بقلم خالد عوض
[caption id="attachment_82211" align="alignleft" width="375"] رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هل يكون التطبيع آخر مشهد في حياته؟ السياسية؟[/caption]عندما وقعت دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم البحرين، إتفاق سلام مع إسرائيل ظن الكثيرون أن المسألة مجرد هدية للرئيس الأميركي "دونالد ترامب" قبل موعد الإنتخابات الرئاسية. قد تكون بعض دول الخليج تفضل "ترامب" على منافسه المتقدم في الإستطلاعات "جو بايدن" لأسباب كثيرة، منها سياسة الرئيس السابق "باراك اوباما" في الشرق الأوسط التي أدت الى توسع النفوذ الإيراني وإلى ربيع غير مسبوق للإخوان المسلمين في المنطقة بقيادة تركيا. ولكن من يعرف دول الخليج وخاصة الإمارات العربية يعلم تماماً أنه لا يمكن أن تقوم بخطوات من هذا النوع إذا لم تدرس جيداً مفاعيلها المستقبلية ليس من ناحية المسائل الأمنية والأحلاف الإستراتيجية فحسب بل بالتحديد من الزاوية الإقتصادية.
إسرائيل والإمارات: إختلاف المسار وتلاقي الرؤى
في البداية لا بد من التأكيد أن إسرائيل دولة إغتصبت الحقوق الفلسطينية والعربية ولم تتردد في استخدام أسوأ الأساليب العسكرية والسياسية والإستخباراتية لهدم هذه الحقوق وهضمها. لا خلاف إذاً على عدوانية إسرائيل وحق العرب في استرجاع أراضيهم منها وعودة الفلسطينيين إلى ديارهم. في المقابل حان الوقت لأن نعترف، كعرب وسكان هذه البقعة البائسة من العالم، أن إسرائيل حققت خلال العقود الماضية نهضة تكنولوجية غير مسبوقة في مجالات مختلفة مقابل تقهقر علمي عربي لا يضاهيه ضخامة إلا صوت أهل الصمود والممانعة والدفاع عن "القضية". فبينما كانت إسرائيل تحتل الأراضي وترتكب المجازر كانت أيضاً تبني دولة بكل ما للكلمة من معنى. ليس صدفة اليوم أن الناتج المحلي لإسرائيل هو ٤٠٠ مليار دولار، أي أكبر من مجموع الناتج المحلي للبنان وسوريا واليمن والعراق، مجتمعة. بينما لا يزال أقل من الناتج المحلي للإمارات العربية. القاسم المشترك، ربما الوحيد، بين الإمارات وإسرائيل أنهما حققتا نهضة إقتصادية غير مسبوقة كل على طريقته. الأولى استخدمت موارد النفط لبناء قطاعات السياحة والصناعة والطيران، والثانية استفادت من المساعدات والإستثمارات الدولية لتطوير قطاع الصناعة العسكرية والتكنولوجيا والزراعة. اليوم يأتي اليابانيون والصينيون وغيرهم للإمارات العربية لتعلم أحدث وسائل وإدارة إستخراج النفط، بينما يملأ الألمنيوم المصنوع في الإمارات دول العالم ويقصد ملايين السياح ورجال الأعمال أبو ظبي ودبي كل شهر على متن طيران الإتحاد وطيران الإمارات. أما إسرائيل فهي تصدر السلاح إلى الهند والصين وأذربيجان وحتى إلى تركيا، كما طورت أحدث تكنولوجيا للري والزراعة على مستوى العالم وشركات المعلوماتية الإسرائيلية تغزو اليوم أسواق الولايات المتحدة.
من الناحية الإقتصادية البحت إذاً تبدو مجالات التكامل الإسرائيلي الإماراتي أكثر من واضحة. وبعدما أصبحت إسرائيل رسمياً دولة غازية في بحرها وربما قريباً دولة نفطية في الجولان فإن آفاق التعاون بين الدولتين أصبحت أوسع بكثير.
أين ذهبت أموال الخليج التي أخذها الفلسطينيون منذ ١٩٦٧؟
[caption id="attachment_82212" align="alignleft" width="445"] ولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد قراءة المستقبل بعيون براغماتية.[/caption]ولكن كيف نتعامل مع دولة بهذه العدوانية ونتناسى ما قامت به؟ هناك طريقتان لا ثالثة لهما: الحرب أو البراغماتية. من الصعب بل من غير الواقعي أن تنخرط دول الخليج في حرب ضد إسرائيل المدعومة أميركياً وأوروبياً وحتى روسياً.
لم تتأخر دول الخليج من دون إستثناء وعلى مر العقود في الدعم المالي المباشر للقضية الفلسطينية، الذي تجاوز عشرات مليارات الدولارات، كما أنها رفضت أن تمشي وراء الراحلين الرئيس المصري أنور السادات والملك الأردني حسين بن طلال بعد اتفاقيتي "كامب دايفيد" و"وادي عربة". وحتى عندما ذهبت سوريا إلى مؤتمر مدريد للسلام عام ١٩٩٢ ووقع ياسر عرفات إتفاقية أوسلو عام ١٩٩٣ أبقت دول الخليج على تحفظها في أي علاقات مع إسرائيل رغم الضغوط الدولية. ولكن لا بد من ملاحظة أنه منذ ١٩٤٨ وحتى ٢٠٢٠ لم تحصد إستراتيجية الصمود والممانعة إلا الخيبة. وبدل أن تذهب أموال الخليجيين إلى بناء قواعد مؤسساتية فلسطينية تنافس بها إقتصادياً الكيان الإسرائيلي، تسرب جزء كبير منها إلى جيوب "أهل القضية" ومغارات الفساد، وبدل أن تكون البندقية موجهة إلى فلسطين المحتلة حصراً أصبحت تحارب في عمان وبيروت وغيرهما من العواصم العربية. ظلت السلطة الفلسطينية تحصل على مساعدات من دول خليجية وحماس تستلم مساعدات مماثلة من دول خليجية أخرى ولكن مفاعيل هذه المساعدات لم تنعكس يوماً على واقع الفلسطينيين المرير. ليس الوقت لجلد المسؤولين الفلسطينيين الذين كانوا يحاربون العالم كله وشتى أنواع اللوبيات اليهودية المالية والإعلامية وليس فقط إسرائيل. وهم جربوا العمليات الفدائية والمفاوضات والإنتفاضات وكل أنواع المقاومة والنتيجة كانت خسارة المزيد من الأراضي والحقوق.
الجلاد بالفعل والضحية أمام العالم
يصف الشاعر الكبير الراحل سعيد عقل الأسلوب الإسرائيلي في مخاطبة العالم والغرب تحديداً بسرده قصة مزارع فلسطيني تعدى يهودي على جزء من أرضه. قام الفلسطيني بضرب اليهودي ضرباً مبرحاً فهرع الأخير إلى المحكمة للشكوى. إستدعى القاضي الرجلين، فقال الفلسطيني إنه كان يدافع عن أرضه لأن اليهودي احتل جزءاً منها. والتفت القاضي إلى اليهودي مستفهماً وتفاجأ عندما خلع اليهودي قميصه ليظهر آثار الكدمات والجروح وهي تملأ جسمه. فسأله القاضي من فعل بك هذا فأجاب اليهودي: "هذا العربي (لم يقل عنه فلسطيني) أبرحني ضرباً!" إسرائيل تعرف كيف تخاطب الغرب والعالم وتقنعه أنها ضحية أكثرية عربية عنصرية محيطة بها وتريد فناءها. كما أن طريقة إدارة دولتها بشكل ديموقراطي لا لبس فيه، ومحاربتها للفساد إلى أبعد الحدود واستثمارها حوالى ٥ بالمئة من دخلها الوطني السنوي في الأبحاث والتطوير وهذه أعلى نسبة في العالم، كلها أمور تزيد من مصداقية إسرائيل العالمية. في المقابل لم يعرف الفلسطينيون كيف يقنعون الغرب بقضيتهم وغرقوا في زواريب السياسات الإقليمية الضيقة. أما العرب فلا أنظمتهم القمعية ولا مستوى الفساد في دولهم ولا استثماراتهم البحثية التي لم تتخط في أي يوم النصف بالمئة من الناتج المحلي يمكن أن تعطيهم مصداقية دولية.
التطبيع تحت مجهر... العدالة
رغم إحتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، أبو موسى وطنب الصغرى وطنب الكبرى، منذ عام 1971 لم تغلق الإمارات سفارة إيران في أبو ظبي ولم تعلن الحرب على إيران بل كررت مطالبتها بإرجاع الجزر والإحتكام إلى القانون الدولي. كان يمكن للإمارات أن تصعد لهجتها واتباع خيارات صدامية وإنفاق ما لديها في صندوقها الإستثماري ومدخراتها النفطية لاستعادة الجزر، ولكنها اختارت الواقعية وانتظار اللحظة المناسبة للتفاوض على الجزر من دون التفريط بحقها فيها رغم بناء إيران مطار في جزيرة أبو موسى وطرد البعثات العربية منها وبسط سيطرتها العسكرية والثقافية على سكان الجزر. إذا كانت الإمارات تعمل بهذا الأسلوب البراغماتي في مسألة تخص سيادتها فكيف لها أن تتعامل مع إسرائيل خاصة أنها لم تبخل في دعم القضية الفلسطينية على مدى عقود ولم يحصل الفلسطينيون على شيء بل خسروا كل شيء؟
أمام الإمارات تحدي إحقاق الفلسطينيين من خلال التطبيع ولا بد من تركها تجرب بعدما فشلت كل أنواع المحاولات الأخرى. فإسرائيل تقدر جيداً، على عكس معظم العرب، أن مصالحها الإقتصادية ورخاء شعبها أهم بكثير من التمسك بمستوطنة هنا أو بضعة كيلومترات هناك.
ليس من السذاجة النظر إلى التطبيع على أنه أسلوب جديد في التعامل مع كيان غاصب. أما مسألة الكرامة والسيادة فلا بد أن تقاس بالناتج المحلي والنمو الاقتصادي ومستوى الفقر والبطالة والأمان الإجتماعي ومتوسط دخل الفرد وليس.. بالشعارات.