لا يمكن أن يكون التشابه الكبير بين ما يحصل سياسياً في العراق والفراغ في لبنان هو فقط بمحض المصادفة. تطيير النصاب في البرلمان العراقي وعدم الإتفاق على حكومة مركزية يشبه إلى حد كبير رغم اختلاف التفاصيل عدم التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. أصبح من الواضح أن لبننة العراق ثم عرقنة سوريا فـ<تدعيش> لبنان هي حلقة متصلة بفراغ كياني وسياسي وفكري مبني على عصبية مذهبية وعرقية تتغذى من واقع اقتصادي مرير ينهشه الفساد.
في الإعادة إفادة: لولا الحرمان الذي لزم الجنوب والبقاع لعقود لما استطاع حزب الله تجييش هذا الجمهور الكبير المستعد لأن يموت عند أول دعوة جهاد من الأمين العام حتى لو كان ذلك في أقاصي الأرض. الكلام نفسه ينطبق اليوم على <الداعشيين> وخليفتهم في العراق وسوريا ولبنان و... مخيماته. أي شخص يزور المخيمات الفلسطينية في صبرا وشاتيلا وعين الحلوة وحتى اليرموك اليوم لا بد وأن يخاف من المستقبل. فأطفال المخيمات لا ينهلون العلم والرخاء بل الحقد والإحساس بالظلم مع الشعور بأمان وهمي عنوانه السلاح.
هناك مسارات عدة ممكنة لما يحصل اليوم في المنطقة العربية.
الأول مخاض يمكن أن يمتد لعقود نغرق خلالها في سواد المذهبية والأحقاد على انواعها. سنخطو كما خطا الأميركيون والأوروبيون قبلنا في نفق الجهل حتى تنبثق قيادات متنورة قادرة على تحقيق التغيير وجمع الناس حول مفاهيم مرتبطة بمستوى عيشهم وليس بانتماءاتهم الدينية أو الأصولية. هذا يمكن أن يأخذ عشرات السنين وآلاف الأطنان من الدماء.
الثاني هو طريق يمكن أن يكون أقصر زمنياً ولكنه معقد ومحفوف بالمخاطر وهو التقسيم. بدل العراق وسوريا ولبنان يصبح لدينا كردستان و<داعشستان> و<ايرانستان> وغيرها من الدويلات. هذا يحمي إسرائيل ويطيل عمرها الإفتراضي. وهذا ما بشرنا به الأميركيون والإسرائيليون في ٢٠٠٥ عندما تحدثوا عن الشرق الأوسط الجديد. هذه التقسيمات ستخفف من الحروب إلى أن يكتشف اصحابها أنهم بحاجة إلى موارد وأسواق جيرانهم، فيلجأون من جديد إلى الإتحادات الاقتصادية حتى يضمنوا الاستمرار لدويلاتهم. هذا المسار فيه دماء أقل ولكنه محدود الآفاق. وفي السودان عبرة لمن يريد أن يعتبر.
المسار الثالث هو الأفضل ولكنه الأبعد عن الواقعية بسبب الجهل والفساد وحب السلطة المسيطرة على أهل السياسة في المنطقة. هذا المسار ينطلق من الخليج وبالتحديد من دول مجلس التعاون بعنوان إعادة بناء البنية التحتية الإقليمية وإبرام عقد تطوير اجتماعي مع كل دول المنطقة. يعقد مؤتمر اقتصادي اجتماعي في عاصمة خليجية تحضره إيران ويمنع فيه الكلام في السياسة. الكل يأتي بمطالب وبرامج اجتماعية واقتصادية فقط. يأتي ممثل عن سنة الأنبار وآخر عن المعارضة السورية في الشمال وآخر من مناطق دير الزور وغيرهم من ممثلي الناس ليعرضوا حاجات مناطقهم وخطط لإشراك الصناديق الاستثمارية السيادية في برامج محددة وأهداف واضحة. يشترط على كل هذه المناطق أن تتخلى عن سلاحها إن أرادت الإستفادة من الدعم المعروض. كل السلاح يسلم إلى دول الخليج (سلطنة عمان مثلاً). تنفيذ البرامج الموافق عليها يخضع لرقابة خليجية صارمة ومباشرة يمكن أن تكون إيران وتركيا شريكتين فيها كما يمكن أن ينضم إليها خبراء دوليون.
حتى سلاح حزب الله يخضع لهذه المعادلة ويتحمل الخليجيون مسؤولية الدفاع عن لبنان في حالة أي تعد إسرائيلي، كذلك سلاح المخيمات. الضمانة خليجية وسخاء الدعم الاقتصادي الخليجي مشروط بالأمن.
لماذا يمكن أن يأتي الحل من الخليج؟
1 - هناك فائض مالي خليجي يسمح بذلك اليوم.
2 - دول مجلس التعاون ستكون مهددة من الحالة التقسيمية الفتنوية التي تقترب من حدودها.
3 - هناك نجاح خليجي واضح في الإدارة الاقتصادية والمالية يمكن البناء عليه والإستفادة منه. كذلك يمكن الاستفادة من النجاحات المحققة في إطار مجلس التعاون الخليجي.
4 - ما يحصل بين إيران والإمارات اليوم من تحضيرات لإتفاقات تجارية واقتصادية بينية واسعة رغم الخلاف المستحكم على الجزر الإماراتية الثلاث التي تحتلها إيران هو دليل على إمكانية فصل التعاون الاقتصادي عن الأزمة السياسية.
5 - دول الخليج سترث عاجلاً أو آجلاً عبء الإعمار والفاتورة أقل اليوم مما يمكن أن تكون عليه في المستقبل.
6 - لا مطامع استعمارية عند الخليجيين ولذلك فإن الخوف من تصنيف هذا المسار تحت خانة <تنازلات> سيادية في غير محله.
لبنان يمكن أن ينتظر هكذا حل أو يتحمل نتائج دخول المنطقة في المسارات الأخرى بسلبية وبلادة سياسية كما يحصل اليوم، أو يمكن أن يحضر برنامجاً اقتصادياً اجتماعياً متكاملاً يحصن البلد لعقود آتية.
حان الوقت لعقد طاولة حوار اقتصادي واجتماعي. وحده رئيس الحكومة تمام سلام قادر اليوم على الدعوة لهكذا طاولة تكون دول الخليج وإيران من أهم الحاضرين فيها، وتكون السياسة الغائب الأهم عنها.