تفاصيل الخبر

ارتفاع معدل الانتحار في لبنان بسبب الغلاء وارتفاع سعر الدولار والبطالة

15/07/2020
ارتفاع معدل الانتحار في لبنان بسبب الغلاء وارتفاع سعر الدولار والبطالة

ارتفاع معدل الانتحار في لبنان بسبب الغلاء وارتفاع سعر الدولار والبطالة

 

بقلم وردية بطرس

 

الطبيب الشرعي الدكتور محمد خليل رضا: 75 في المئة من الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار كانوا قد زاروا الأطباء النفسيين في الستة أشهر الأخيرة من حياتهم

[caption id="attachment_79504" align="alignleft" width="249"] الدكتور محمد خليل رضا: الانسان يقدم على الانتحار عندما تضيق به حلقة الأمل والصبر والقدرة على التحمل[/caption]

 شكّل انتحار المواطن محمد علي الهق صدمة كبيرة لدى اللبنانيين، بعدما أقدم على اطلاق النار على نفسه لأنه لم يتحمل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة التي يمر بها لبنان، فوضع حداً لحياته أمام أعين المارة قرب أحد المقاهي في شارع الحمرا وفي وضح النهار... وبحسب شهود عيان كان محمد يجلس في احد مقاهي شارع الحمرا، وطلب فنجان قهوة وما هي الا دقائق حتى سمع الجالسون عبارة "لبنان حر مستقل"، قالها الرجل ثم أعقبها بطلقة نارية أنهت حياته. "أنا مش كافر" كانت آخر جملة كتبها في اشارة الى كلمات أغنية للفنان اللبناني زياد الرحباني التي يقول فيها: "أنا مش كافر بس الجوع كافر" مرفقاً إياها بسجل عدله النظيف. وأثارت هذه الواقعة غضباً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان، فأطلق ناشطون هاشتاغ #أنا_مش_ كافر تنديداً بالأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تشهدها البلاد.

 أربع حالات انتحار شهدها لبنان على مدار أيام قليلة بفعل ضيق العيش وتدهور الأحوال الاقتصادية في البلاد، وهو ما يؤذن من وجهة نظر كثيرين بدخول الأزمة المعيشية التي تشهدها البلاد مرحلة جديدة في ظل انهيار متسارع في الأحوال الاقتصادية يعد الأكثر سوءاً منذ عقود، ولم تسلم منه أي طبقة اجتماعية... وكان انتشار فيروس" كورونا المستجد" قد جاء  ليزيد الطين بلة مع وجود أزمة مالية خانقة يشهدها لبنان ، ويزيد الحالة الاقتصادية سوءاً حتى وصفها البعض بأنها أكثر الأزمات تهديداً لاستقرار لبنان منذ الحرب الأهلية، وقد أدى هذا الوباء الى أن يصبح نصف اللبنانيين تقريباً يعيشون تحت خط الفقر، في وقت تشير فيه التقديرات الى أن نسبة البطالة في البلاد ربما تصل الى 40 في المئة.

 

الدكتور رضا ودوافع الانتحار

 فما الذي يدفع الانسان للانتحار؟ وما هي الوسائل التي يتبعها المنتحر؟ وغيرها من الأسئلة أجاب عنها الاختصاصي في الطب الشرعي وعلم الجرائم والضحية  الدكتور محمد خليل رضا، وهو استاذ مساعد سابق في مستشفيات باريس – فرنسا وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية وعضو الجمعية الفرنسية لجراحة وأمراض الشرايين والأوردة ، حيث نسأله بداية:

* مع ارتفاع سعر الدولار والغلاء وحسم معشات الموظفين وطردهم واذلالهم في البنوك رأينا حالات انتحار، فكيف تقيّم تسجيل حالات انتحار في لبنان نتيجة تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي؟

- تسجل حالات الانتحار ومحاولات الانتحار المتكرر في دول العالم وليس فقط في لبنان، بأساليب وطرق شتى، منها الشنق، واستعمال السلاح الناري، والقفز من الطوابق العليا... الانتحار غرقاً وهو نادراً ما يحصل، وغيرها. وكنا نسمع في لبنان أن فلاناً انتحر ورمى بنفسه من صخرة الروشة ، لكن هناك حالات أخرى معقدة جداً. التشخيص يتم بصعوبة وذلك بعد حذف أنواع الغرق كافة: الجرمي، الطبيعي، المرضي وغير ذلك مع رزمة الفحوص المتعددة واجراء معاينة دقيقة للجثة في مشارح معاهد الطب الشرعي مع تشريح للجثة. في بعض البلدان من العالم وفي لبنان ومع تردي للأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة والغلاء وارتفاع أسعار المواد الغذائية والسلع كافة، والمنتوجات واللحوم والأسماك والدواجن الخضار والفاكهة وفقدان للمحروقات من بنزين ومازوت وشح في الغاز والقفز الجنوني والهستيري لارتفاع أسعار صرف العملات الأجنبية، وحسم لرواتب الموظفين والعمال والاساتذة والاستغناء عن خدماتهم وربما دفع أقل من ربع راتب لهم، واذلال المواطنين في البنوك لسحب أموالهم وبالقطارة وهي جنى عمرهم وعرق جبينهم وحقهم، والضغوط النفسية ومتطلبات العائلة والأبناء والواقع، حيث  يحتار المواطن في هذه الدولة او تلك من أين له أن يدفع ايجاراً لشقته او يسدد سندات ديونه للبنوك والشركات والمؤسسات المستحقة عليه منذ أشهر، وكيف له أن يداوي أولاده أو والده او والدته ويدفع الأقساط المدرسية والجامعية لأولاده، وكيف يرسل الأموال بالعملة الصعبة لأولاده الطلاب في الخارج الذين يدرسون ويتخصصون في هذا المجال او ذاك، وكيف له أن يسدّد بدل الاشتراك في المولدات الكهربائية ويدفع فواتير المياه والكهرباء والساتلايت والهاتف الثابت والخليوي...؟ فسعر صرف الدولار الأميركي أصبح خمسة الى ستة أضعاف سعره مقابل العملة المحلية...

[caption id="attachment_79503" align="alignleft" width="369"] الانتحار بتناول الحبوب بكميات مفرطة[/caption]

وتابع قائلاً:

ـ ألف سين وجيم لكن لا جواب له، حينها تضيق حلقة الأمل والصبر والتحمل ويتسلل وبقوة الخوف والوجع الجسدي والنفسي والاحباط والاستسلام واليأس والقرف والقلق وعدم القدرة على التحمل والاستمرار في متابعة أعماله وطموحاته كالسابق، فيُصاب الانسان بالتوتر والاحباط الكلي ويضعف أمام التحديات ويلجأ الى الانتحار بشتى الوسائل المتاحة بعدما يكون قد خطط لها واختار المكان إما في المنزل او مكان عمله. والبعض للفت الانظار يلجأ الى مكان راق يعج بالحركة والنشاط وفي وضح النهار ويطلق النار على نفسه بعدما يكون قد وضع كيساً على وجهه وأنهى حياته بطريقة قاسية ومرفوضة من الجميع. وكانت النية الجرمية لهلاك نفسه بأن يضع حداً لمعاناته المؤلمة، أو أن يضع على جسمه عبارات تلفت الانظار في هذا الاتجاه او ذاك.

*وماذا عن  وضع  المنتحر وسلوكه؟

ـ نسأل أهل المنتحر وأصدقاءه وزملاءه في العمل ومديره عن وضعه وسلوكه بتواريخ مختلفة لُيبنى على الشيء مقتضاه. وهل بحوزته تقارير طبية من أطباء نفسانين وغيرهم وتاريخ هذه التقارير؟ وهل كان يتابع المعاينة باستمرار عندهم، ومتى تمت آخر معاينة، وكيف كانت تصرفاته؟ ونسأل عما اذا كان يتناول الأدوية باستمرار فنأخذ عينات من علم السموم بعد تشريح للجثة ونركز على الدم الوريدي، والدم الشرياني، والبول والمرارة ومحتويات المعدة، ومن السائل الزجاجي للعين الذي يحدد زمن الوفاة، ومن الشعر الذي هو الصندوق الأسود للجسم كما الصندوق الأسود للطائرة، وهذا يعطينا أقدمية تناول الدواء او أنه اذا كان يتعاطى المخدرات على أنواعها. قد تكون نتيجة العينات المأخوذة من البول منفية لجهة تعاطيه المخدرات لكنها قد تكون هذه المواد مخزّنة في الشعر منذ فترة طويلة، وينسحب الأمر على تناوله للأدوية أو عدم تناوله لها، وربما كان يخدع أهله أنه يتناول الدواء ويفرّغ الأقراص من العلبة ويرميها. فالطبيب الشرعي تكون له الكلمة الفصل في ذلك اذا كان يتناول الأدوية أو يخدع الأطباء وينسحب الأمر بالمقارنة على العينات المأخوذة كافة من الجثة للقوطبة على التحقيق المضاد اذا حصل، وهل كان يأتي الى منزله في ساعات متأخرة من الليل أو كان ينام في مكان آخر ويأتي صباحاً أو بعد يومين أو أكثر وهكذا؟.. وماذا عن ماضي الضحية وهل كان مسافراً لفترات طويلة؟ وماذا كان يعمل: عمل ثابت ومستقر أم يبدل عمله باستمرار؟. وماذا عن وضعه العائلي: أعزب، متزوج، مطلق، متزوج من أمرأة أو أكثر، معزول عن الناس او في بناية مكتظة بالجيران في حي شعبي او متوسط او راق؟ احتكاكه بجيرانه وزملائه في العمل، كتوم او يتكلم كثيراً وهل يشاهد أفلام رعب على أنواعها؟ وهل يسهر كثيراً؟ وأين؟ ومع من؟ هل هو انسان متدين او عادي؟

* وكيف تقارب حالات الانتحار الفعلي وجريمة القتل؟

- بصفتي اختصاصي في الطب الشرعي وعلم تشريح الجثث وعلم الضحية والأذى الجسدي ومن ضمن اختصاصاتي المتواضعة جداً في هذه المجالات وكوني جرّاحاً وأستاذاً جامعياً أود أن يستفيد القارىء على مستوياته العلمية والأكاديمية كافة وحتى المتوسطة والعادية وكمراقب من أن نقارن علامات الانتحار الفعلي وجريمة القتل بأن يُقتل الضحية ويتم رميها في مكان معين والى جانبه أحياناً السلاح الذي استخدمه. المقارنة هي لضحية يستعمل يُمناه في الآلات الحادة ويمارس عمله وحياته وحركات يده اليمنى المسيطرة. فالوضعية العامة للجروح عند المنتحر تكون متموضعة على مستوى سهل الوصول اليها والأكثر شيوعاً في حالات الانتحار منطقة القلب وناحية الرقبة. اما في حالة القتل عمداً (جريمة قتل) بأن يقتل فلان فلاناً، فكل الأماكن متاحة للجاني القاتل، وحتى الأماكن على الجسد التي لا يصل اليها الضحية لينتحر. بالنسبة لعدد الجروح فهي متعددة ولكن واحدة أو أثنتين نهائية وعميقة. أما في حالة القتل عمداً فالجروح تكون متعددة اي  أكثر من عشرة جروح وعميقة.

* ما هي خاصية جروح الانتحار؟

- هي محاولة الوصول الى القلب باللجوء الى آلات حادة، الاصابات تكون عادة على مستوى الجهة اليسرى من الصدر ومن الناحية العليا للبطن. نتكلم عن الانتحار بالسلاح الأبيض، واستطراداً اذا كان الانتحار باستخدام السلاح الناري فهذا موضوع له لغته في الطب الشرعي لجهة فتحة الدخول وفتحة الخروج للطلقة او للطلقات النارية ناحية القلب، الصدر، البطن، داخل الفم، تحت الابط والأعضاء التناسلية  فهذا بحث آخر معقد له معاينته مع الوشم ومعاينة الملابس ومعايير أخرى معروفة في هذا المجال تحديداً.

[caption id="attachment_79505" align="alignleft" width="368"] تعددت الحالات والانتحار واحد[/caption]

ويتابع:

ـ أما بالنسبة لجروح جريمة القتل عمداً تكون الجروح أعلى من جروح الانتحار وتخترق الصدر من الجهة الأمامية. بالنسبة للانتحار ذبحاً ففي حالة الانتحار فاذا كان الضحية يستعمل يُمناه في الكتابة والحركة والعمل وغيرها تبدأ الجروح في الأعلى على مستوى الرقبة من اليسار. أما في حالة القتل يكون الجاني خلف الضحية، وجروح الذبح تكون أكثر انخفاضاً من ناحية الرقبة وعادة يكون شكلها أفقياً. وفي حالة الانتحار يكون الجرح سطحياً والضحية في حالة تردد من ثم يعمق الجرح وينهي حياته. وعند القتل يكون الجرح دفعة واحدة وأكثر عمقاً. وعند الانتحار يكون الجرح سطحياً باتجاه اليمين ويُطلق عليه في لغة طب الشرعي اسم (ذنب الجرذ) أو جرح شق . وفي حالة القتل يبدو الجرح سطحياً باتجاه اليمين. وفي حالة الانتحار نجد أحياناً عند المنتحر في البداية جرحاً او جروحاً صغيرة وقليلة العمق ويطلق عليها في لغة الطب الشرعي وعلم الجريمة والضحية والأذى الجسدي اسم جروح التردد. وفي حالة جريمة القتل لا نجد جروح التردد ونادراً تكون الجروح عميقة.

وسيلة الانتحار

* وماذا عن وسيلة الانتحار؟

- السلاح الأبيض نجده عادة في مسرح الجريمة بجانب الجثة او تبقى على جسده. أما في حالة القتل فليس من الضروري ايجادها. ومن باب التذكير يجب البحث عن رسالة وداع ، فإذا  كانت بخط المنتحر نلجأ كما ذكرت في البداية الى خبير خطوط محلف ليقارنها مع رسائل وكتابات بخطه في مناسبات عديدة ونسأل عائلته ومكان عمله، وما اذا كان المنتحر يعاني من مشاكل وأمراض نفسية نفسانية مادية، عاطفية جنائية وجرمية، وعنده تقارير من الأطباء النفسانين وتكون حديثة مع وصفة دوائية. ويجب الانتباه الى حالات الانتحار شنقاً عند المرضى النفسانين وكبار السن في مراحيض حمامات المستشفيات والاستفادة من انبوب المصل او شريط الهاتف او حبل آخر يصنع، وقد شاهدنا حالات عديدة في فرنسا خلال مزاولتنا للطب الشرعي.

ويتابع:

ـ بالنسبة لحالات الانتحار بشكل عام فإن حوالي 75 في المئة من الأشخاص الذين يفكرون بالانتحار كانوا قد زاروا الأطباء الاختصاصيين في الأمراض النفسية والنفسانية في الستة أشهر الأخيرة من حياتهم. وأشار أغلب هؤلاء الأطباء أن 18 في المئة من المرضى كانت لديهم النية للانتحار سنوياً، وتبرهن التجارب كم هو مهم للطبيب الاختصاصي أن يكشف ويتحرى بذكاء وبطريقة أو بأخرى عن المرضى الذين يحاولون أن يفكروا فعلياً بالانتحار بأن يرموا أنفسهم، مثلاً فكرة تراودهم حول الانتحار وان يعبّروا عنها بطريقة خاصة وهنا حنكة وذكاء وتحليل الطبيب لانقاذ هذا المريض وأن ينبّه وبأمانة أهله وأصدقاءه بأن يراقبوه بطريقة خاصة لأنه دق ناقوس الخطر لحياته. ومعدل الانتحار يكون مرتفعاً عند المرضى الذين يُصابون بأمراض عصبية ونفسية ونفسانية، وعند الذين يشربون الكحول ويتعاطون المخدرات وما شابه. وحدوث ذلك يكون مرتفعاً عند الذين يعانون من المشاكل العاطفية أو الضائقة المالية الجادة، والمرضى الذين كانوا في المستشفيات للمعالجة من اضطرابات انفصام الشخصية وأمراض نفسانية مزمنة.

*وماذا عن الانتحار عند كبار السن؟

- يسجل ارتفاع في معدل الانتحار عند أشخاص أعمارهم تزيد عن 70 عاماً وخصوصاً عند الرجال، وتشمل عوامل الخطورة غياب فرص العمل، والبطالة، والعزلة، والمشاكل الصحية، والأوجاع، حيث شعور المنتحر أنه مهمل ومتروك ومنفي، يُضاف اليهم السوابق المرضية العقلية والنفسية والنفسانية ومحاولات الانتحار. والكثير من كبار السن ينتحرون بطريقة غير مباشرة مثلاً بأن يمتنعوا عن تناول الطعام والتوقف عن تناول الأدوية المهمة... ناهيك أنه في بعض الأحيان يضع الأبناء أهاليهم في دور العجزة ومراكز الايواء للمسنين من دون أن يزورهم باستمرار ويتفقدوا أوضاعهم الصحية والنفسية.

* وماذا عن Stress وSyndrome de Stress Post Traumatique

أو متلازمة السترس بعد الصدمة؟

- من ضمن علاماتها وأعراضها المرضية القلق، والاكتئاب، وسرعة الغضب، وقلة النوم، والاضطرابات في النوم، والكوابيس الليلية المرعبة والمخيفة، والانطواء على الذات، واللامبالاة، وقلة الشهية، وعدم الانتباه والتركيز، وكذلك تسجل محاولات الانتحار حسب الماضي الطبي والدوائي والنفسي والنفساني والعاطفي والصدمي لكل ضحية.