بقلم علي الحسيني
[caption id="attachment_83527" align="alignleft" width="384"] التحقيق الجنائي في مصرف لبنان .. الى أين؟[/caption]
يتحوّل الصراع بين الأفرقاء السياسيين في لبنان من صراع على الإنماء وإعمار البلد وعلى تلبية حاجات واحتياجات المواطن، إلى صراع على السلطة وتكريس الزعامات، وصولاً إلى صراع توريث المناصب والكراسي. ومن قلب هذا الصراع المتعدد الأوجه، يبرز الخلاف القائم اليوم بين رئيس الجمهورية ومجلس النوّاب على خلفيّة تحديد منابع الهدر والفساد إذ ان لكل منهما وجهة نظر في موضوع التحقيق الجنائي تقول إن الدقيق يجب أن يبدأ طبقاً لهذه القاعدة وليس تلك.
مشكورة السلطة على خرابها
بمجهود غير مسبوق من السلطة الحاكمة، تحوّل لبنان إلى بلد مفتوح على كل الاحتمالات، فما فعلته هذه التوليفة السياسية حتّى اليوم أنها وضعت البلد على حافّة الإنهيارات المتعددة وراحت تتفرّج عليه وهو يسقط من دون حتّى أن يرفّ لها جفن ولا ان تسقط لها دمعة أقلّه على الجرم الذي اقترفته يدها في وصول الوضع الاقتصادي الى هذا الحد، أو على ضريح طفل سقط نتيجة إهمالها وإجرامها في ما يتعلّق بتفجير المرفأ. لذلك، لا بوادر أمل ولا حلول تُرتجى في الوقت الراهن لإخراج البلد من محنته، حتّى المبادرات التي كان يُعوّل عليها ضاعت هي الأخرى في دهاليز المصالح الطائفية والمذهبيّة والحزبيّة، وبات الرهان على أعجوبة سماوية تُنهي عهود التسلّط، الرجاء الوحيد للتخلّص من المرض السياسي المُعدي الذي تفشّى في المؤسسات وإدارات الدولة، وبات يُهيمن على الحياة بكل جوانبها ويتحكّم بكل مفاصلها، لدرجة أنه تحوّل إلى شرط أساسي للنجاح في مؤسّسات الدولة.
المؤكد أن العلّة جمعاء وقوامها موجود لدى جميع الأطراف السياسيين والحزبيين، لأن أهم الأُسس التي يُشترط أو يُفترض وجودها لبناء الدولة وهي قيادة موصوفة بالصدق والاخلاص للوطن وليس للخارج والعمل للمواطن وليس للمحسوبيات، جميعها أمور تفتقدها البلاد في ظل "عصابة" تُهيمن على الرغيف والدواء والغذاء وتتلاعب بسعر صرف الليرة طبقاً لحساباتها المالية والسياسية واستنباط القوانين وفقاً لحساباتها المذهبيّة الضيّقة، بالإضافة إلى تحويلها الطوائف الى متاريس تتلطّى خلفها وباسمها عند "الحشرة".
خلاف الرئاستين.. من أين نبدأ؟
[caption id="attachment_83529" align="alignleft" width="425"] النائب جبران باسيل ... وحلم الرئاسة.[/caption]خلافات كانت طبعت الأيّام السابقة عنوانها من أين البدء بالتحقيق الجنائي. ففي وقت كان مطلب الرئيس عون حصر ملف التدقيق بمصرف لبنان وحده، أصرّ الرئيس بري على أن يشمل كل الوزارات والإدارات في الدولة. وبناء على الرسالة التي طلب من خلالها عون المجلس النيابي بعقد جلسة تتعلق بالتدقيق الجنائي والإجراءات الممكن اتخاذها بعد قرار شركة Alvarez and marsal فسخ العقد مع الدولة اللبنانية، انعقدت جلسة الاسبوع الماضي في قصر الأونيسكو خرج بعدها الجميع مرتاحاً للأجواء التي سادت الجلسة، إذ إن كل طرف اعتبر نفسه منتصراً على الآخر من خلال تحقيقه ما كان يصبو اليه.
على خط "التيّار الوطني الحر"، فقد رأى أن المجلس استجاب لطلب عون، وأهم مستوى يمكن ان يتخذه المجلس النيابي هو القرار الذي اتخذه باخضاع كل المؤسسات والوزارات والادارات كما طلبنا كتيار وطني حر منذ البداية ومصرف لبنان للتدقيق الجنائي. واعتبر "التيّار" ان الامور ذهبت بخطوة متقدمة الى الامام، وكل الجدل الذي حصل سابقاً حسمه المجلس النيابي وهذا الأمر يمهد لمعرفة مصير المال العام والودائع، ويفتح المجال امام محاسبة جدية وتحميل للمسؤوليات، وانقاذ واصلاح مالي تطالبنا به الدول وأهلنا في لبنان.
من جهته يؤكد النائب ميشال ضاهر أن الجلسة كانت لإعلان الافلاس والعجز عن المحاسبة. وفيها الكثير من الزجل والدجل أعادت الكرة إلى نقطة الصفر بعد إفلاس البلد وسرقة أموال المودعين. فإلى حين تأليف حكومة جديدة لاجراء مناقصة دولية للتدقيق الجنائي سيهاجر نصف الشعب اللبناني هرباً من المجاعة والموت.
عين التينة: إنه صراع قوانين
مصدر مقرب من عين التينة أكد لـ"الافكار" أن ما يجري هو صراع قوانين، فالرئيس بري يُصرّ على حصول تدقيق جنائي في كل مؤسسات الدولة والوزارات والإدارات العامة وليس في مؤسسة واحدة، بينما هناك فئة كانت
[caption id="attachment_83530" align="alignleft" width="516"] النائب محمد رعد على رأس كتلة الوفاء للمقاومة .. يقف بين عون وبري[/caption]تُصرّ على حصر التدقيق بالمصرف المركزي، وفي نهاية الأمر تم إحقاق الحق على الرغم من الكيدية الواضحة التي تعاطى بها البعض مع مطلب الرئيس بري الذي ما زال يرفض المس بشخص حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وإصراره على أنه صمّام أمان للوضع الاقتصادي والمالي في لبنان.
المعروف أن "حزب الله" كان اضطر في مرحلة سابقة للتناغم مع باسيل، لكن وسط إصرار بري وتشدده في هذا الموضوع عاد وانكفأ الحزب قبل يومين من موعد الجلسة بقرار "رمادي" على قاعدة "لا ضد ولا مع". وخلال الجلسة أعلن رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد تأييد "الحزب" اجراء التدقيق الجنائي في مصرف لبنان وان ينسحب التدقيق الى سائر القطاعات، مقترحاً اقرار قانون استثنائي موضعي وموقت يعالج هذا المانع الراهن برفع السرية المصرفية اذا كان ذلك ضرورياً، لأن هذا أسهل وأسرع تدبير لمعالجة هذه الثغرة. وندعو الحكومة المستقيلة الى وضع التدقيق المحاسبي الجنائي لحسابات مصرف لبنان موضع التنفيذ والاستجابة لما يقرره مجلس النواب.
من يُريد الإصلاح ومن يُريد الخراب؟
برأي مصدر نيابي في كتلة "التنمية والتحرير" أن من حق الرئيس عون دستورياً توجيه رسالة الى مجلس النواب لإجراء التدقيق الجنائي في جميع مؤسسات الدولة، وقد انحصرت الجلسة وفقاً للرسالة هذه. لكن أيضاً من حق رئيس المجلس أن يدعو اللجان النيابية لجلسة تتعلق بقانون الانتخاب، هذا مع العلم أن بري ليس متمسكاً بطرح قانون لبنان دائرة انتخابية واحدة، ويُمكن أن يقبل بالدوائر الخمس او الست، لكن لا بد من نقاش جدي في هذا الملف.
ويختم المصدر: المشكلة أن الرئيس بري يُريد إصلاح الخراب في البلد والإصلاح يبدأ بقانون إنتخابي جديد، بينما البعض لا يُريد سوى الاستمرار بالخراب وتدمير المؤسسات من أجل إعادة بنائها على القاعدة التي تُناسبهم هم.
لا حل إلا بالثورة
[caption id="attachment_83528" align="alignleft" width="516"] الرئيسان ميشال عون ونبيه بري...صراع دستوري وقانوني بينهما.[/caption]كانت ثورة 17 تشرين ربّما الخرطوشة الأخيرة التي امتلكها الشعب في حربه مع السلطة المُمتدة منذ عشرات السنوات لتغيير واقعه المأزوم، حتّى نافذة الأمل هذه جرى إغلاقها على يد العصابة الحاكمة التي حوّلت موجات الغضب البشرية التي امتدت من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، إلى ساحات فرز طائفي ومذهبي تُعبّر فيها كل مجموعة عن مشروعها الحزبي الخاص، خدمة لهذا المسؤول أو ذاك الزعيم، في حين أن الأزمة المعيشيّة والاجتماعية قد أصابت جميع الطبقات بمن فيهم أولئك الذين تكفّلوا بزرع بذور الشقاق داخل أماكن الاعتصام وفي الساحات العامة.
بالإضافة إلى الحرب الاقتصادية التي تشنها السلطة السياسية على شعبها، ثمة حرب من نوع آخر تستجلبها هذه السلطة لتزيد من الأزمات وهي حرب التهديدات الخارجية وتأتي في طليعتها الإسرائيلية بحيث لم يعد يمر يوم من عمر اللبنانيين إلا وتتصدر لوائح التهديدات العناوين على وسائل الإعلام وآخرها تهديد وزير الحرب الإسرائيلي، استعداد بلاده لضرب البنى التحتية للدولة اللبنانية، إذا ما نفذ "حزب الله" أي عملية ضد إسرائيل.
غيابها لا يعني موتها
العديد من الشخصيّات المعنيّة بثورة 17 تشرين والتي ما زالت تجهد في سبيل تحقيق أبرز أحلام الثورة وهي إزاحة كل هذه السلطة عن الحكم على الرغم من المعوقات الكثيرة التي توضع في طريقها في سبيل منعها من الاستمرار في حلمها، ترى أن التحرّر من هذه السلطة أصبح حلم كل مواطن، حتّى الذين يُكابرون على هذه الأحلام، هم في مكان ما متضررون من إجرام السلطة بشكل أو بآخر. فعلى سبيل المثال، لا توجد عائلة أو فرد إلا وتأثروا بلقمة عيشهم، أو فقدوا قريباً أو صديقاً أو أحد معارفهم خلال تفجير المرفأ.
وبحسب الشخصيّات فإن الثورة مُستمرّة ومكمّلة في طريقها حتّى تحقيق الهدف وهو إزاحة هذه السلطة من مكانها، وعلى الرغم من تراجع الأداء في محطّات كثيرة وذلك نتيجة القهر والضغط الذي تتعرّض له السلطة، إلّا أنها تظلّ حالة معينة بحيث تقوم بين الحين والآخر بالنزول الى الشارع لتذكير الناس بواجباتهم تجاهها وبأسباب الدعوات لنزولهم إلى الشارع والأرباح التي حققتها بالمعنى السياسي لأنه ومن خلال الضغوط التي مارسناها وبتأييد دول الخارج لمطالبنا والاعتراف بحقوقنا، أصبحت هذه السلطة في مكان ما، عاجزة عن القيام بأي خطوة على صعيد تأليف الحكومة، خشية من ردود فعلنا وردود الفعل الدولية، وأبرزها "بطاقة" العقوبات الجاهزة لكي تُرفع في وجوههم جميعاً.