بقلم عبير انطون
<مسرح فاروق> عرفه سكان بيروت أيام الزمن الجميل كما يجمع على تسميته محبو تلك الحقبة ومسجلو ذكرياتها وشوارعها وشخصياتها وقبضاياتها، زمن كانت بيروت <تجيد الاستمتاع بلياليها>... بيت الدين أرادت عبر مهرجاناتها استرجاع الذاكرة الحلوة من قصر الأمير بشير الثاني الشهابي، فكان <بار فاروق> العرض الغنائي الذي يعتبره المتابعون المفاجأة اللبنانية المنتظرة لهذا العام. فما الذي جعل سيدة القصر الجنبلاطي تختاره ضمن برنامج المهرجان الدولي؟ الى اية حقبة من الزمن سيرجع بنا؟ ما الذي سيعود به كل من عمر الزعني وكهرمان وفريال كريم وطروب وشوشو وغيرهم؟ ومن أي باب ستدخله السياسة؟
التفاصيل حصدتها <الافكار> من كاتب العمل ومخرجه هشام جابر والموزع الموسيقي لمسرحية <بار فاروق> زياد الأحمدية. اما نجمته ياسمينا فايد فتأتي على رأس لائحة تضم كوكبة لامعة من الأسماء المشاركة.
<كاباريه>.. لبناني!
الممثل والمخرج المسرحي هشام جابر حدثنا عن التمرينات التي تجري على قدم وساق وهي قد تكثفت بعد عيد الفطر المبارك. يقول المدير التنفيذي لـ<مترو المدينة> وصاحب العمل الجديد: <بعد نجاح عرض <هشك بشك> <الكاباريه> المصري المستمر منذ عامين ولا يزال، كان لا بد من التفكير بـ<كاباريه لبناني> هذه المرة. فإن <هشك بشك> عرض غنائي موسيقي يحاكي موسيقى الأفراح و<الكاباريهات> التي كانت منتشرة في مصر في النصف الأول من القرن الماضي، اما <بار فاروق> فيتناول <الريبرتوار> اللبناني منذ بداية الثلاثينات وصولاً الى السبعينات، زمن اندلاع الحرب اللبنانية المشؤومة>.
سبعة أشهر من الابحاث في الكتب والمجلات والارشيف والصور والافلام القديمة سبر فيها هشام جابر غور تلك الحقبة ليكتب عنها ويخرجها من دون ان يمثل فيها. هو خريج المسرح من كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، اتكل على تدوينات الماضي الا انها لم تكن الوحيدة. فالسيَر الذاتية عن تلك الحقبة هي اكثر ما اغنى التفاصيل اليومية لحياة البيروتيين آنذاك، فضلاً عن رموز الزمن السعيد والمشاهدات التي لا تزال تنقل عنهم، ومنهم ايضاً من عايش مسرح فاروق وكل المرحلة التاريخية الذهبية من بيروت الضاجة بالحياة. القبضايات، النجارون، السيدات والشوارع والأسواق كلها هنا، وفنانو الحقبة من عمر الزعني الى سامي الصيداوي وكهرمان ووداد وصباح ونجاح سلام لاحقاً... كلهم سيعودون الى الخشبة بأغنيات مستعادة بتوزيع جديد تحية الى التراث الموسيقي العربي والشعبي التي انتجته أجمل الأيام.
قصة مدينة..
العمل قسمه هشام جابر الى ثلاث حقبات: الثلاثينات والاربعينات في حقبة، الخمسينات والستينات في ثانية، والستينات والسبعينات في الاخيرة. المراحل الثلاث ستجسدها 14 شخصية على المسرح، وفي الخلفية، على شاشة كبيرة مشاهد تروي قصة بيروت، بدءاً من مسرح فاروق على ساحة البرج والذي كان اسمه <زهرة سوريا> لآل كريدية قبل تحويله الى خان للجنود العثمانيين في الحرب العالمية الاولى الى حين استعاده آل كريدية من جديد أوائل الاربعينات، حين أطلقوا عليه اسم <مسرح فاروق> تيمناً بالملك فاروق، والشهرة الواسعة التي عرفها مع الفنانين العالميين الذين قدموا أعمالهم فيه وصولاً الى حقبة السبعينات في صور تبرز التطور الذي عاشته المدينة، اذ يوازي تطور مراحل العرض المسرحي وتطور المراحل التي مرت بها العاصمة.
لا ينفي جابر ان نجاح <هشك بشك> المصري دفعه الى التفكير باستعراض آخر فكانت فكرة <بار فاروق> التي بدأت معالمها تتضح من قبل ان تتصل بهم مهرجانات بيت الدين. مع اتصالها، راحوا يوسعون الدائرة ويطورون الفكرة لتتناسب مع الحدث. اما النجاح الفائق لـ <هشك بشك>، فيرده جابر الى <الأبحاث> التي <انشغلت صح> مضيفاً اليها التجانس والتكامل بين الفكرة وترجمتها بكل من عمل وشارك فيها. اما حجر الزاوية لاستمرار نجاح هذا العرض على مدى سنتين دون توقف، فمردّه الى <شحنة الفرح الذي أدخله هذا العمل الى قلب مشاهديه في تواصل معهم يحترم عقلهم>.
بيروت - الاسكندرية..
لكن هل سينسحب النجاح عينه على <بار فاروق> اللبناني مقارنة بالأرشيف المصري الغني والذي جسده <هشك بشك>؟
- المقارنة غير ممكنة (يجيب جابر): بكل تأكيد ان <الريبرتوار> المصري أكبر بكثير وأكثر غنى من لبنان، ولكن لا يمكن ان ننسب الفن كله الى مصر كمصدر، فالجو الفني المعروف بدأ في أساسه كتعاون بين بلاد الشام والاسكندرية وشكلت بيروت امتداداً للاسكندرية. وفي لبنان، أرشيف لا يستخف به، فهو غني جداً وله نكهة خاصة.
يعد جابر بعرض لطيف فيه الفرحة والرقص والموسيقى، وفيه إعادة اكتشاف لموسيقى معروفة ولأغانٍ سمعناها كلنا ورددناها ونجهل مصدر بعضها. الموسيقى والثياب والاكسسوارات وغيرها كلها بنت تلك الحقبة في العمل، وسنواكب فناني لبنان والسيدات في <البار> وسلطتهن الكبيرة والمغنين والراقصين والناس في توليفة جميلة تشبه المرحلة..
كتب جابر خصيصاً للعرض خمس أغانٍ تتناول احداها بيروت وأسواقها يقول مطلعها: <تعا قرّب، تعا شوف بيروت عالمكشوف>، فضلاً عن أغانٍ أخرى عن القبضايات وموزع المشاريب، حيث كان النادل يحمل المشروبات في صندوق موثّق بحبال تتدلى من كتفيه، وكان يختار المشروبات التي يقدمها إلى روّاد المقهى وفق ملامح وجوههم.
التعاون الدائم مع الموسيقي زياد الاحمدية يعيده جابر الى علاقة الصداقة التي تجمعهما وهو من قام بإعادة توزيع الاغاني القديمة التي يتضمنها العرض فضلاً عن توزيع الاغاني الجديدة. ويقول جابر: <نعمل سوياً منذ 15 عاماً وبتنا نفهم على بعضنا من النظرة الأولى. اما ياسمينا فايد فهي ايضاً رفيقة درب منذ 15 عاماً وكنا في الفرقة عينها>.
تمويل وشبّاك...
عن انتظار التمويل الخارجي للأعمال المسرحية وسط غياب القدرة على الإنتاج لبنانياً يقول جابر: <أنا لا أتهكم على من يسعون للوصول اليه إنما يقضي الفنان وقتاً في البحث عنه أكثر مما يمضي في العمل الذي يعمل على إنجازه... في العام 2000 أنتجت بيروت ما يقارب حوالى مئتي مسرحية كونها اختيرت <عاصمة ثقافية للعالم العربي>، اما اليوم فلا نجد في العاصمة أكثر من أربع او خمس مسرحيات منتجة، تُعرض ليومين وتتوقف ليومين. من الضروري تأمين التواصل وإعادة العلاقة مع الجمهور عبر الباب المسرحي الثقافي والممتع في آن، والسعي الى ان يمول المسرح نفسه من شباك التذاكر>.
ــ هل يمكن الحديث عن إنتاج ضخم في بيت الدين؟
- هو إنتاج متواضع، يجيب جابر. على قدر إمكانيات بيت الدين. انه بالتأكيد اكبر من الإنتاجات التي يقدمها <مترو المدينة> حيث العدد اكبر من العازفين والموسيقيين والمشاركين. اعتبر الإنتاج متواضعاً نسبة لما سيراه المشاهد على المسرح.
لن يكون القصر الشهابي جزءاً من الديكور الذي سبق واستخدم كذلك في اكثر من عمل عرض فيه حتى أضحى الأمر <تكراراً سمجاً>. فالاحداث في <بار فاروق> واضحة وسوف يكون هناك <بار وكباريه> في قلب الساحة الداخلية التي تنقسم الى نصفين: الأول فيه الطاولات والكراسي والثاني للكراسي فقط وسيعيش المشاركون في ليالي بيت الدين أجواء هذا <البار> فعلاً حيث يرون الناس تعيش وتشرب وتتحرك وكأننا في حانة حقيقية.
ــ وهل سيقتصر <بار فاروق> على الفن والموسيقى والغناء ام ستدخله السياسة ولطشاتها او <إسقاطاتها>، خاصة وان <مسرح فاروق> تميز عن باقي مسارح العاصمة بانفراده في انتقاد السلطة السياسية والحكومات المتعاقبة والشخصيات السياسية البارزة في البلاد، ما جعل المؤرخين يصفونه بالمسرح السياسي الأول في لبنان؟
(بابتسامة يجيب جابر): <الريبرتوار> اللبناني لا يخلو حتى في الغناء من السياسة، فلطالما كان لبنان بلداً مشتعلاً سياسياً والفن يتأثر به دوماً، ووجود عمر الزعني وشوشو وغيرهما من الاسماء لا يمكن الا ان يشير الى الجو او النفس السياسي حينئذٍ>.
وعن أزياء الحقبة ولباسها يضحك جابر قائلاً: السيدات كانوا <بيعقدوا>. لأزيائهن وغيرها تعاون مع وسام دالاتي الصديق الذي يغني ويمثل في العرض ايضاً.
<هشك بشك>.. في بلجيكا
<بار فاروق> الذي سينتقل من بيروت الى بيت الدين لم يعرف بعد ان كان سينتقل بعد المهرجان الى العاصمة من جديد او حتى الى خارج البلد وللفرقة <سوابق> ناجحة في ذلك. فمسرح <هشك بشك> قدم عرضه في <بو آرت> الواقع في أحد أفخر وأقدم شوارع بلجيكا وحضره جمهور اتسعت الصالة التي احتضنته الى 500 كرسي وكانت غالبيته من البلجيكيين، <الشعب المحب للمسرح> بحسب وصف جابر، وهو في ايلول/ سبتمبر سيكون في القاهرة ليقدم عرضه فيها.
زياد الاحمدية، نجم مهرجانات <البستان> لهذا العام يأخذ على عاتقه <مسؤولية إيصال الموسيقى الشرقية الى الناس وقلبها>. هو موزع الموسيقى في العمل الجديد. انه على توافق تام مع هشام جابر الذي <وجد المعادلة التي يزاوج فيها الهدف الفكري للمسرح مع الموسيقى والتمثيل والبهجة في عروض غير بعيدة عن الجمهور، وتحمل في الوقت عينه طابعاً ثقافياً في عروض مسلية وممتعة من ضمن مستوى موسيقي وثقافي عالٍ>. <بار فاروق> الذي طلبته مهرجانات الدين الى برنامجها لم يشكل مفاجأة للموسيقي الشاب اذ ان هذا المهرجان اعتاد على تشجيع الطاقات المحلية وكانت له في السنوات السابقة حفلة مع شقيق زياد في عزف على آلة <التشيللو> وقد دعي اليه من المانيا كما سبق واستضاف الراقص عمر راجح وغيره من الفرق المحلية.. > هذه لفتة حلوة من المهرجان الدولي لأنهم يحاولون خلق مساحة للشباب اللبناني.
زياد سعيد بالأغاني القديمة التي سيعيد توزيعها منذ حقبة العشرينات وصولاً الى السبعينات واندلاع الحرب الاهلية، يوم شكل حريق مسرح فاروق شرارة تنذر باندلاع الحرب اللبنانية. الاغنيات جرى اختيارها بالتوافق ما بين المخرج، ربان العمل وصاحب القرار الاخير، وياسمينا فايد مؤدية الاغنيات والممثلة النجمة في العمل. بحماسة يصف زياد نجمة <البار> الثلاثينية: انها صاحبة الحضور النادر والمحبوب وهي ممثلة موهوبة ومغنية ممتازة تتمتع بخفة ظل وصوت صحيح جميل. الا ان فرح زياد الكبير يكمن في الاغاني الجديدة الخمس التي كتبها جابر نفسه خصيصاً للعمل ووزعها: الاغاني تأتي ضمن العمل في سياق زمني من التخت الشرقي وصولاً الى مرحلتي التلفزيون والإذاعة في الستينات. ولن تقتصر الآلات الموسيقية على القديم منها فهناك في مرحلة الستينات مثلاً لفتة لأغنية فيها <الارغن> الذي دخل في موسيقى تلك المرحلة في شكل مفاجئ لآلة كهربائية، فضلاً عن بعض التقنيات التي يرغب زياد بتركها مفاجأة، حتى يكتشفها الجمهور اثناء العرض. اما قرع طبول الحرب اللبنانية، فـــإن الإشــــارة لهــــا لن تكون بالمــــوسيقى إنمــــا بمشاهـــــد على الشاشــــة الخلفيــــة، مشـــاهد يرغب الجميع بأن تذكر ولا تعاد..