ذلك من خطر على سكان تلك المناطق. ومختصر الكلام أن لبنان يتعاون مع الحملة الأطلسية الجوية اعلامياً ولوجستياً ومخابراتياً.. لا أكثر!
وان غداً لناظره.. قريب!
(1) السياسي الألماني الشهير في القرن التاسع عشر.