تفاصيل الخبر

بيروت تروي حكايات الموت

13/08/2020
بيروت تروي حكايات الموت

بيروت تروي حكايات الموت

بقلم علي الحسيني

[caption id="attachment_80176" align="alignleft" width="500"] الخراب والدماء في الجميزة .. ثقافتهم قتلنا[/caption]

 في غفلة من الزمن، يتحوّل كل شيء من حولك إلى ركام ودمار. وحدها الصرخات تحتل أمكنة تحوّلت هي الأخرى إلى مساحات خالية من الحياة. لا شيء في بيروت إلا ويدعو للموت، أبنية سويّت بالأرض، رائحة الدماء تفوح في الأجواء لتمضي معها رحلة البحث عن أحياء. هي ثوان معدودة لم يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، كانت كافية لتحويل بيروت الى دمار وركام وإلى سقوط أكثر من 160 شهيداً و6 آلاف جريح وأكثر من ثلاثين مفقوداً يُرتجى أن يكون بينهم أحياء على الرغم من فقدان الأمل خصوصاً وأن أكثر من أسبوع مضى على فقدان أثرهم.

لكم الله يا أهل بيروت

[caption id="attachment_80177" align="alignleft" width="418"] المجتمع المدني يُساهم برفع الأنقاض.. طائر الفينيق.[/caption]

لا شيء يوحي بأن ثمة حياة كانت هناك، فكل الأشياء تحوّلت إلى مُجرّد ذكرى. الأبنية سويّت بالأرض، والشوارع والأحياء تُخبر حكايات عن افتقادها لأثر أحباء وهم الذين كانوا يمرّون بينها وعليها بشكل يومي ويُلقون سلامهم عليها عند شروق الشمس ومغيبها، ويروون قصصاً عن أبطال خانتهم قواهم من الصمود تحت الأنقاض، فقرروا الرحيل بهدوء ومن دون أي ضجيج، حتّى لا يُزعجوا أهل السلطة النائمين في أبراجهم العاجيّة المُشيّدة، يتكئون على الحرائر بعيداً عن زحمة الموت وأنين الجرحى، ودعوات الإستغاثة من تحت الأرض، وفوقها.

هي بيروت الجريحة التي وقفت على مرّ التاريخ في وجه الطواغيت، والأعاصير. بيروت التي دُمّرت مرّات ومرّات، ها هي اليوم تبكي أبناءها، تبكي أحياءها ومنازلها. بيروت الشاهدة على استهتار السلطة وعلى إجرامها بحق شعبها، زفـت الاسبوع الماضي شهيدة على مذبح الوطن مع ثُلة من أبنائها بينهم الطفلة الكسندرا، الملاك التي كانت تُزيّن بوجودها العاصمة في كل مرّة كانت تمر في شوارعها وهي في طريقها إلى وسط بيروت للمشاركة في الاحتجاجات ضد تسلّط السلطة وفسادها، وضد القهر والجوع الذي يُعاني منهما الشعب اللبناني.

الموت يخطف الكسندرا من أحلامها

[caption id="attachment_80178" align="alignleft" width="250"] صورة معبرة للطفلة الشهيدة الكسندرا نجار[/caption]

المؤكد أن استشهاد الكسندرا عرّا السلطة، ودماؤها هي التي أدت إلى إسقاط حكومة الرئيس حسّان دياب، فهي التي كان يصدح صوتها عبر مكبرات الصوت بالدعوات الى إسقاط الحكومة، لكن هذه الأخيرة بدل أن تخجل من وقفة طفلة، تآمرت على قتلها وهدرت دمها داخل منزلها بعد أن أدى عصف الانفجار إلى ارتطام رأسها بالأرض أمام أعين والديها. وقد تعالى والدها على الكارثة التي حلّت به وبزوجته بفقدان طفلتهما الوحيدة متوجهاً الى السلطة بالقول: كلكم مجرمون، ما قمتم به هو جريمة بحق عائلتنا، قتلتمونا داخل بيتنا، محل ما لازم نكون آمنين. كما دعا الى توحيد الشعب اللبناني طالباً ألا يذهب موت ابنته من دون أثر.

رحلت الكسندرا من دون أن تتمكّن من وداع "الرفاق" في ساحات الحرية، رحلت من دون أن ترى حلمها يتحقّق برحيل الحكومة وبانتصار الشعب الأول على السلطة. الكسندرا الطفلة الملاك في عيون الجميع، كانت وقفت امام عدسة الكاميرا لتُعبّر عن أحلامها في أغنية "عطونا الطفولة". بصوتها الملائكي زرعت الحب في عيون الناس وبجمالها الخارجي، منحت الأمل للجميع بأن غداً هو يوم أفضل من اليوم. وما يُعزيّنا ويُعزي أهل الكسندرا، أن رفوف الحمام التي سألت عنها، عادت لترفرف مُجدداً في سماء العاصمة، وأن الحريّة التي نادتها، أصبحت في متناول اللبنانيين، وان بيروت فعلاً قامت من تحت الردم.

الثوّار يُعيدون الحياة لبيروت

[caption id="attachment_80175" align="alignleft" width="405"] الثوار من ساحة الشهداء.. ولاد البلد[/caption]

كلٌ بحسب إيمانه ومعتقداته، وقف مساء الثلاثاء ليتلو صلاته عن روح الشهداء الذين سقطوا نتيجة الفساد والاستهتار، والدعوات لشفاء الجرحى وعودة المفقودين إلى ذويهم. أياد رُفعت في الأعالي وأقسمت على أن الدماء لن تذهب هدراً وأن كل هذه السلطة ستدفع ثمن ما ارتكبته، والأبرز في القسم، أن لا عودة إلى المنازل بعد اليوم، قبل رحيل كل هؤلاء السياسيين، إما خارج البلاد أو إلى السجون. هؤلاء الثوار أعادوا إضاءة ليل بيروت بالشموع وأعادوا الحياة لها بأصواتهم التي عادت لتصدح مُجدداً بشعار "كلّن يعني كلّن"، وتحت عنوان "يوم الحساب".

وأبرز التحركات التي قام بها الثوار، احتلالهم لوزارة الخارجية ولو أنه لم يدم طويلاً بفعل بطش القوى الأمنية بالإضافة إلى التهديد المُفتعل بأن المبنى يُمكن أن ينهار على رؤوس الجميع بفعل تصدعه نتيجة الإنفجار. وكان من ضمنهم ضباط وعسكريون متقاعدون على رأسهم العميد المتقاعد سامي الرماح، وقد ورفعوا لافتة كبيرة كُتب عليها: "بيروت مدينة منزوعة السلاح"، وأخرى كتبوا عليها: "بيروت مدينة الثورة".

وتلا العسكريون المتقاعدون البلاغ رقم واحد من وزارة الخارجية واعلنوها مقراً للثورة ودعوا المواطنين الى الانضمام الى المقر مطالبين باستقالة الحكومة. وتوجه العميد المتقاعد جورج نادر الى قوة من الجيش اللبناني حضرت الى الخارجية للتفاوض مع العسكريين المتقاعدين بالقول: هذا رد على الجريمة التي ارتكبتها ميليشيات أحزاب السلطة المسماة حرس مجلس النواب والذين أطلقوا النار على الثوار وأصابوا 8 متظاهرين. وتزامناً صدر عن قيادة الجيش بيان أعربت فيه عن تفهمها لعمق الوجع والألم الذي يعتمر قلوب اللبنانيين وتفهمها لصعوبة الأوضاع الذي يمر بها وطننا، مُذكرة المحتجين بوجوب الالتزام بسلمية التعبير والابتعاد عن قطع الطرق والتعدي على الاملاك العامة والخاصة.

إحتضان خارجي للشعب فقط

[caption id="attachment_80179" align="alignleft" width="375"] ماكرون ...بين الدمار[/caption]

وسط هذه الاجواء، ظهر الاحتضان العربي والغربي للبنان في محنته، واللافت أن جميع الدبلوماسيين والسياسيين الذين وصلوا الى بيروت، كانوا يُعربون عن تضامنهم مع لبنان الشعب لا الدولة، وهذه المواقف هي التي وضعت الأمور في نصابها وأوقفت الحكومة عند حدّها، إلى حين قرّرت الإستقالة. والأبرز هي تلك الرسالة التي وجهها رئيس المجلس الأوروبي "شارل ميشال" لكل اللبنانيين بالقول "لستم لوحدكم والاتحاد الاوروبي معكم بالافعال لا الاقوال وهناك نية وتأكيدات على مساعدة لبنان بإعادة الاعمار، داعياً في الموازاة الى الشفافية والاصلاحات.

وفي الوقت الذي كان ولا يزال ينشط فيه متطوعون في كل شارع وزقاق لرفع الركام وشظايا الزجاج المبعثرة في كل ناحية وصوب ومساعدة الناس وخصوصاً المحتاجين في هذا الوقت العصيب، بدت الأجهزة الرسمية شبه غائبة عن الدور الذي يُفترض ان تقوم به، أقله لجهة مسح الأضرار وتفقّد أحوال الناس. وقد اشتكى جميع المواطنين من أن أحداً من السياسيين لم يتصل بهم، أو يعرض عليهم أي مساعدة. لكن في المقابل، قدّرت الأمم المتحدة المساعدات التي يحتاجها لبنان، بنحو 117 مليون دولار في الأشهر الثلاثة المقبلة لتلبية الاحتياجات الطبية ومتطلبات الإيواء وتوزيع المواد الغذائية وتنفيذ برامج لاحتواء تفشي فيروس كورونا المستجد وغيرها.

وقد تعهّد المجتمع الدولي بتقديم مساعدة عاجلة بقيمة أكثر من 250 مليون دولار، وفق ما أعلنت الرئاسة الفرنسية، على أن تسلّم إلى الشعب اللبناني والجمعيات غير الحكومية مباشرة، في مؤشر إضافي الى انعدام الثقة الخارجية بالدولة اللبنانية ومؤسساتها.

مشتبهون وتحقيقات

بالنسبة غلى التحقيقات حول إنفجار المرفأ والكارثة التي خلّفها على جميع الصعد، فقد صدر عن النائب العام لدى محكمة التمييز القاضي غسان منيف عويدات بياناً أشار فيه الى أن التحقيقات الاولية بوشرت من قبل جميع الاجهزة الامنية بإشراف مفوض الحكومة بالانتداب القاضي فادي عقيقي وبإشرافنا، وتم توقيف 19 مشتبها به بعد الاستجواب، ولا تزال التحقيقات مستمرة وذلك على محاور ثلاثة: محور الاسباب المباشرة وغير المباشرة للتفجير ومحور قضية الباخرة ومحور المسؤوليات، علما انه قد تتشعب عن ذلك محاور اخرى..

وقال: اعتمدنا في مقاربتنا للقضية نمطاً ومنهجاً علمياً في التحقيق يتلخص بما يلي:

[caption id="attachment_80180" align="alignleft" width="343"] محتجون وسط بيروت.. علّقوا المشانق.[/caption]

أولاً:  دراسة ساحة الجريمة والتحاليل المرتبطة بها: تحليل التربة، مراجعة اشارات المركز الوطني للجيوفيزياء في بحنس بالنسبة لقوة الارتدادات، تحليل الرواسب العالقة على الجثامين، تحليل الاتصالات في محيط المرفأ، التزود بصورة الاقمار الاصطناعية المسلطة على المنطقة، مسح ميداني للمباني المحيطة والاستعانة بفرق الغطاسين الاجانب واللبنانيين لإجراء أعمال البحث والتفتيش عن كل ما يتعلق بالانفجار، ضبط السجلات والبيانات الرقمية المخزنة، ضبط الصور والفيديوهات ومحتوى كاميرات المراقبة، الجردة بمحتويات العنبر 12 وصوره قبل الكارثة، الاستعانة بالمختبرات والخبرات المحلية والدولية في العلوم الجنائية كافة،  تحديد هوية الضحايا غير المعرفين بواسطة فحوصات الحمض النووي  DNA، تحديد البواخر التي كانت راسية في مرفأ بيروت وذلك قبل الانفجار وبعده. ثانياً: الفرضيات التي تؤدي الى استبعاد او تثبيت حصول العمل الارهابي او المعتمد وذلك باللجوء الى بعض الوسائل التالية: استجواب الاشخاص الذين كانوا في مكان وقوع الانفجار، او كان لهم دور في الظروف التي أدت الى حلولها، والعمال والاشخاص الموجودين قبل وقوع الانفجار، شهود العيان قبل واثناء وبعد الانفجار ومجريات الامور وتسلسلها، والسؤال عما إذا كانت هناك نشاطات بحرية او جوية او برية قد يتأتى منها عمل عسكري طوال الفترة الممتدة من العام 2013 لغاية العام 2020 وما طرأ عليها وتحديد اسباب وفرضيات تفاعلها التي قد تكون أدت الى الكارثة المشهودة.