بقلم خالد عوض
[caption id="attachment_85872" align="alignleft" width="444"] رئيس الاحتياطي الأميركي "جيروم باول": لا لقاح ضد التضخم .[/caption]ماذا يحصل للسلع العالمية؟
أسعار النفط لامست الستين دولار منذ أيام. سعر أونصة الذهب فوق ١٨٠٠ دولار منذ الصيف. سعر أونصة الفضة فوق ٢٥ دولار منذ شهور. سعر العملة الرقمية "بتكوين" تجاوز ٤٥ ألف دولار مؤخراً بعدما كان أقل من ١٠ آلاف دولار قبل سنة. أسعار الذرة والسكر وحبوب الصويا متجهة صعوداً الى مستويات تاريخية. كل هذه السلع تخضع لقانون العرض والطلب، ولكن في ظل الجائحة ومفاعيلها على الاقتصاد، هل يمكن أن تكون زيادة الطلب وراء كل هذا الارتفاع في الأسعار أم أن الخلل يأتي اليوم من عملة التداول الأولى بهذه السلع أي الدولار الأميركي؟
عرش الدولار.. يهتز
ما زالت الورقة الخضراء هي العملة الأولى في العالم للتداول وللاحتياطيات. الدولار يشكل أكثر من ستين بالمئة من التداولات المالية ومن احتياطيات البنوك المركزية من العملات الأجنبية. ورغم كل الضغوط الصينية والروسية والفينزويلية والإيرانية لتغيير سيطرة الدولار على مالية العالم لم تتزحزح مكانة العملة الأميركية قيد أنملة. ولكن يبدو أن لوباء "كورونا" كلمة مختلفة. فبينما ما زال الدولار العملة الأولى للتداول والتحوط المالي لم تعد العملة الأولى من حيث سلامة الإدخار أو ما يسمى مخزن للقيمة (Store of Value). والسبب ليس محاولات الصين أو روسيا للتحرر من عملة غريمتهما بل الخطوات التحفيزية التي ما انفك البنك المركزي الأميركي عن القيام بها منذ بداية الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨
[caption id="attachment_85873" align="alignleft" width="444"] الرئيس الأميركي "جو بايدن": أهلاً بالديون .[/caption]عندما بدأ سياسة التحفيز المالي لدعم الاقتصاد عن طريق خلق السيولة وزيادة الكتلة النقدية في السوق. وقد وصلت ميزانية الإحتياطي الفيدرالي الأميركي مؤخراً إلى ما يقارب ٧،٤ آلاف مليار دولار أي أكثر من ثلث الناتج المحلي الأميركي، منها أكثر من النصف خلال سنة ٢٠٢٠ وحدها بسبب إجراءات التصدي المالي للوباء. في الوقت نفسه زاد دين الحكومة الأميركية ٦ آلاف مليار دولار خلال عام ٢٠٢٠ بسبب عجز الموازنة القياسي هذا العام ويبدو أن الدين سيتخطى ٣٠ ألف مليار دولار قبل نهاية ٢٠٢١. كل هذه المؤشرات تؤكد أننا على أبواب تضخم مالي لم يحصل في التاريخ ويمكن أن يفقد معظم العملات الورقية وعلى رأسها الدولار قيمتها الشرائية. هذا ما جعل المستثمرين منذ أشهر يتحوطون عبر شراء كل أنواع السلع وأولها الذهب. كما أن تنامي العملات المشفرة (Cryptocurrencies) جعل منها ملاذاً جديداً ليس فقط لاستباق التضخم بل للتحرر من القيود الحكومية والمصرفية الموجودة والآتية في المستقبل بسبب سعي الحكومات الحثيث لمحاربة كل أنواع التهرب الضريبي.
البتكوين بديلة للدولار؟
عدد العملات المشفرة أصبح أكثر من أن يحصى، فالرقم يزداد باستمرار مع خلق عملات مشفرة كل يوم تقريباً. حالياً هناك أكثر من ٧٨٠٠ عملة مشفرة، تستحوذ "بتكوين" على أكثر من ٦٠ بالمئة من مجموع القيمة السوقية لها تليها "إثيريوم" و"لايتكوين". وقد تجاوزت قيمة كل العملات المشفرة ألف مليار دولار مؤخراً بعد تجاوز قيمة "بتكوين" وحدها ٤٥ ألف دولار. هناك حوالي ٢١ مليون وحدة "بتكوين" اليوم ولا يمكن زيادتها لأنها تعتمد على التعدين الإلكتروني وهناك سقف لهذا التعدين. وبسبب محدودية عدد البتكوين أي العرض من جهة، والزيادة الكبيرة في الطلب عليها من الأفراد وحتى المؤسسات تحوطاً للتضخم من جهة أخرى، زاد سعرها من عشرة سنتات (أي عشر الدولار) عام ٢٠١٠ إلى ٤٥ ألف دولار منذ أيام.
الخيار الصعب: التضخم أو انفجار الديون
حسب معظم البنوك المركزية التي تعتمد عادة على سلات تضخم محددة لا تعكس بدقة مدى ارتفاع الأسعار، ما زال مؤشر التضخم أقل من
[caption id="attachment_85871" align="alignleft" width="333"] الدولار الأميركي .. الورقة الخضراء هي العملة الأولى في العالم للتداول والاحتياطيات.[/caption]٢ بالمئة في معظم دول العالم رغم الارتفاع الكبير في أسعار شتى أنواع السلع. وطالما أن التضخم مضبوط إذاً لا داعي لزيادة أسعار الفوائد التي تلجأ إليها المصارف المركزية عندما يزداد مستوى التضخم. ولكن ماذا لو زاد التضخم عن ٢ بالمئة وهو السقف الذي وضعه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، هل يمكن لأي بنك مركزي زيادة الفائدة في ظل حجم الدين الخيالي لكل حكومات العالم تقريبا؟ ستكون البنوك المركزية أمام خيار صعب: ترك التضخم يرتفع وعدم منع تراجع القيمة الشرائية للعملة المحلية أو زيادة سعر الفائدة للجم التضخم وبالتالي ترك حجم ديون الدولة والشركات والأفراد ينتفخ إلى حد يقضي على الاقتصاد.
أي عملة ورقية ستنجو؟
الثقة بالدولار تتراجع بسبب الخوف من التضخم خاصة في ظل إدارة الرئيس الأميركي الحالي "جو بايدن" الذي يعتبر الدين أسرع طريق للحلول الاقتصادية! فليس مصادفة أن ترتفع أسعار السلع من دون أي مبرر اقتصادي. كما أن زيادة سعر صرف بعض العملات أمام الدولار محير. "اليوان" الصيني ارتفعت قيمته أمام العملة الأميركية حوالي ١٠ بالمئة خلال الستة أشهر المنصرمة رغم كل الحروب التجارية التي بدأها الرئيس ألأميركي السابق "دونالد ترامب" والتي من المفروض أن تضغط على سعر العملة الصينية. "اليورو" ارتفع سعره حوالي عشرة بالمئة هو الآخر أمام الدولار خلال العشرة أشهر الأخيرة مع أن أوروبا تعاني ما تعانيه من بطالة وتراجع اقتصادي لم تشهد مثله منذ الحرب العالمية الثانية. حتى الباوند الإسترليني إرتفع بدوره ١٠ بالمئة في الفترة نفسها رغم "بركزيت" ورغم الكارثة الصحية التي ضربت بريطانيا. هل هذا المسار يمكن أن يستمر؟ بالطبع لا لأن كل هذه الدول لا يمكن أن تتعايش مع دولار ضعيف فهذا يمنح البضائع الأميركية تنافسية إستراتيجية تضر كثيراً بالاقتصادات الأوروبية والصينية والبريطانية التي لا تريد أن تخسر أي حصة من السوق الأميركية الضخمة. كما أن حجم الديون في كل هذه الدول ليس أفضل حال من الولايات المتحدة، رغم أن الصين تعاني من دين خيالي لشركاتها وليس لحكومتها التي ما زالت تحقق الفوائض. عندما يتجاوز حجم الدين العالمي ٢٧٥ ألف مليار دولار أي أكثر من ٣٦٥ بالمئة من الناتج المحلي العالمي ومع استحالة رفع الفوائد في المدى المنظور، من الصعب أن تنجو أي عملة ورقية في العالم من فقدان قيمتها الشرائية.
من الأرجح أن تطرح البنوك المركزية حول العالم عملتها الرقمية كما فعلت الصين منذ أشهر. هذا يمكن أن يعطيها سلطة أكبر على حركة العملة وربما تتمكن من تأخير التضخم بعض الشيء. ولكن قطار التضخم أصبح أسرع من اللجم، ولذلك لن يتوقف الإقبال على الذهب والعملات المشفرة .
الكلام عن سعر "للبتكوين" فوق المئة ألف دولار خلال عام وسعر للذهب يتجاوز ٢٥٠٠ دولار خلال المدة نفسها لم يعد بعيداً عن السياق المالي المنطقي.