بقلم سعيد غريب
كانت الساعة تشير الى الثانية من بعد ظهر الأحد الواقع فيه 13 نيسان/ أبريل 1975 عندما أرسل آمر فصيلة الدرك في فرن الشباك الى القيادة العامة في قوى الأمن الداخلي البرقية الآتي نصها:
<إلحاقاً لبرقيتنا رقم 2668 تاريخ اليوم، أقفلنا شارع مار مارون في عين الرمانة بدوريتين لمنع مرور عناصر فدائية. ولكن سيارة فيات فيها مسلحون مرّت عنوة ولم تمتثل، وما ان وصلت الى منتصف الشارع المذكور حتى تبادلت إطلاق النار مع عناصر من المحلة. وكانت النتيجة أن جرح فدائي وشخص آخر من الكتائب يدعى جوزيف أبو عاصي ويشاع أنه توفي.
ويوجد أوتوبيس بداخله عدد من القتلى والجرحى لم نتمكن من الوصول إليه بسبب إطلاق النار بغزارة... حالة الأمن مضطربة جداً ويمكن ان تجرّ البلاد الى حوادث دامية.. انها تتضاعف تدريجياً وتتطلّب التدخل السريع لتطويق الحادث على مستوى عالٍ... سنفيد>.
التوقيع: النقيب عصام عبد الساتر
بهذا الإيجاز البالغ، وصف صاحب البرقية حادث عين الرمانة الشهير الذي أصبح في غضون ساعات بمنزلة إعلان حرب ستنتهي ميدانياً بعد نيّف وخمس عشرة سنة، وستستمر بأشكال مختلفة الى تاريخ لم يحدده بعد لا القرار الدولي ولا الشعب اللبناني.
أربعون سنة مضت، ولم يعرف بعد لا الذين أطلقوا النار من سيارة الفيات، ولا الذين هاجموا <الباص> ولا الشرطي البلدي الذي أشار الى سائق <الباص> بوجوب سلوك طريق عين الرمانة.
ولما انتهت الحرب في لبنان وعليه في أواخر العام 1990، خفت من السلام لأن الحرب هي تحدي الموت، فيما السلام هو تحدي الحياة، ولأننا لم نكن جاهزين للسلام.
بعد أربعين سنة، لم يعد لدينا من الوقت ما نضيعه، لقد ضاق الزمن، وكل لحظة منه قياساً الى ظروفنا تعادل عمر إنسان...
بعد أربعين سنة، لم يعد لبنان يشبهنا، ولم نعد نؤمن كثيراً بأننا مقبلون على لبنان جديد <يطلع من التجربة>.
بعد أربعين سنة، بقيت المشكلة الكبرى لأن دماء الشهداء، كل الشهداء بقيت ثمناً لحصص في الحكم والسلطة.
بعد أربعين سنة، يستمر اللاعبون بأولادهم عملاً بالقول المأثور: <مين خلّف ما مات>.
ولكن الحق يقال ان ما من شعب في العالم يستطيع ان يتحمل أربعين ساعة من أصل أربعين سنة أمضاها اللبنانيون الذين خسروا كل شيء: القِيم، والعلوم الإنسانية، وما أورثهم الأجداد وأجداد الأجداد.
والحق يقال أيضاً، ان هذا الشعب المتعب لا يزال يعمل بكل قواه لاستعادة ما خسره بكل الوسائل الحضارية والديموقراطية.
أربعون سنة مضت، وكأننا نحاول المستحيل، نحاول، وعند كل نكسة نعود فنبدأ من الصفر، كما النملة التي تحمل حبة تكبرها حجماً ووزناً.
وللحقيقة نقول أيضاً: إن مأساة لبنان لا شبيه لها، فالنظام اللبناني أعطى الدليل تلو الدليل على عجزه عن أداء الدور الطبيعي الذي يؤديه عادة أي نظام ديموقراطي، أي دور صمام الأمان، واستطاع أن يستدرج الخارج لمعظم مشاكله كالرئاسة مثلاً، لأنه لم يستطع عبر السنين ان يتحوّل الى وطن، ولأن شعبه لم يتوصل الى شفاء الذاكرة وتنقيتها من رواسب الحرب والأزمات المستعصية منذ إنشاء دولة لبنان الكبير قبل ستة وتسعين عاماً، ولأن اللاعبين استمروا بأولادهم وأحفادهم واحتفظوا بالزعامة مدى الحياة، ولأن الحرية يساء استعمالها ويُعبث بها بفعل الإعلام الخاص الذي تحوّل بعضه الى مؤسسات تجارية ناطقة بالكلام الرخيص بعدما كان صناعة هي الاغلى في المشرق وربما في العالم...
بعد أربعين عاماً، ماذا ننتظر؟
كثيرون يعوّلون على الاتفاق النووي الأميركي - الإيراني، وهناك من لا يرى أي ممر من السياسة الأميركية تجاه لبنان.
أكتفي بسرد هذه الوقائع عن السياسة الأميركية ولاسيما في لبنان: في العام 1983، سأل الرئيس تقي الدين الصلح سفير الولايات المتحدة في لبنان: <هل أنتم في لبنان من أجل الاهتمام بلبنان أم من أجل قضية أخرى؟>، فابتسم السفير واكتفى بالقول: <لقد أعجبني السؤال>.
وتذكّر الرئيس الصلح سنة 1958 عندما جاء الأسطول الأميركي السادس الى بيروت وكان الظن انه جاء من أجل الاهتمام بلبنان، فتبيّن لنا ان تاريخ وصوله وهو 16 تموز/ يوليو، كان بعد يومين على ثورة العراق يوم 14 تموز/ يوليو.
الرئيس كميل شمعون قال للصحافي ميشال أبو جودة قبل أيام من اندلاع ثورة 1958: <اشتغل مع الأميركان في كل شيء إلا في السياسة. يطلعون معك في المصعد الى الطابق الثمانين، ثم يكبسون على الزر الأربعين وينزلون من المصعد ويتركونك وحدك تصعد الى الطابق الثمانين، حيث لا أحد>.
نقول أخيراً، من وحي الإرشاد الرسولي ولبنان الرسالة: ليس صدفة أن يكون لبنان تجمّع أديان وطوائف وكأنه <مدينة الله>.
ونردد سؤالاً طرحه رئيس وزراء فرنسا <كوف دو دوميرفيل> مع بداية حرب لبنان: <إذا ضاع لبنان، فأي لبنان نضع مكانه؟>.
ونتذكر كلاماً مسؤولاً للدكتور شارل مالك: <ليس من مصلحة لبنان أن ينقلب ضد تاريخه>.