لم تمر مشاركة لبنان، عبر وزير خارجيته جبران باسيل، في مؤتمر جدة العربي والدولي لمكافحة الإرهاب مرور الكرام، لاسيما بعد المواقف التي صدرت عن المؤتمرين وظهّرت تحالفاً أميركياً ـــ خليجياً للانخراط في مواجهة تنظيم <داعش> والمنظمات الإرهابية الأخرى، الأمر الذي أثار ردود فعل متفاوتة حتى مع حلفاء الوزير باسيل وفي مقدمهم حزب الله الذي طرح ممثله في الحكومة الوزير محمد فنيش أكثر من علامة استفهام حول مغزى المشاركة اللبنانية في المؤتمر. وعلى الرغم من أن الوزير باسيل اعتبر أن مشاركته تنطلق من كون لبنان يتعرض لضغط الأعمال الإرهابية التي يقوم بها تنظيم <داعش> وكان آخرها اجتياح منطقة عرسال، فإن مرجعيات في 8 آذار رأت أن أهداف مؤتمر جدة وما صدر من كلام عن إجراءات للمواجهة، لا تأتلف مع سياسة <النأي بالنفس> التي يعتمدها لبنان، لاسيما تجاه الوضع في سوريا، وان مؤتمر جدة رفض التعاون مع النظام السوري في مكافحة إرهاب <داعش> والمواقف التي صدرت عن الرئيس الأميركي <باراك أوماما> وغيره من قادة دول العالم ركّزت على عدم التنسيق مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد في الخطوات العملية لضرب <داعش>.
باسيل: لا انحياز بل حضور يفيد لبنان
غير ان هذه الملاحظات وغيرها، نظر إليها الوزير باسيل على أنها مواقف سياسية لا تلغي مسؤولية لبنان في ضرورة مواكبة أي تحرّك دولي وإقليمي وعربي لمواجهة إرهاب <داعش> لأن لبنان يدفع أثماناً غالية في مواجهة الإرهاب الذي يتمدد الى ساحته من خلال الأعمال التفجيرية والانتحاريين والخلايا النائمة والهجمات الصاروخية إلخ... من دون أن يعني ذلك اشتراك لبنان في أي عمل لا يقتنع به أو يكون خارج إرادة الشرعية الدولية ورعاية الأمم المتحدة. والدليل على ذلك مشاركة لبنان أيضاً في الاجتماع الدولي في باريس الاثنين الماضي في حضور الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. وفي هذا السياق اعتبر باسيل ان ما قيل عن <انحياز> لبنان الى معسكر معين ضد آخر، لا يعكس حقيقة الموقف اللبناني الذي يتلخص بدعم محاربة الإرهاب التكفيري في إطار دولي وبموجب قرار يصدر عن مجلس الامن، وضد استبعاد أي دولة لأن المعركة مع <داعش> مصيرية ووجودية. ويضيف باسيل ان المخاوف في دخول لبنان في محور دولي لا تقع في محلها لأن الموقف اللبناني المعلن بأن <الحياد أفضل>، لا يزال سارياً ولم يحصل أي تبديل في اتجاه موقف آخر، وبالتالي لم يتأثر هذا الموقف باستراتيجية عسكرية يلتزمها بعض المشاركين في مؤتمر جدة، لاسيما أن هؤلاء يدركون ان لبنان لن يتقيد بالمشاركة في اي عمل عسكري ضد <داعش> باستثناء ما يقوم به الجيش اللبناني في مواجهة تحركات المسلحين واعتداءاتهم في جرود عرسال وضواحيها، وان موقفه واضح لجهة حماية الأراضي اللبنانية ومنع تسلل الإرهابيين إليها.
ووصف مصدر ديبلوماسي رفيع، إصرار الوزير باسيل على الحصول على إجماع دولي لقرار يصدر في مجلس الأمن لضرب <داعش>، بأنه يقع في منزلة وسطى بين الموقف الأميركي ومن يؤيده لمحاربة <داعش> وترجمته لبنانياً تكون من خلال تزويد الجيش بالاسلحة والذخائر المناسبة للدفاع عن الأراضي اللبنانية، وبين موسكو وطهران اللتين اعتبرتا أنهما اقصيتا عن مؤتمر جدة مع أنهما ضد إرهاب <داعش> ومع محاربته، وترجمة هذا الموقف لبنانياً برزت من خلال المطالبة بقرار دولي يصدر عن مجلس الأمن، حيث روسيا والصين يملكان حق النقض (الفيتو)، والتالي فإن مجرد الموافقة على القرار يعني اشتراك الدولتين في المواجهة الدولية ضد <داعش> وأخواتها.
تساؤلات 8 آذار
غير أن الشروحات التي قدمها الوزير جبران باسيل لأبعاد مشاركته في مؤتمر جدة وعما صدر عنه من مواقف، لم تقنع جهات في قوى 8 آذار، كما دفعت مصادر وزارية الى القول إن موضوع مشاركة لبنان في مؤتمر جدة لم يعرض على مجلس الوزراء لنيل الموافقة وإن كان الأمر يخضع للتسوية اللاحقة، علماً ان الهدف من موافقة مجلس الوزراء ليس إدارياً أو مالياً، بل ان الموافقة في هذا الأمر هي سياسية بامتياز. وأشارت مصادر وزارية من 8 آذار ان ثمة أسئلة كثيرة تطرح عن أهداف مؤتمر جدة وما ينتظر منه في المدى البعيد، وإن كانت الأهداف المعلنة هي محاربة <داعش>. وبالتالي ما هي الأثمان التي ستطلبها الولايات المتحدة ودول الغرب لقاء حشد الجيوش والأساطيل للمشاركة في الحرب ضد <داعش> وغيرها، فضلاً عما يوصف بـ<الانتقائية> الأميركية في مكافحة الإرهاب في مناطق معينة، وتركه يتفاعل في مناطق أخرى.
وفي رأي المصادر نفسها ان المخاوف من إخراج تنظيم <داعش> من العراق مثلاً وإبقائه في سوريا تدفع الى التساؤل عما إذا كانت دول المنطقة مقبلة على تغيرات في حدودها وأنظمتها وتوازناتها، لاسيما وأن مؤتمر جدة تزامن مع إعلان الرئيس الأميركي <باراك أوباما> لقراره مكافحة <داعش> من دون أن يورد تفاصيل واضحة بل مجموعة اقتراحات غير متكاملة ولا تشمل <الخطر الداعشي> ومثيلاته في لبنان والعراق وليبيا ومصر وغيرها. وفي رأي لمصدر في حزب الله انه لم تكن هناك حاجة للاستعجال في المشاركة في تحالف غير واضح المعالم ويضم بعض من كانوا أساساً وراء ولادة <داعش>.
وتضيف المصادر نفسها أن الإرهاب الذي ضرب لبنان منذ سنوات لم يجد من يتدخل لوقفه أو دعم الجيش اللبناني لمواجهته، ولم يحصل ذلك إلا بعد أحداث عرسال التي أظهرت وجود مسلحي <داعش> و<النصرة> داخل الأراضي اللبنانية وضمن خلايا نائمة، وأن الأولوية اللبنانية تكون لدعم الجيش والمؤسسات الأمنية، علماً أن مؤتمر جدة ذهب صوب خيارات أخرى عامة تعطي الأولوية لضرب الإرهاب في العراق، فأي فائدة ـــ تتساءل المصادر ـــ للبنان مما دار في جدة إذا لم تترجم الدول المشاركة قرارها في مواجهة الإرهاب بدعم الجيش اللبناني وتزويده بالمعدات والعتاد اللازم، إضافة الى المعلومات الاستخباراتية التي تعينه على ملاحقة الخلايا الإرهابية وشبكات التخريب التي تؤكد تقارير أجهزة المخابرات الدولية وجودها في لبنان وتحركها على أكثر من محور. وعلى رغم إقرار هذه المصادر ان المخابرات الأميركية والألمانية ـــ مثلاً ـــ ساعدت لبنان في اقتفاء أثر أفراد شبكات إرهابية بحيث أمكن اعتقالهم وتعطيل المخطط الذي كانوا يعملون على تنفيذه، إلا أن هذا الدعم بالاستخبارات يبقى موسمياً ودون ما هو مطلوب لدرء مخاطر الإرهابيين.
خوف من <طلبات تعجيزية>
وطرحت المصادر نفسها سلسلة أسئلة حول مدى قدرة لبنان على المشاركة في الحرب ضد <داعش> إذا أخذت هذه المشاركة طابع تقديم <طلبات تعجيزية> وتسهيلات لوجستية مثل السماح باستعمال المطارات العسكرية اللبنانية لانطلاق الطائرات الأميركية والغربية المغيرة على مواقع <داعش>، بعدما رفضت تركيا استعمال أراضيها ومداها الجوي لهذه الغاية. أو مثل تسهيل تنقل عناصر <المعارضة السورية المعتدلة> (كما تسميها أميركا ودول الخليج) الذين تقرر <تعزيز> وضعهم لمواجهة <داعش> و<جبهة النصرة> والمنظمات الإسلامية المتطرفة، لاسيما بعد رفض الأردن ومصر تقديم مثل هذه التسهيلات، وأين يصبح <النأي بالنفس> الذي التزمه لبنان منذ حكومة الرئيس نجيب ميقاتي. وتبدي المصادر تخوّفها من أن يؤدي رفض لبنان عدم التجاوب مع <المشاركة الفعلية> في خطة مكافحة الإرهاب، إذا ما طُلب منه ما يفوق طاقته على التجاوب معه، ان يتم <تدفيعه> الثمن من خلال وقف المساعدات العسكرية أو <تقنينها> وغيرها من الإجراءات المزعجة.
في أي حال، فإن مصادر حكومية أكدت لـ<الأفكار> ان التزام لبنان مكافحة الإرهاب الذي تقوم به منظمات <داعش> و<النصرة> و<القاعدة> هو التزام واضح بعد الذي يعانيه لبنان من هذه التنظيمات، إلا أن أي مواجهات عسكرية واسعة النطاق لا بد أن تأخذ في الاعتبار سيادة الدول والقانون الدولي ورعاية الأمم المتحدة، كذلك فإن أي حرب يجب أن تتم عبر الحكومات الشرعية وتشارك فيها الجيوش النظامية، ولا يجوز استطراداً استبعاد أي دولة منعاً لوقوع خلل في المواجهة الشاملة.
وطمأنت هذه المصادر <المتخوفين> الى عدم وجود التزامات على لبنان نتيجة مؤتمر جدة تتجاوز إمكاناته أو تجعله يناقض خيار <النأي بالنفس>، لاسيما حيال ما يجري في سوريا، لأن لبنان لن يدخل في أي محور ضد محور دولي آخر، ووجوده في مؤتمر جدة ومن بعده في باريس، هدفه عدم التغيب عن لقاءات دولية ضد الإرهاب والإرهابيين، والحصول على معلومات تساعده في مواجهة الإرهابيين سياسياً وعسكرياً ومالياً من خلال تجفيف منابع المال التي يمر بعضها من خلال لبنان، إضافة الى الحد من انتشار الدعوات التكفيرية والأصولية التي تستعمل الدين الإسلامي غطاءً لبث أفكارها ومعتقداتها وتبرير ممارساتها العدوانية.