كان مؤلماً مرور الذكرى الـ71 للاستقلال من دون احتفالات في قصر بعبدا وفي جادة الرئيس شفيق الوزان في منطقة المرفأ، ومن دون رسالة رئاسية تتوحد محطات التلفزة في بثها مباشرة، وهذا ما أعلنت عنه <الأفكار> منذ ثلاثة أسابيع... كل ذلك لأن ليس هناك رئيس جمهورية يضع حداً للشغور في قصر بعبدا الذي بدأ الأسبوع الماضي شهره السابع. وإذا كان التشاؤم قد غلب على ردود فعل السياسيين والرسميين خلال التعليق على غياب الاحتفالات بذكرى الاستقلال، فإن إشارات التفاؤل ظلت تنطلق من عين التينة على لسان الرئيس نبيه بري الذي يؤكد أمام زواره على ان الموجات التفاؤلية التي أطلقها ليست من عدم، وان المعطيات التي يملكها تؤشر الى إمكانية تحريك الملف الرئاسي من جديد، بعد الانتهاء من الملف النووي الإيراني الذي سيستكمل البحث فيه لاحقاً للوصول الى نهاية سعيدة له بعدما برزت الحاجة الى مزيد من التشاور الدولي مع إيران، ما فرض <تمديد> فرصة المفاوضات وقتاً إضافياً.
وإذا كانت <إشارات> الرئيس نبيه بري قد باتت البوصلة الوحيدة التي توجه السياسيين اللبنانيين والديبلوماسيين، فإن رصد ما يقوله من حين الى آخر، ويتعمد تمريره بالشكل والمضمون، أوحى الأسبوع الماضي ان ثمة <طبخة> ما يتم إنضاجها تحمل الى قصر بعبدا رئيساً يتفق عليه القادة من خارج الأقطاب الموارنة الأربعة، وكذلك من خارج المصنفين بـ<الأقوياء>. ذلك ان قول الرئيس بري ان للعماد عون - إذا قرّر الانسحاب من المعركة الرئاسية - <الرأي الأقوى والمرجّح في اختيار أي رئيس توافقي لأنه لا يجوز تجاهل حقيقة انه صاحب تمثيل واسع في الساحة المسيحية ويترأس الكتلة النيابية المسيحية الأكبر>، دلّ على أن خيار الرئيس التوافقي يتقدم بخطى ثابتة وإن لم يصل بعد الى <الخواتيم السعيدة>، علماً ان مثل هذا الأمر لن يكون سهلاً في ظل المشهد الرئاسي اللبناني الراهن.
إشارات بري... والحراك الدولي والإقليمي
وفيما لم يعطِ الرئيس بري تفاصيل إضافية عن <رسالته> التي عَبَرت عين التينة واستقرّت في الرابية حيث أحدثت قلقاً، أشارت مصادر متابعة لمسار الملف الرئاسي لـ<الأفكار> الى ان ثمة حراكاً تجدد في أكثر من عاصمة إقليمية ودولية انطلق من الزيارة التي قام بها مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في الخارجية الفرنسية <جان فرنسوا جيرو> لطهران، حيث عقد محادثات مع مسؤولين إيرانيين أبرزهم مساعد وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية والافريقية <حسين أمير عبد اللهيان> عرضت فيها ملفات ذات اهتمام مشترك كان بينها الملف الرئاسي اللبناني الذي لم ينتهِ البحث فيه وسيستكمل في زيارة لاحقة للمسؤول الفرنسي الى العاصمة الإيرانية خلال الأسابيع المقبلة وليس بالضرورة قبل نهاية السنة، إلا اذا حصلت <خروقات> تدفع بالتعجيل في إنجاز الاستحقاق اللبناني. وبرز تناقض في المعطيات حول الموقف الإيراني الذي أبلغ للفرنسيين أوحى بأن لا حسم بعد <للتوجه> في ما خص الاستحقاق الرئاسي.
المصادر نفسها أكدت ان <القناعة> تكوّنت لدى الأميركيين والأوروبيين بضرورة الإسراع في انتخاب رئيس جديد للجمهورية ولا ضرورة لمزيد من التأخير بعد، مخافة أن ينعكس ذلك على الاستقرار في لبنان، وبالتالي فإن التحرك سيكون في اتجاه الإيرانيين والسعوديين لإقناع حلفائهم في لبنان بالانخراط في اللعبة الانتخابية الرئاسية وتشكيل <تفاهم> مماثل للذي حصل قبيل تأليف حكومة الرئيس تمام سلام، حول <الرئيس التوافقي> الذي يجب أن يحظى بدعم <الأقوياء> في الصف المسيحي، إضافة الى تأييد القيادات الإسلامية، وان يعطي انتخابه <ثقة> متجددة بلبنان ونظامه ومؤسساته، ومثل هذا الرئيس لا بدّ أن يكون نتيجة طبيعية لحوار طُلب الى الرياض وطهران تسهيله من خلال إعادة الحرارة الى خطوط الاتصال بين العماد ميشال عون والرئيس سعد الحريري، وبين حزب الله والرئيس الحريري، لاسيما وان الرئيس بري والنائب وليد جنبلاط يدفعان في هذا الاتجاه أيضاً.
واستناداً الى المصادر نفسها، فإن الانطباع الذي تكوّن من الحراك الفرنسي في اتجاه ايران والسعودية والذي يحظى بمواكبة أميركية وأوروبية مباشرة، تغلب عليه الصفة الإيجابية التي ستُترجم من خلال مواقف سياسية ستظهّر خلال الأسبوعين المقبلين وطلائعها ما أعلنه الرئيس سعد الحريري في إطلالته يوم الخميس الماضي عبر برنامج <كلام الناس> من المؤسسة اللبنانية للإرسال، إضافة الى أجواء وُصفت بـ<المطمئنة> نقلها السفير الأميركي في بيروت <دايفيد هيل> الى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي قبيل سفره الى الفاتيكان، ما جعل البطريرك يقلل من تصريحاته التشاؤمية ويحد من توجيه اتهامات الى النواب والمسؤولين بتعطيل الاستحقاق الرئاسي، بعدما كان منسوب هذه التصريحات قد بلغ حداً عالياً من دون أن تترك أي صدى يغيّر الواقع القائم.
هذه المعطيات <الإيجابية> التي وصلت الى مرجعيات لبنانية أعقبتها موجة من <الشروحات> حول أهمية اختيار <الرئيس التوافقي> عبر التاريخ اللبناني الاستقلالي، بدءاً من الرئيس بشارة الخوري الذي لم يكن الزعيم الأقوى في طائفته والرئيس كميل شمعون الذي بات زعيماً مسيحياً قوياً بعد الرئاسة، وصولاً الى الرئيس فؤاد شهاب ومن بعده الرئيس شارل حلو والرئيس سليمان فرنجية الذي انتخب نتيجة تسوية سياسية لبنانية أُبعد عنها الزعماء كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميل... أما في مرحلة ما بعد الطائف، فإن الذين تعاقبوا على الموقع الرئاسي الأول أتوا في ظروف معروفة كانت اليد الطولى فيها للوصاية السورية التي <حكمت> لبنان مباشرة حتى العام 2005، ثم بطريقة غير مباشرة حتى بدأت الأحداث الدامية التي أشعلت المناطق السورية ولا تزال. وحرص <المروجون> لأهمية <الرئيس التوافقي> على التركيز على <مواصفات> يجب أن تتوافر في الرئيس العتيد تكاد تنطبق على مرشح أو اثنين ممن <ينظرون> ان لبنان محكوم <بالتوازنات والاعتدال وإدارة الخلاف والوقوف على مسافة واحدة من الجميع>!
مبادرة عون وتجاوب جعجع..
إلا أنه وفي الوقت الذي كان فيه الحديث عن <حسم> صفة <الرئيس التوافقي> على الرئيس العتيد للجمهورية، طرأ تطوران لا يمكن عزلهما عن <المناخات الإيجابية> التي شاعت مع تجدد الحراك الدولي والإقليمي على خلفية إنجاز الاستحقاق الرئاسي.
التطور الأول تمثل بإعلان العماد ميشال عون استعداده للنزول الى مجلس النواب على قاعدة حصر المنافسة بينه وبين رئيس <القوات اللبنانية> الدكتور سمير جعجع وذلك بالتزام معلن من رؤساء الكتل النيابية بأن يصوّت نوابها لأحد الاثنين فقط. وتبع ذلك إعلان وزير الخارجية جبران باسيل خلال جولة بدت <مبرمجة بعناية> في البقاع، ما اعتبر تحصيناً للموقف الرئاسي للعماد عون، إذ رفض باسيل <التسوية> التي قال ان ثمة <من يطالبنا بها بحيث نختار ليس الثالث أو الرابع، إنما يراد لنا أن نوافق على الإتيان بمن يحمل الرقم مئة الذي يعادل صفراً في التمثيل الماروني>. وطرح باسيل معادلة جديدة اعتبر فيها انه <عندما يختار الأقوى شيعياً وتحديداً من يسميه <الثنائي الشيعي> رئيساً لمجلس النواب، وعندما يُختار الأقوى سنياً لرئاسة الحكومة، نحن نريد الأقوى مسيحياً لرئاسة الجمهورية أيضاً (...) وإذا اعتمدت قاعدة التسوية فلتطبق على الرؤساء الثلاثة>!
وقد فسرت مراجع سياسية معنية <مبادرة> العماد عون و<إضافة> الوزير باسيل، على أنهما محاولة لاستباق الأخذ والرد الحاصلين خارجياً حول ضرورة الاتفاق على <رئيس توافقي>، وعلى الإشارات الإيجابية التي تمسك الرئيس بري بها على مدى الأسبوعين الماضيين، وبالتالي إعادة الأمور الى وضعها اللبناني الداخلي وفق المعادلة القائمة على ان العماد عون هو المرشح المسيحي الأقوى الذي يحظى بدعم فريق واسع من المسيحيين والغالبية الشيعية العظمى، كما يحظى بتأييد جزء من الطائفة السنية، ولا تعارضه الطائفة الدرزية، وهو وفقاً لهذه المعطيات <الرئيس التوافقي> الذي يصلح للمرحلة الراهنة في لبنان. وفي هذا السياق، تقول مصادر العماد عون انه سمع من النائب جنبلاط عندما زاره مؤخراً في حي كليمنصو ما كان قد سمعه أيضاً خلال زيارة جنبلاط له في الرابية، من كلام يشير الى ان <لا مشكلة بين جنبلاط وعون.. بل ان مشكلة عون في مكان آخر>، وهو يقصد المكوّن السني في لبنان وامتداداته العربية أي السعودية. من هنا، تستبعد هذه المصادر تجاوب العماد عون مع أي دعوة توجه إليه بـ<التنازل> عن حقه الرئاسي و<تجيير> ما يمثل لرئيس آخر، وهو قال في هذا السياق انه لن يكرر ما حصل مع الرئيس سليمان العام 2008، والأفضل له أن <يُهزم> سياسياً ولا <يستسلم> مجدداً، لاسيما وان <هزيمته> ستكون من صنع دول العالم وليست صناعة لبنانية، وكأن قدر <الجنرال> أن يواجه دائماً <العالم> في المعارك التي خاضها منذ تعيينه رئيساً للحكومة العسكرية في العام 1988.
... ورفض الجميل وجنبلاط
أما التطور الثاني، فتمثل بالتجاوب الذي أبداه الدكتور جعجع مع مبادرة العماد عون بحصر المعركة الانتخابية بينهما، وقد صدر أكثر من موقف من معراب مباشرة ومن خارجها أيضاً ان القوات اللبنانية لا تمانع في خوض المعركة وهي مستعدة لأي شكل من أشكال المنافسة لقناعتها بالحيثية المسيحية التي تتمتع بها. إلا ان القوات آثرت عدم <فرض خيارات> على حلفائها وتركت الباب مفتوحاً أمام مواقف رافضة لمبادرة عون، كان أبرزها من الرئيس أمين الجميل الذي وصف طرح عون بأنه <بدعة وهرطقة جديدة وإلغاء للديموقراطية ومن شأنه أن يُلغي الآخرين، ثم يلغي أحدهما الآخر>. وإذ أكد الرئيس الجميل رفضه فرض منطق كهذا على اللبنانيين قال: <هذه حرب إلغاء مستمرة للديموقراطية وعلينا أولاً أن نفك أسر مجلس النواب الذي بات رهينة من يعطل النصاب وكل الحياة الديموقراطية>. ولم يكتفِ الجميل برفض مبادرة عون، بل سدد <لكمة> الى الدكتور جعجع حين أعلن أن قوى 14 آذار ابلغته أنه مرشح هذه القوى في حال عدم فوز جعجع بالرئاسة، وهو ما حرصت مصادر القوات اللبنانية على نفيه مؤكدة ان مرشح 14 آذار كان وسيبقى الدكتور سمير جعجع.
أما المرشح الثالث النائب هنري حلو فأكد أنه لا ينوي الانسحاب من المعركة الرئاسية، بعدما <غرّد> النائب وليد جنبلاط عبر <تويتر> أن من حقه أن يمارس الديموقراطية على نحو كامل وصحيح، أي ان يكون له مرشحه الرئاسي المستمر في المعركة. وبرز على جبهة <المستقبل> وجود موقفين: الأول <جزم> بأن لا بديل عن جعجع في الوقت الحاضر، والثاني تحدث عن وجود مرشحين آخرين في حال تغيرت المعطيات القائمة يتقدمهم الرئيس الجميل، إلا أن هذا الأمر لم يُحسم بعد.
لا تبالغوا في التفاؤل!
حيال هذا التناقض في المواقف بين مناخ إيجابي من جهة وآخر يوحي بأن لا تطورات إيجابية جديدة، حرصت مصادر متابعة على القول ان المواقف التي صدرت سواء من العماد عون أو الدكتور جعجع وبعدهما الرئيس الجميل، كادت أن ترسم إيحاءات معينة، لكنها ظلت في النتيجة تعكس دوراناً في الحلقة المفرغة إياها لاسيما وان كلاً من العماد عون والدكتور جعجع والرئيس الجميل يرى في نفسه أهلية لتسلّم السدة الرئاسية الأولى ولن يكون من السهل على أحد إقناع الزعماء الثلاثة باستحالة وصول أحدهم الى قصر بعبدا إذا لم يكن ذلك وليد توافق داخلي تتوافر له الرعاية الدولية والإقليمية المباشرة، ومثل هذا <الإنجاز> لا يزال صعباً، ما يعني ان الأزمة الرئاسية لا تزال مفتوحة على <هبات> باردة حيناً وساخنة أحياناً من دون ظهور أي أفق واقعي لحلول وشيكة، لاسيما وان الحراك الدولي والإقليمي الذي تقوده باريس مع طهران والرياض لم يتجاوز مرحلة حاسمة بعد لأن الجواب الإيراني على المتحركين رئاسياً في اتجاهها لم يتبدل وهو ضرورة البحث مع العماد عون مباشرة خصوصاً بعدما سمى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله العماد عون مرشحاً وحيداً لفريق 8 آذار على أساس انه <الرئيس التوافقي> المنتظر.
إلا أن المصادر نفسها دعت الى عدم <المبالغة> في التفاؤل من الحراك الدولي والإقليمي خصوصاً بعد الدعوة التي أطلقتها الرياض في الأمم المتحدة لوضع حزب الله على لائحة الإرهاب الدولي، لاسيما وان قيادة الحزب وجدت في هذه الدعوة <تصعيداً> سعودياً ضد حزب الله الذي مضى على وجود مقاتليه في سوريا أكثر من سنتين، فلماذا اعتماد هذا التوقيت لتجديد الحملة على الحزب؟