بقلم عبير انطون
في الصحراء القاحلة القاتلة التي نعيشها، لا زالت هناك مساحات من نور وثقافة وحضارة. وفي زمن الثرثرة الكثيرة من هنا وهناك، لا تزال شخصيات مثل ميرنا البستاني تعطي بعضاً من الأمل بالبقاء في وطن كان فيه يوماً كبار مثل والدهاالوزير السابق ورجل الاعمال الراحل إميل البستاني مؤسس شركة <الكات> مع شريكيه عبد الله خوري وشكري الشماس، النائب والوزير الأسطورة، الذي قاد إعادة إعمار ما ضربه زلزال 1956 بقدرات استثنائية، فلقّب اثر سقوط طائرته وصديقه الدكتور نمر طوقان في الخامس عشر من آذار/ مارس قبل واحد وخمسين عاماً بـ<الجبل الذي هوى في البحر> بعد أن كان قد بنى لنفسه قبراً في قريته في الشوف (الدبية) واحتفل به مع أصدقاء له بعد الانتهاء من بنائه، الا ان القدر شاء له البحر يرتاح فيه بدلاً من البرّ.
ميرنا البستاني، ابنته، هي أول امرأة عضو دخلت البرلمان اللبناني لتكمل ولاية والدها الراحل، أكملت دربه في الأعمال، وتترأس <مهرجان البستان للموسيقى والفنون الدولي> منذ اثنين وعشرين عاماً. السيّدة الأنيقة في كل تفصيل نادرة الإطلالات الاعلامية، كلامها هو العمل، وأملها أن تصبّ فنون العالم كله في قلب لبنان منارة الشرق عله يستعيد بريقه من جديد.
وقد خصت السيدة البستاني مجلة <الأفكار> بهذا اللقاء الذي ابتعدت فيه عن أي حديث سوى عن مهرجان <البستان> المنوع، ولما سألناها عن امكانية عودتها مجدداً الى الندوة البرلمانية، إذا ما شاء القدر ان نعود الى ممارستها كلبنانيين من جديد بعد تمديد اثر تمديد، ابتسمت قائلة: <كلا> وبدون أي تعليق آخر. وكان السؤال الأول:
ــ اثنان وعشرون ربيعاً هو عمر مهرجان البستان الدولي. ما سر بقائه متألقاً؟ هل هو الاصرار على المواجهة بالموسيقى؟ هل هو وفاء الجمهور له، ام هو طموح القيمين عليه ان يبقى على الخريطة الفنية اللبنانية مهما كانت الظروف؟
- سر بقاء المهرجان متألقاً هو تحقيقه معادلة البرنامج والجمهور. نسعى من خلال البرنامج الذي يتمحور في كل عام حول موضوع معيّن ان يكون منوعاً من حيث الأنماط الموسيقية فهو يشمل الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الدينية والجاز وموسيقى العالم وغيرها بالإضافة الى عروض الاوبرا والمسرح والرقص. يتزامن المهرجان مع نشاطات أخرى كورش العمل الموسيقية والفنية والمحاضرات وغيرها.. جمهور البستان الوفي الدائم عادة ما يكون في طليعة الحضور، أضف اليه شريحة جديدة تأتي وتزداد كل عام لتكتشف الاعمال الموسيقية والفنيّة في جوّ دافئ وحميم في فندق البستان وسائر المناطق الأخرى، اذ تقام بعض الحفلات في الكنائس والجامعات أيضاً. مهرجان البستان هو صرح ثقافي وموسيقي اثبت وجوده على الخريطة الفنية منذ اثنتين وعشرين سنة مهما كانت الظروف.
الإلهام والوحي
ــ كيف جرى اختيار موضوع <الإلهام والوحي> لهذا العام وسط <اللاإلهام واللاوحي> الذي نعيشه، وما أبرز ما يحمله الينا لهذا العام؟
- موضوع <الإلهام/ الوحي> كان تلقائياً. في العادة نختار الموضوع لسنة او سنتين لاحقتين. في العام 2015 لم يكن الموضوع العام قد تم اختياره بعد، فكما يهبط الإلهام او الوحي على الأنبياء والمؤلفين كانت فكرة <الإلهام/الوحي> عنواناً لمهرجان هذا العام، علّ الإلهام يهبط أيضاً فيبث الوحي والإبداع في زمن طغت عليه الحروب والعنف. المهرجان هو فسحة للخيال والالهام والوحي، وهو يحمل تنويعاً كبيراً وأعمالاً عالمية ويتميّز هذا الموسم بتحية الى مغنية الأوبرا ماريا كالاس عبر بعض أمسياته..
ــ ما كانت أبرز الصعوبات التي واجهتكم لوضع هذا البرنامج، وهل اثرت الاجواء السائدة وأدت الى اعتذار فنانين معيّنين واستبدالهم بآخرين؟وهل تلمسون تخوّفاً لدى الذين اعلنوا حضورهم؟
- الصعوبات التي نواجهها هي نفسها كما في كل عام: الوضع الامني في المنطقة!. لكننا نصر على تكملة الرسالة الثقافية التي يرنو المهرجان الى ايصالها عبر الموسيقى والفن الراقي. نسعى أيضاً الى إبراز الوجه الثقافي والسياحي عبر أخذ المشاركين الى المرافق السياحية الممتدة في مختلف انحاء لبنان خلال فترة إقامتهم في البلد.
ــ هل من تنسيق مع مهرجانات لبنان الدولية الاخرى (وهي صيفية) بشأن الفنانين المشاركين ام ان أجندتكم تحدد مسبقاً؟
- نحدّد أجندة مهرجان <البستان> قبل سنة أو سنتين، وهي تخضع لبرامج الفنانين وجدول سفرهم العالمي لذلك يتم التحضير مسبقاً.
ــ بلدة بيت مري العريقة بلدة صيفية بامتياز، وميزة مهرجان <البستان> منذ تأسيسه انه شتوي. لكن، هل فكرتم يوماً بنقل المهرجان الى أيام الصيف حيث المصطافون والسياح يتوافدون بشكل أكبر؟
- ميزة مهرجان <البستان> انه المهرجان الشتوي الوحيد في لبنان. نسعى من خلال هذا التوقيت الى جعل كل فصول السنة زاخرة بالمهرجانات والحفلات على امتداد أيام السنة.
ــ يؤخذ على المهرجان انه للنخبة فقط، هل هذا صحيح ومن هو جمهور المهرجان حالياً؟
- جمهور <البستان> اليوم هو الجمهور الذي واظب على الحضور طوال الأعوام الماضية بالإضافة الى محبي الموسيقى الكلاسيكية من الشباب ومن شرائح المجتمع كافة.
ــ يهتم المهرجان بأنواع الموسيقى العالمية الغربية، ولاوبرا <سترافنسكي> فيها مكان مميز لهذا العام. هل ترى السيدة البستاني ان الغناء الاوبرالي العربي تحديداً نجح في عالمنا ام انها لا تزال مجرد محاولات ذلك ان مسار الثقافة الاوبرالية ما زال طويلاً؟ وهل تدعو في هذا الصدد الى انشاء دار للاوبرا في لبنان كما تبرز مطالبات عديدة في هذا الشان؟
- الغناء <الأوبرالي> او الموسيقى <الاوبرالية> يستدعي أن يكون متاحاً أمام الناس كي يواظبوا على التعرف اليه والاعجاب به، وبالتالي حضور عروضه. وفي كل عام تكون حصة الاوبرا كبيرة في مهرجان <البستان> اذ تكون مستوحاة من موضوع السنة لذا قدمنا على مدى اثنتين وعشرين دورة أوبرا لمؤلفين مختلفين، ففي العام 2006 مثلا قدمنا اوبرا <موزارت> بالعربية مع مغنين <أوبراليين> من مصر. اما في ما يتعلّق ببناء دار للأوبرا، فإنني أجده ضرورة ثقافية واقتصادية ولبنان يستحق داراً للأوبرا. ولا يمكن اعتبار دار الاوبرا نوعاً من الرفاهية الثقافية، وانها حتماً ليست للنخبة فقط وليست للمغنين والموسيقيين حصراً. فدار الأوبرا تؤمن وظائف لشريحة واسعة من المهندسين والنجارين ومصممي الديكور والخياطين ومصففي الشعر ومصممي الأزياء والحرفيين وغيرهم. لقد جرت في لبنان محاولات صادقة لإنتاج أعمال <أوبرالية> مثل اوبرا <كارمن>، <الكسير الحب> إلخ، وعلى الرغم من ان هذه الاعمال كانت <متواضعة> فقد توافدت حشود من الناس اليها بفخر وحماسة.
ــ الى أي مدى تساهم الوزارات المعنية (السياحة، الثقافة) في دعم المهرجان وميزانيته سنوياً؟
- ميزانية المهرجان هي حصيلة بيع البطاقات وأعمال الرعاية من قبل المصارف والمؤسسات الخاصة ونحن نشكر وزارتي السياحة والثقافة لدعمهما المهرجان عبر التسهيلات لتأشيرات الدخول للفنانين المشاركين فيه.
<كورس البستان>
ــ ماذا عن <كورس البستان>، كيف نشأت فكرته ومن هم المنتسبون اليه؟
- نشأة <كورس البستان> وليدة رغبة شخصية لتكوين مجموعة تؤدي موسيقى وأغاني <الكورس> وذلك بعد أن حضرت في لندن احتفالاً لمعلمة تدعى <تينا بروكس> تعطي دروس غناء <الغوسبل> لمشاركين هواة. منذ العام 2009 و<كورس البستان> يكبر عدداً وأصبح في <ريبرتواره> كمّ هائل من الموسيقى الايطالية واللاتينية والفردية وغيرها.
ــ تحرصون دائمــــاً على ابراز مواهب لبنانية في مهرجانكم الدولي. كعضو في <EUROPEAN Festival Association>، هل تساهمون في إيصال فنانين ومواهب لبنانية الى المهرجانات العالمية بدوركم؟
- العديد من الفنانين والعازفين اللبنانيين انطلقوا الى المهرجانات الدولية بعد أن أتاح لهم مهرجان البستان فرص العرض ضمن برنامجه مثل سمر سلامة وتوفيق معتوق، عدا عن ان المهرجان نظم عدداً من ورش < اختبار الاداء> التي ساهمت في تأمين منح الدراسة خارجاً كالتي حصل عليها كلود شلهوب مثلاً.
ــ في مسيرة المهرجان الذي انطلق منذ العام 1994 تحت عنوان <الحب> وصولاً الى <الإلهام والوحي> في 2015، اي موسم تحتفظ به ذاكرة السيدة البستاني كـ<موسم عزّ> مميّز؟
- مهرجان الموسيقى اللاتينية عام 2012 كان من أبرز المحطات التي اعتبرناها موسم عز. فقد عرفتنا القارة اللاتينية على موسيقى جديدة وملونة وحارة مثل طبيعتها الغريبة. كانت المفاجأة الأكبر أن العديد من الفنانين المشاركين كانوا من أصول لبنانية، بفعل الاغتراب في أوائل القرن الماضي حيث استقرت عائلاتهم واندمجت في أميركا اللاتينية... هذا المهرجان ساهم في إحياء العودة الى الجذور.
ــ هناك أسعار تشجيعية للأولاد ولتلامذة المدارس وكنت قد طالبت بإدراج الثقافة الموسيقية في المناهج المدرسية اللبنانية شخصياً، وبالعودة الى طفولتك، كيف تستعيدين غرس بذور حب الموسيقى في شخصيتك؟ أين تعلمتها، مع من؟
- فريق مهرجان <البستان> يسعى الى دفع الناس لحضور الحفلات وخاصة الاولاد والتلامذة: للأولاد تحت عمر 12 سنة حسم 50 بالمئة من سعر البطاقة، وللتلامذة تحت سن الخامسة والعشرين لدينا اشتراك يتيح لهم شراء البطاقة بسعر زهيد قبل الحفلة، بالإضافة لعروض أخرى تجعل حفلاتنا متاحة للجميع. أما حب الموسيقى لدي فقد شبّ معي في البيت ومختلف المدارس التي نشأت فيها.
ــ أين السيدة البستاني من الغناء الشرقي العربي؟ وهل من أسماء لبنانية معينة تستمع اليها؟
- أعشق الموسيقى والغناء الشرقي بمقاماته كافة وتستهويني آلة الدفّ كثيراً لما تبثّه من ايقاع.
ــ والإيقاع السياسي هل من عودة اليه عبر الندوة البرلمانية من جديد وهي فعلاً بحاجة الى وجوه مشرقة لامعة؟
- كلا، اذ ما من تفكير في هذا المجال.