بقلم خالد عوض
[caption id="attachment_85008" align="alignleft" width="375"] الرئيس الأميركي "جو بايدن": تركة "ترامب" أثقل من تركة "كورونا".[/caption]هناك مئات الآلاف وربما الملايين من الأميركيين الذي يعتقدون أن وصول "جو بايدن" إلى البيت الأبيض هو بداية نهاية الولايات المتحدة. هؤلاء كانوا أقل بكثير عندما فاز أول شخص من أصول أفريقية بالرئاسة الأميركية عام ٢٠٠٨. يومها دخل "باراك حسين اوباما" إلى البيت الأبيض وحمل الأمل والثقة بالمؤسسات الأميركية حتى للذين كانوا ضده ولم تكن شرعيته مختلفاً عليها إلا من بعض المتطرفين. أما اليوم فالمسألة مختلفة. بعض هؤلاء الغاضبين مؤمن بأن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات بالتزوير والتعتيم الإعلامي. ومنهم من يظن أنه بذهاب "ترامب" لن تعود "أميركا عظيمة" من جديد لأنها ستميل إلى اليسار والأفكار الاشتراكية المناقضة للاقتصاد الحر. وجزء آخر يظن أن "بايدن" سيسمح بالفوضى ويضعف سلطة الشرطة وهيبتها.
حتى يستطيع "بايدن" إعادة توحيد الأميركيين كما وعد، يبدو أنه قرر أولا إقناع كل هؤلاء الغاضبين بأنه سيقود أميركا إلى مكان أكثر قوة، وثانياً قرر "رشوة" كل شعبه بالمساعدات. هذان المساران سيحكمان رئاسة "بايدن" في أول سنتين من ولايته. الأول يعني التشدد وهو سيرسم سياسته الخارجية مع الصين وإيران وروسيا حتى لو تطلب ذلك بعض عرض العضلات العسكرية. والثاني يعني توفير دعم مالي غير مسبوق للمجتمع الأميركي رغم تسبب ذلك في إغراق الولايات المتحدة في الديون.
وداوني بالذي كان هو.. الدين
عندما ترشح "دونالد ترامب" لانتخابات ٢٠١٦ وعد بتخفيف الدين العام الأميركي الذي كان يناهز وقتها ٢٠ ألف مليار دولار، متهماً "اوباما" بأنه أضعف أميركا بالديون لأنه زادها ٨ آلاف مليار خلال
[caption id="attachment_85005" align="alignleft" width="375"] رئيسة البنك المركزي الأوروبي "كريستين لاغارد" للحكومات الأوروبية: انقذوا الشركات المتعثرة وأنا اتكفل بطبع... اليورو.[/caption]٨ سنوات من ولايته أي بمعدل ألف مليار دولار دين كل سنة. ترك "ترامب" الرئاسة وخلفه حوالي ٢٨ ألف مليار دولار من الديون أي أنه زاد دين الولايات المتحدة حوالي ٨ آلاف مليار دولار وبمعدل ألفي مليار دولار في السنة وهذا يساوي ضعف الزيادة السنوية في الدين أيام "اوباما"! صحيح أن الوباء زاد من الاستدانة في كل العالم ولكن حجم الاقتراض الحكومي في الولايات المتحدة فاق كل النسب، ويبدو أنه مستمر بقوة مع الرئيس الجديد. فأول أمر تنفيذي وقعه عند دخوله البيت الأبيض هو حزمة تحفيز تساوي ١,٩ ألف مليار دولار، كلها ستأتي بالدين. أي أن "بايدن" استدان في يوم واحد ما كان يستدينه "ترامب" في سنة كاملة. بدورها قالت وزيرة الخزانة الأميركية "جانيت يلين" أمام الكونغرس إن الاقتصاد الأميركي بحاجة إلى رزمة دعم أكبر، فطالما أن الفوائد على الدين منخفضة يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تتصرف بقوة وضخامة أمام تبعات جائحة "كورونا" وأن لا تتلكأ في دعم اقتصادها مهما كان حجم الدين المطلوب لذلك!
من الواضح أن الرئيس الأميركي الجديد سيفتتح عهده بديون لا سقف لها فذلك يؤمن الدعم الاجتماعي ويخفف من أخطار الانقسام الشعبي.
انهيار العملات..ولو بعد حين
[caption id="attachment_85006" align="alignleft" width="425"] وزير الدفاع الأميركي الجديد "لويد أوستن الثالث": سياسة القوة الناعمة بالدبلوماسية والسلاح.. القوي.[/caption]ما سيقوم به "بايدن" مالياً سيؤثر بالطبع على الضفة الأخرى من الأطلسي خاصة وأنه ينوي إعادة التقارب مع الأوروبيين وتفعيل التنسيق على مختلف المستويات. رئيسة البنك المركزي الأوروبي "كريستين لاغارد" التقطت بسرعة الإشارات الآتية من إدارة "بايدن" وصرحت هي أيضا أنه من الضروري للحكومات الأوروبية أن تتصرف بسرعة لدعم اقتصاداتها وأن توفر حزمات الدعم والتحفيز اللازمة من دون تردد. اقتصادياً، هناك مشكلتان مباشرتان ومتصلتان احدثهما الوباء. الأولى هي البطالة والثانية هي الديون. الجميع منكب اليوم على حل المعضلة الأولى عن طريق سلات التحفيز والمساعدات من دون التنبه إلى خطر المشكلة الثانية وهو الارتفاع الجنوني في نسب الديون. فالأهم اليوم بالنسبة للحكومات هو تخفيف عبء البطالة لأنها يمكن أن تؤدي إلى قلاقل إجتماعية لا تحمد عقباها. ولكن في النهاية وبعد الخروج من الوباء ستجد الدول نفسها أمام ديون لا يمكن تسديدها. وبما أنه لا يمكن أيضاً زيادة الفوائد عليها حتى لا تتضخم أكثر فمن الصعب عليها الاستمرار في الاستدانة من الأسواق من دون مغريات الفوائد وستلجأ أكثر وأكثر لبنوكها المركزية لخلق العملة. هذه الحلقة من الاستدانة وخلق العملات هي الوصفة السحرية للتضخم وفقدان العملات العالمية لقيمتها مقابل كل أنواع السلع. هذا ما يفسر صعود قيمة العملات المشفرة مثل "بتكوين" إلى مستويات غير منطقية وارتفاع سعر الذهب إلى أعلى مستوياته في التاريخ خلال الصيف الماضي.
"بايدن" ضعيف أو قوي؟
[caption id="attachment_85007" align="alignleft" width="422"] وزيرة الخزانة الأميركية "جانيت يلين": لا سقف... للديون![/caption]إذا كان من المتوقع أن يتخطى "بايدن" مستويات الدين التي وصل إليها "ترامب" لن يكون من السهل عليه أن يحقق أفضل من سلفه في مسألة الحفاظ على حياة الجنود الأميركيين.
إذ لا بد من الإشادة بالرئيس "ترامب" لأنه رغم تهوراته الكثيرة، تجنب الحرب إلى أقصى حد ممكن وأنقص عديد جيشه في أفغانستان والعراق وسوريا إلى أقل مستوى لها منذ أكثر من ١٥ عاماً. عدد الجنود الأميركيين الذين لقوا حتفهم خلال فترة "ترامب" هو أقل عدد في ولاية أي رئيس أميركي منذ بداية التسعينات رغم أن الرئيس الأميركي السابق لم يتوقف عن قرع طبول الحرب يميناً ويساراً خلال كل ولايته. كما ترك "ترامب" لخلفه مناطق عدة متفجرة في العالم أكثرها حماوة في منطقة الشرق الأوسط. وسيكون على "بايدن" الهادي والمتزن أن يفرض "هيبته" على طريقته. أول الإشارات لذلك كان تصريح وزير خارجيته "انطوني بلينكن" منذ أيام أن الإتفاق النووي مع إيران ليس أولوية. هذا يعني أن العقوبات لن تزال قريباً وأن الإدارة الأميركية الجديدة تريد استنفاذ مفاعيل العقوبات إلى آخر نفس إيراني. وإذا أراد "بايدن" العودة إلى سياسة "اوباما" في المنطقة فلن يكون غريباً أن تستعيد فلول "داعش" بعض أنفاسها في العراق وسوريا ومؤشرات ذلك بدأت بالظهور.
ميزان حرارة سياسة "بايدن" الخارجية مرتبط بمدى نجاحه في إعادة اللحمة الداخلية إلى الشارع الأميركي وفي محو الصورة المصيبة التي روجها عنه "ترامب" أي "الرئيس الضعيف" الذي سينكسر أمام الصين وإيران. العنوان الاقتصادي لسياسته أصبح معروفاً. أما العنوان السياسي فقد فرضه عليه "ترامب" لأن الرئيس الأميركي الجديد مضطر لأن يفرض هيبته. هذا لا يكون عادة من دون وسائل.. عسكرية. ولعل كلام وزير الدفاع الأميركي الجديد "لويد أوستن الثالث" أمام الكونغرس منذ أيام يلخص كل ذلك: "وزارة الدفاع بحاجة إلى موارد لمطابقة الإستراتيجية، واستراتيجية تتوافق مع السياسة، والسياسة المتوافقة مع إرادة الشعب الأميركي".