قبل أن يعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري تأجيل الجلسة الرابعة عشرة التي دعا إليها لانتخاب رئيس جديد للجمهورية بسبب عدم اكتمال النصاب، حبكت النكتة بأحد نواب 8 آذار وقال أمام مجموعة من النواب والإعلاميين في ساحة النجمة: <إذا بالجلسة الثامنة لم ننتخب رئيساً... بدنا ننتخب في الجلسة 14>، في إشارة الى الصراع المستمر بين الفريقين السياسيين المعطلين، كل من جهته، العملية الانتخابية، سواء لجهة عدم اكتمال النصاب، أم لجهة الاستمرار في ترشيح من ليس مقبولاً من الفريق الثاني...
وفيما يقترب الشهر الخامس للشغور الرئاسي من الانتهاء بعد أسبوع ليبدأ الشهر السادس، يبقى الأفق مسدوداً أمام تسوية تؤمن انتخاب رئيس الجمهورية في وقت قريب وعلى الرغم من الجهود التي بدأتها فرنسا بهدف كسر الجمود الذي يلف الاستحقاق الرئاسي بعد اللقاء الذي ضم الرئيس الفرنسي <فرنسوا هولاند> والرئيس سعد الحريري قبل أسبوعين، والذي يتوقع أن يستكمل بمعاودة التواصل بين باريس وطهران من خلال زيارة مرتقبة لأحد مستشاري الرئيس <هولاند> للعاصمة الإيرانية. وقد كشفت مصادر ديبلوماسية معنية لـ<الأفكار> أن باريس التي بدأت <محاولة ثالثة> لتسهيل انتخاب الرئيس اللبناني العتيد، ليست مقتنعة بإمكانية الوصول في وقت قريب الى نتيجة إيجابية، لكنها وضعت كتاريخ أولي وكحدٍ أقصى لإتمام الاستحقاق يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، أي يوم يحتفل لبنان بعيد الاستقلال كي لا تمر هذه المناسبة الوطنية من دون رئيس جمهورية، فتغيب الاحتفالات التقليدية التي تقام في هذه الذكرى.
وإذا ما نجح الفرنسيون في مسعاهم ـــ وهو أمر غير مضمون بشكل حاسم ـــ فإن انتخاب الرئيس قبل 22 تشرين الثاني/ نوفمبر يعيد تاريخ بدء الولاية الى التاريخ نفسه الذي بدأت في ولاية كل من الرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود يوم 23 تشرين الثاني/ نوفمبر، وهو اليوم الذي تلا اغتيال أول رئيس لجمهورية ما بعد اتفاق الطائف الرئيس الشهيد رينيه معوض الذي قضى بتفجير سيارته الرئاسية وهو عائد من القصر الحكومي في محلة الصنائع (وزارة الداخلية اليوم) بعد حفل استقبال رمزي أقامه لمناسبة ذكرى الاستقلال يوم 22 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1990.
ويأتي الحراك الفرنسي في اتجاه طهران بعدما بات من نافل القول إن التقارب السعودي ـــ الإيراني هو مفتاح الاستحقاق الرئاسي اللبناني نتيجة خروج هذا الملف نهائياً من أيدي القادة اللبنانيين الذين أسقطوا عن سابق تصوّر وتصميم أن يكون رئيسهم <صنع في لبنان>. ولعلّ ما قاله الرئيس نبيه بري قبيل مغادرته الى جنيف الأسبوع الماضي، خير دليل على الدور المشترك السعودي ـــ الإيراني في تسهيل انتخاب الرئيس العتيد، لاسيما وان الرئيس بري قال بوضوح غير مسبوق ان الانتخابات الرئاسية مرتبطة بالحوار الإيراني ـــ السعودي، لكنه استدرك بأنه لن يكون هناك تفاهم قريب، لأن الحوار ينتظر زيارة وزير الخارجية الإيرانية محمد جواد ظريف للسعودية، ثم زيارة نظيره الأمير سعود الفيصل لطهران، ملخصاً الوضع بعبارة <بعدنا مطولين>!
الرئيس تحدده نتائج التطورات الميدانية
وما لم يقله الرئيس بري في هذا السياق، قاله ديبلوماسي عربي يتابع من بيروت مسار الحوار السعودي ـــ الإيراني الذي اعتبر أن ملف العلاقات المستجدة بين الرياض وطهران فيه أكثر من صفحة يتم طي كل واحدة منها قبل الانتقال الى الصفحة التالية، لأن الديبلوماسية الإيرانية، كما الديبلوماسية السعودية، تفضل إنجاز كل صفحة على حدة وعدم تعليق واحدة في انتظار أخرى، وهذا ما حصل في العراق، ثم في اليمن، وقريباً في البحرين، الى أن يأتي دور الورقة اللبنانية في الملف الكبير للعلاقات بين البلدين. وعليه ـــ يضيف الديبلوماسي العربي ـــ لا أحد يتوقع أن يكون الحل قريباً في لبنان لأن التركيز حالياً هو على التطورات العسكرية التي نتجت عن الحرب التي شنها <التحالف الدولي> ضد تنظيم <داعش> و<جبهة النصرة> ومن يتفرع عنهما، والمخاوف من تمدّد التوتر الى لبنان بعد أحداث عرسال وبريتال والاعتداءات المتتالية على مواقع الجيش وعسكريين في البقاع والشمال.
ويعتقد الديبلوماسي العربي نفسه أن طرح الملف الرئاسي اللبناني على طاولة النقاش السعودي ـــ الإيراني ـــ إذا حصل خلال الأسابيع المقبلة ـــ لا يعني بالضرورة الوصول الى اتفاق حوله بسرعة، لأن الأمر يتعلق باختيار رئيس يواكب المرحلة المقبلة من خلال موقعه الرئاسي، وطالما لم تتوضح بعد معالم هذه المرحلة، فلن يكون من السهل الاتفاق على شخصية لبنانية، لأن المسألة ليست مرتبطة بمواصفات الرئيس العتيد وماضيه وعلاقاته، بقدر ما هي مرتبطة بالمرحلة المقبلة التي سيشهدها لبنان ودول الجوار، ومدى قدرته على التعاطي معها وإدراكه المستجدات فيها أو المشاركة في صناعتها لبنانياً على الأقل. لذلك يرى الديبلوماسي نفسه أن <الرئيس التوافقي> الذي ينادي به البعض في لبنان قد يصح اختياره لو حصلت الانتخابات الرئاسية في شهر أيار/ مايو الماضي، لكنه قد لا يصح انتخابه اليوم بعد كل الذي حصل من متغيرات وما يمكن أن يحدث من تداعيات. أما الرئيس الذي يمكن أن يحقق <التوازن> بين السلطات كما يطالب البعض من القياديين اللبنانيين، فإن حظوظه تبقى معلقة في انتظار تبلور الموقف الإقليمي واتضاح حصيلة المواجهات القائمة، لأن فريق 14 آذار لن يقبل ـــ حتى الآن على الأقل ــ برئيس قريب من إيران، وفريق 8 آذار لن يصوت لرئيس قريب من السعودية، لاسيما وأن هذا الفريق يعتبر أن رئيس الحكومة العتيد سيكون <رجل السعودية الأول>، فمن غير المنطقي أن يكون لرئيس الجمهورية التوصيف نفسه. لذلك لا بد من انتظار حصيلة التطورات الأمنية والسياسية في دول الجوار لمعرفة الى أين ستميل الكفة ليأتي الرئيس العتيد <متناغماً> مع الواقع المستجد.
سعي لإخراج الملف الرئاسي من تداعيات الحرب
ويرى الديبلوماسي العربي أن أهمية الحوار السعودي ـــ الإيراني حول لبنان تكمن في القدرة على الاتفاق لإخراج الملف الرئاسي اللبناني من دائرة انتظار نتائج التطورات الميدانية لأنها ستطول ولن يتحمل لبنان المزيد من الفراغ الرئاسي الذي انعكس على مختلف مؤسساته وشلّ قدرة الدولة على المبادرة في مجالات عدة. وهذا الأمر تسعى باريس من خلال حوارها المستجد مع طهران من أجل التوصل إليه، أي الاتفاق على تسهيل انتخاب الرئيس العتيد من دون الحاجة الى انتظار مسار الأحداث الجارية حول لبنان وفي المنطقة كلها. لكن الديبلوماسي العربي نفسه يرى أن الوصول الى هذا الاتفاق السعودي ـــ الإيراني حول الرئاسة اللبنانية يفرض أن تقبل طهران والرياض بإقامة <شراكة كاملة ومتبادلة> في اختيار الرئيس، ورئيس الحكومة الذي سيكون الى جانبه طوال عهده ربما، وفي هذه الحالة، فإن الترجمة اللبنانية لعبارة <الشراكة> هي أن يكون رئيس الجمهورية مدعوماً من إيران من دون أن يكون خيارها المباشر، وأن يكون رئيس الحكومة حائزاً <درع التثبيت> السعودي، نتيجة التوافق الوطني اللبناني الذي جعل رئيس الجمهورية مارونياً ورئيس الحكومة سنياً ورئيس مجلس النواب شيعياً.
ولا يُسقط الديبلوماسي وهو يسرد خلفية التحرك الفرنسي الجديد من حسابه أن صفة <التوازن> الذي يفترض أن يتوافر في الحل السعودي ـــ الإيراني الموعود، لا تعني أن يكون كل من رئيسي الجمهورية والحكومة <مجردين> من تمثيل حقيقي للقاعدتين المارونية والسنية، وأن يكتفيا بالدعمين السعودي والإيراني، لأن وجود رئيسين للجمهورية والحكومة <لا لون لهما ولا رائحة ولا طعم>، سيجعلهما <عبئين> على من أتى بهما، وبالتالي فإن صفة <التمثيل الحقيقي> لا بد أن تتوافر في كليهما فتتحقق إذ ذاك <الشراكة الكاملة والمتبادلة>.
وفي رأي الديبلوماسي نفسه انه إذا لم تقتنع كل من الرياض وطهران بضرورة الاتفاق على رئيسين يمثلان المسيحيين الموارنة والمسلمين السنّة، ويرضى بهما الشيعة والدروز، فإن الحوار بينهما سيكون <حوار طرشان> وسيمتد طويلاً من دون الوصول الى نتيجة، الأمر الذي يفرض ـــ في رأي الديبلوماسي نفسه ـــ عدم مراهنة فريق 14 آذار على أن التقارب السعودي ـــ الإيراني سيكون على حساب حزب الله ودوره السياسي مستقبلاً، وعدم اعتقاد فريق 8 آذار أنه سيحصل على <الفوز الكامل> لأن أي حوار بين قوتين إقليميتين ــ كما هو الحال بين طهران والرياض ـــ يؤدي حكماً الى <تسوية>، وأي <تسوية> لا يمكن أن يكون فيها رابح بالكامل وخاسر بالكامل، فمن سيربح في مكان سيخسر في آخر، والعكس صحيح!
الجميل للحريري: أترشح إذا...
في غضون ذلك، بدا أن الحراك الداخلي للاستحقاق الرئاسي ضعيف لعدم القناعة بإمكانية الوصول الى تفاهمات بمعزل عن التقارب السعودي ـــ الإيراني، ولم يعطِ اللقاء الذي جمع الرئيس أمين الجميل بالرئيس سعد الحريري في باريس أي تطور إيجابي رغم التقاء الرئيسين على ضرورة انتخاب رئيس الجمهورية في أقرب وقت ممكن، وإن كان هذا الأمر يصطدم في عدم توافر النصاب القانوني لجلسة الانتخاب (غالبية الثلثين) بصرف النظر عمن سيكون مرشح 14 آذار، الدكتور سمير جعجع أو غيره، لاسيما وأن الرئيس الجميل يقدم نفسه البديل عن الدكتور جعجع لتعذر حصوله على الأصوات اللازمة للفوز، لكن ذلك يفترض تأمين النصاب ومن ثم النصف + 1 من عدد أعضاء مجلس النواب الذي بات 127 نائباً بعد وفاة نائب جزين المرحوم ميشال الحلو.
وخلال لقاء الجميل ـــ الحريري، دار نقاش حول صفة <الرئيس التوافقي> الذي يجري الترويج لتسويقه، فاعتبر الرئيس الجميل أن الرئيس الوفاقي لا يتناقض مع الرئيس القوي إذ يمكنه أن يكون قوياً ووفاقياً في آن واحد، ويجب أن يكون كذلك لأنه إذا كان وفاقياً ويفتقر الى الشخصية والقدرة على جمع الداخل ومحاورة الخارج، فلا يحقق المصلحة الوطنية. وسأل الرئيس الجميل الرئيس الحريري عما آلت إليه الاتصالات مع العماد ميشال عون، فرد الحريري بأن التواصل لا يزال قائماً، لكن البحث في الملف الرئاسي لم يصل الى نتيجة عملية بعد، فاعتبر الجميل أن مسألة ترشيحه تبقى واردة، إذا ما توافر عليها إجماع قوى 14 آذار من جهة، وتجاوب فريق 8 آذار ولو جزئياً مع هذا الترشيح، وهو كان يعني الرئيس نبيه بري وكتلته النيابية.
الحريري للبطريرك:
سمِّ الرئيس لنسوّقه
وفي معلومات لـ<الأفكار> أن الرئيس الحريري لا يزال يعتبر أن خيار الرئيس العتيد يجب أن يكون مسيحياً بالدرجة الأولى، وأنه توافق مع الرئيس <هولاند> على أن يُعطى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي حرية الخيار بين <المرشحين الطبيعيين> ليصار بعد ذلك الى <تسويق> المرشح المختار محلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، وهذا الأمر كان مدار بحث بين الرئيس الحريري والبطريرك الراعي في لقائهما في روما هذا الأسبوع والذي تأخر أياماً الى أن انتهى السينودس المقدس الذي عُقد برئاسة البابا <فرنسيس> وشارك فيه البطريرك الراعي مع غيره من الكرادلة. ووفقاً لمصادر المعلومات نفسها، فإن الكرسي الرسولي الذي <يشجع> باريس على التحرك في الملعب الرئاسي اللبناني، لا يزال يفضل عدم التدخل المباشر في الاستحقاق الرئاسي لا من قريب ولا من بعيد، إلا عندما يشعر أن النقاش وصل الى مرحلة جدية بحيث لا يشارك في الخيار ولا يبارك ترشيح هذا الشخص أو ذاك، بل <يبارك> للشخص الذي ينال موافقة غالبية الكتل النيابية والدول الفاعلة والمؤثرة، ويكون قادراً على إدارة شؤون الجمهورية اللبنانية في المرحلة الراهنة الحافلة بالمخاطر. وتأكيداً على <حيادية> الفاتيكان، فإن الدوائر البابوية اعتذرت عن عدم استقبال <المرشحين المحتملين> طوال الصيف الماضي، بناء على <نصيحة> السفير البابوي في بيروت المونسنيور <غابريالي كاتشا>، كما أن أحد <الوزراء السياديين> سعى لزيارة الفاتيكان بصفته الوزارية، إلا أن الجواب الفاتيكاني كان بالاعتذار لانشغال المسؤولين البابويين بالأحداث التي استهدفت المسيحيين في العراق والتي تطول مسيحيي سوريا... غير أن الوزير المعني لم <ييأس> بعد وهو لا يزال يسعى الى لقاء مسؤول بابوي رفيع دعاه لزيارة لبنان والمشاركة في مؤتمر حول مسيحيي الشرق، إلا أن هذا المسؤول قرر انتداب من يمثله في المؤتمر ولن يحضر الى لبنان، خوفاً من أن يُعطى لحضوره أي بعد رئاسي!
وفي هذا السياق، يكتفي السفير البابوي في بيروت بتحديد مواصفات رئاسية ولا يدخل في الأسماء، وأبرزها ضرورة انتخاب رئيس ماروني قادر على إقامة <توازن> فعلي على مستوى العلاقات بين أركان السلطة اللبنانية ولا سيما رئيس مجلس النواب الذي يمثل طائفته خير تمثيل، ورئيس الحكومة المقبل الذي يُفترض أن تكون له الصفة التمثيلية ذاتها، لأن في ذلك ضمانة لتأمين الاستقرار السياسي والمحافظة على دور الوجود المسيحي الفاعل في لبنان.