من أهم كلمات المفكر اللبناني الكبير الراحل شارل قرم: <إن لبنان كلمة بين السماء والأرض>. وبذلك رفع شارل قرم لبنان الى مرتبة سماوية. والشاعر الراحل يونس الابن عزف على الوتر نفسه فقال: <لبنان يا قطعة سما/ عالأرض تاني ما إلا>. وشاعرنا الراحل بالأمس الى ديار الحق سعيد عقل وصف لبنان بقوله: <لي صخرة علقت بالنجم أسكنها، طارت بها الكتب قالت: تلك لبنان>. وهذه الحالة الرومانسية تجاهلنا قيمتها نحن اللبنانيين ولم نحافظ عليها، بل جعلنا صخرة سعيد عقل معلقة بين المنازعات السياسية، والصدامات الحزبية، وكأننا غرباء عنها، وغريبة عنا.
ومن محاسن الصدف أن يخرج الى المسرح السياسي وزير مثل وائل أبو فاعور ليكشف فساداً تم ستره على مدى عشرات السنين، ويدل على المفسدين دون أن يسأل عمن يحميهم أو يقف وراءهم. وقد انضم إليه يوم الاثنين الماضي وزير المال علي حسن خليل، وسلّط النور الكشاف على لصوص العقارات، وفضح عمليات السطو غير المشروع على الأراضي على مدى عشرين سنة، وأحال 55 موظفاً وعاملاً في الدوائر العقارية على التحقيق، وإحدى عمليات اللصوصية العقارية حصلت في عز حرب تموز (يوليو) 2006 فيما كان القصف بالصواريخ دواراً بين اسرائيل وحزب الله.
قزي والمخالفات
صورة بشعة لتردي الأخلاق في لبنان، وانتشار السمسرة، والتحايل على القوانين، ودليل على أن الفساد قد تغلغل في المجتمع السياسي فأصبح كل محرّم مباحاً، وكل مخالفة للقانون شطارة، وكل اعتداء على أموال الدولة شرفاً يستحق الوسام.
ووزير العمل سجعان قزي واجه مخالفات للقوانين دون خوف من رادع، ومن ذلك اكتشافه ان إحدى الجامعات في الشمال طلبت تعيين سوري رئيساً لها، وأن اثنين من المصارف طالبا بتعيين مديرين أحدهما سوري وآخر فلسطيني، وأن محلات <سوبرماركت> طلبت تعيين سوريين مديرين للمبيعات!
بطبيعة الحال أوقف الوزير قزي مسار هذه المعاملات، ولكن البت فيها بصورة رسمية يتطلب قراراً من مجلس الوزراء..
هؤلاء الوزراء المتمردون على الصفقات والواقفون سنجق عرض في وجه المخالفات البشعة سمك يسبح في غير مياهه، وليس معروفاً حتى الآن، إذا كانوا سيكسبون المعركة أم يرفعون الراية البيضاء، على أساس ان العاصفة أقوى من المظلة الواقية في يد الوزير.
المسؤول المخلص سيتعب وينتهي به الأمر الى التنحي عن المهمة، وهذا ما يحصل الآن مع مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم الذي يحمل هموم ملف العساكر اللبنانيين المخطوفين في جرود عرسال. فـ<جبهة النصرة> أعطت الحكومة اللبنانية مهلة حتى ظهر الثلاثاء الماضي للإفراج عن جمانة حميّد بنت عرسال المحسوبة على الجبهة، والمتهمة بالتعاون مع تفجير السيارات، وإلا فستقوم الجبهة بإعدام العسكري علي البزال، أي ان حياة انسان أصبحت أمانة في يد مدير عام الأمن العام خصوصاً، والحكومة اللبنانية عموماً. وإدارة الملف تحتاج الى دقة لا تقل عن دقة فك المتفجرات.
وأهالي العسكريين المخطوفين يضغطون في كل اتجاه لفك أسر أولادهم، وحمايتهم من القتل. وهم معذورون كيفما خطر لهم أن يتحركوا. فالضنى غال، وليفكر كل مسؤول في ضناه، ويتصرف على هذا الأساس.
مفاجأة أبو طاقية
ومما زاد المشكلة تعقيداً ان ابن عرسال الحاج مصطفى الحجيري الملقب باسم <أبو طاقية> اكتشف ان وراء الجهة الخاطفة ألعاباً ومناورات، فأعلن كف يده عن أي وساطة مع <جبهة النصرة>، وكان الله يحب المحسنين، وخسر أهالي العساكر المخطوفين بذلك وسيطاً له وزنه واعتباره وقوة نفوذه، وعاد الملف الى المربع الأول!
في هذه الأثناء تتوالى الزيارات الخارجية التي تصب في مكافحة الإرهاب. فها هو وزير الخارجية السوري وليد المعلم يزور موسكو ويجتمع بنظيره <سيرغي لافروف> ومعه بثينة شعبان، للسؤال عن الأجواء التي تقول إن روسيا في سبيل اعتماد خطة جديدة في سوريا تنتهي برحيل الرئيس بشار الأسد، وسمع المعلم ما يسره من <لافروف> حين قال له ان الموقف الروسي من النظام السوري لم يتغير، بل ينفتح بالإضافة الى ذلك على الحوار مع المعارضة السورية، وصولاً الى تسوية توقف نزف الدماء في سوريا.
وعن هذه الأجواء المطمئنة تحدث وليد المعلم وهو يتناول طعام العشاء في دارة السفير السوري علي عبد الكريم العلي عند روابي اليرزة.
والزيارة الاستراتيجية الثانية كانت انتقال نائب الرئيس الأميركي <جو بايدن> الى تركيا للاجتماع بالرئيس التركي <رجب طيب أردوغان>. وتقابل الاثنان بنهجين سياسيين متعارضين: <بايدن> يريد من <أردوغان> أن ينضم جوياً وبكل امكاناته المتاحة الى الحملة الجوية الدولية ضد <داعش> في العراق وسوريا، وأن يسلم قاعدة <انجرليك> لعسكريين أميركان ليكون منها الانطلاق الجوي الأطلسي الى أجواء سوريا والعراق للقضاء على مسلحي <داعش>. و<رجب طيب أردوغان> يطلب من <بايدن> أن توافق الولايات المتحدة على إقامة منطقة عازلة عند الحدود السورية ــ التركية، وخير هذا بشر ذا.
تركيا و<بايدن> و<بوتين>
فإلى ماذا أفضت المباحثات؟
<بايدن> رفض المنطقة العازلة، بعدما أجرى اتصالاً هاتفياً بالرئيس <أوباما>، و<أردوغان> رفض الدخول في صراع مع تنظيم <داعش> لأن له في بلاده حسابات أخرى غير حسابات الولايات المتحدة، وقادر على استغلال <داعش> في الحصول على النفط بأسعار زهيدة، أي أقل من السعر الرسمي لبرميل البترول الذي انتهى مع مطلع الأسبوع الى 69 دولار!
وبذلك صارت تركيا تغرد على حسابها، لا في <التويتر> أو <الفايسبوك>، بل على أرض المعركة، وتريد أن تثبت وجودها كزعيمة اقليمية، مثل المملكة السعودية، وإيران ومصر التي أطل منها الرئيس السابق حسني مبارك في ثوب البراءة أمام قوس المحكمة، بعدما كان مهدداً.. بالإعدام بتهمة التورط بإعطاء الأمر الى القوى الأمنية بقتل المتظاهرين!
وتأتي بعد ذلك زيارة الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> لتركيا مع مطلع هذا الأسبوع. <بوتين> يدخل اسطمبول كحليف لسوريا. و<أردوغان> يستقبله من موقع العداء لسوريا، مطالباً بإقامة منطقة حدودية عازلة بين تركيا وسوريا، وبرحيل بشار الأسد الذي فقد مبرر وجوده في هذه المرحلة. وبطبيعة الحال ليس <بوتين> في موقع الموافقة على رحيل الأسد، لخوفه من أن تكون مرحلة ما بعد الأسد مرحلة الاسلاميين، وهذا يناقض التوجهات الروسية. ولكن هذا الخلاف في وجهات النظر حول الرئيس الأسد، لا يمنع الاتفاق على أمور أخرى بين موسكو وأنقرة، مثل تزويد تركيا بنفط وغاز من روسيا، وهو أمر يفك عزلتها الاقتصادية التي فرضتها عقوبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضدها.
وإذا كانت زيارة <بايدن> لتركيا فاشلة كلياً، فإن زيارة <بوتين> لبلاد السلاطين بنصف فشل ونصف نجاح. فشل حيال المطالبة برحيل الأسد، ونجاح في عملية تسويق النفط والغاز من روسيا الى تركيا.
أي خسر <بوتين> كسياسي وربح كتاجر!
لبنان خارج دائرة الاهتمام
ومن الوهم بمكان أن يخطر في البال ان وليد المعلم في موسكو بحث موضوع الرئاسة في لبنان، أو ان <بايدن> تطرق الى هذا الموضوع في تركيا، أو ان <بوتين> قارب هذا الملف في محادثاته مع <رجب طيب أردوغان>. فلبنان عند البلدان الثلاثة في هذه المرحلة خارج أي اهتمام، لأن مشاكلها تتقدم على مشاكل الآخرين، ومنها لبنان، وإن كانوا متفقين على صيد الارهاب حيث يكون!
وتكفي هذه الدلالات مجتمعة لتنبهنا الى ان الملف الرئاسي هذه المرة لبناني بامتياز، أي يختار النواب اللبنانيون رئيسهم المطلوب، بعدما يكونون قد تشاوروا في أمره مع القيادات الاقليمية، واضعين في حسابهم أمرين لا جدال فيهما: الأول ان المملكة العربية السعودية هي الحضن السياسي المؤتمن على اتفاق الطائف الذي تم توقيعه عام 1989، بمؤازرة الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، والملك المغربي الحسن الثاني، وأي مرشح رئاسي قلب ظهر المجن على اتفاق الطائف الذي أعاد اللحمة بين اللبنانيين، غير ذي قبول عند الرياض.
بالمقابل هناك الموقف الإيراني. فأي مرشح رئاسي لم يناصر المقاومة عام 2006، ولم يقف الى جانب حزب الله في معركته الضروس ضد اسرائيل، ليس مرحباً به عند طهران..
وتحريك أحجار الشطرنج الرئاسي هو الآن في يد الرئيس نبيه بري، المرجع النهائي للنواب، وصاحب شعار <نون باء> (نبيه بري)، فهو أدرى بالبئر والغطاء، ويعرف أي مرشح رئاسي يكون مقبولاً عند الرياض، وأي مرشح رئاسي لا يكون مستساغاً عند طهران. أما الولايات المتحدة فليس لها حتى الآن مرشحها الرئاسي في لبنان على غير عادة، ومرشحها السلبي المطلوب اصطياده هو تنظيم <داعش>. من <داعش> تكون البداية ومن الخلاص من <داعش> تكون النهاية.
فليرتب كل مرشح رئاسي أوراقه على هذا الأساس.