لم يمضِ شهر على تطبيق المصالحة بين اهالي جبل محسن وباب التبانة، اثر اعتماد الخطة الامنية في مدينة الفيحاء، حتى حاولت عاصمة لبنان الثانية، استعادة حياتها الطبيعية، تلك المدينة التي تقع على بعد 85 كيلومتراً إلى الشمال من بيروت، كما تبعد عن الحدود السورية نحو 40 كيلومتراً فقط.
طرابلس وهي معروفة بكونها مدينة مضيافة امتزج فيها الحاضر بالتاريخ، وتعايشت فيها الحركة الاقتصادية النشطة مع نمط عيش وديع، كما اشتهرت منذ القدم بموقعها الجغرافي المميز، لكونها صلة الوصل ما بين الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، والداخل السوري والعربي، مما جعلها مركزاً تجارياً مهماً على مستوى لبنان عامة، ومنطقة الشمال خاصة.
مدينة تضمّ عدداً كبيراً من البُنى التاريخيّة والأثرية، متكاملة بأحيائها، وأسواقها، وأزقّتها المتعرّجة المُلْتوية والمسقوفة، وتضمّ بين جَنَباتها أكثر من 160 مَعْلماً، بين قلعة، وجامع، ومسجد، ومدرسة، وخان، وحمّام، وسوق، وسبيل مياه، وكتابات، ونقوش، ورُنوك، وغيرها من المعالم الجمالية والفنيّة.
تربض مدينة طرابلس - العاصمة الثانية للجمهورية اللبنانية - فوق سهلٍ، تغسل أطرافه الغربية مياه البحر، كما تتفيّؤ تلك المدينة الوديعة بظلال سفوحِ جبال الأرز من جهة الشرق، ويُشرف عليها من الشمال الشرقيّ جبل <الفهود> و<ترْبل>، ويخترقها في الشرق نهر أبو علي المتدفّق من الوادي المقدّس «قاديشا»، وهو يفصل بين ربوتي <أبي سمراء>، و<قُبّة النصر>.
تضرب جذور طرابلس في عُمق التاريخ، وتَرْقى إلى ثلاثة آلاف وخمسمئة عام، حيث أسّسها الفينيقيون، وتعاقبت عليها الأمم والعهود من الفينيقيّين حتى الانتداب الفرنسي، مروراً بالرومان، والبيزنطيّين، والعرب، والفرنجة، والمماليك، والعثمانيين.
لكن تلك المدينة للاسف، وبالرغم من عمق جذورها، شهدت منذ 2008، 20 جولة من العنف الاهلي، جولات اعادت اقتصادها عشرات السنين الى الوراء، مما جعل تجارها واصحاب مقاهيها يحاولون في الوقت الراهن، تحريك عجلتها الاقتصادية وتطوير أوجه الحياة المدنية فيها بالدفع الذاتي، وعن طريق اتباع سياسات تسويقية عديدة، سياسات الغاية منها اعادة الحياة الى مدينة الحياة بعد ان دخل اقتصادها غرفة الانعاش بعد غيبوبة دامت أكثر من ثلاث سنوات.
كبارة والجنسية الأميركية
للاطلاع اكثر على الخطط التسويقية التي يعتمدها ابناء طرابلس، قصدت <الافكار> مدينة الفيحاء وجالت في شوارع المينا - الميتين - ابي سمرا... قابلت اصحاب المطاعم ورواد المقاهي، حاورتهم وجاءت بالتحقيق الآتي:
بداية من شارع الميناء ومع احمد كبارة صاحب مطعم (جرجينز) للمأكولات الغربية، الذي اعلمنا ان الحرب ما بين اهالي التبانة وجبل محسن قد اثرت وبشكل فظيع على الحركة الاقتصادية في طرابلس، فعوائد الاستثمارات للاسف منذ عام 2008 بتراجع مستمر، مما دفعه كمدير مسؤول الى اتخاذ تدابير ادارية تقضي بتحجيم المصاريف عن طريق تقليل عدد الموظفين لا سيما المياومين، وذلك للتمكن من الاستمرار بالعمل.
ويتابع كبارة: لقد بات شائعاً ان ابن طرابلس انسان طموح ومحب للحياة، وهو ضد فكرة الاستسلام، يكافح دائماً ويحاول ان يخلق من الضعف قوة، ومهما حصل، ولاؤه لطرابلس وللبنان اولاً، فأنا احمل الجنسية الاميركية منذ التسعينات وبالرغم من محاولات اولادي المستمرة لم اترك طرابلس بل فضلت البقاء والاستمرار باستثماراتي في لبنان.
ويضيف كبارة: لقد لاحظت والحمد لله وبعد اجراء المصالحة بين اهالي التبانة وجبل محسن ان الحياة عادت تدريجياً الى سوق طرابلس فتحسنت مبيعات مطعمي و ازدادت خلال اسبوع تقريباً حوالى 30 بالمئة، فاستغليت الفرصة وعمدت الى اتباع خطة تسويقية جديدة، خطة ترتكز على العروضات المادية، والخصومات المالية على بعض الاصناف لا سيما تلك التي تستهوي الشباب، واقصد هنا المأكولات البحرية، والبيتزا و بعض الوجبات السريعة..، وتجدر الاشارة الى ان 70 بالمئة من زبائني وهم من اهالي الكورة وزغرتا وعكار قد عادوا من جديد بعد استتباب الامن في طرابلس ورحبوا بفكرة العروضات التي اعتمدتها، ووعدتهم بأنني سأستمر بسياسة العروضات التي ستختلف من اسبوع الى آخر.
نترك كبارة وسياسة العروضات، لنلتقي بمصطفى العرجا، صاحب مطعم <شيشا> عند شارع المعرض، اعلمنا العرجا انه لم يقفل مطعمه طوال فترة الحرب، وتداركاً منه لتقليل حجم الخسائر عمد منذ عام 2012 الى تقليل عدد الموظفين، والتركيز فقط على المأكولات السريعة التي لا تتطلب خدمة كبيرة، فاستمر بالعمل ولكن من دون تحقيق الارباح التي كان من المفترض تحقيقها لو كانت الاوضاع الامنية جيدة.
ويتابع العرجا: مع استتباب الامن في طرابلس عادت الحياة وبسرعة البرق الى شوارع المنطقة كافة، فعمدت الى استغلال الفرصة واتبعت سياسة العروضات (نارجيلة مجاناً مع كل طلبية تفوق 40 ألف ليرة ) ناهيك عن اعتماد برنامج فني مجاني مساء السبت والاحد ظهراً (مطرب وطبال)، وهذه السياسة لاقت اعجاباً من قبل زبائني فتضاعفت الحركة وعادت الى ما كانت عليه قبل عام 2013، وانا قررت متابعة هذه السياسة التسويقية رغبة مني بعودة حياه السهر والفرح الى المنطقة التي لطالما كانت تضج بالحياة.
وضع نزيه صفير (صاحب مقهى <الحلم>) لا يختلف اطلاقاً عن وضع العرجا، فصفير ورغبة منه باستغلال الفرصة، عمد الى اجراء مبارات بالطاولة والورق، كما اعلن عن اجراء تخفيضات على الاسعار (لا سيما التبولة والمشاوي) ناهيك عن اعتماد سياسة العروضات وبالفعل، يتابع صفير: الحياة بدأت تعود الى مقاهي ومطاعم طرابلس بعد فترة استراحة قسرية امتدت اكثر من تسعة اشهر.
الطبّال شادي
نترك اصحاب المطاعم لنلتقي بشادي العلاوي (طبال متنقل لدى مطاعم طرابلس)، اشار العلاوي الى انه طوال فترة المعارك نقل عمله من مطاعم طرابلس الى مطاعم زغرتا والكورة، وهذه هي المرة الاولى منذ سنة تقريباً التي يعزف فيها في طرابلس، حتى اجواء الطرب والفرح غابت عن شوارع طرابلس ومنها شارع المعرض والمينا، ولو كانا نوعاً ما بعيدين عن ساحة الاقتتال.
اما بالنسبة لرواد المطاعم فرحبوا بفكرة العروضات التي اعتمدها اصحاب المقاهي والمطاعم، فرئيف سنو كما حسام الامين اشتاقا الى صوت الطبل، واعلمانا انه وما ان استتب الوضع حتى عمدوا الى الاتصال بمطعم شيشا لحجز طاولة لديه، فتفاجآ بكون صاحب المطعم قد عمد الى اجراء تخفيض على الاسعار ورحبا بفكرة العروضات والحسومات، فهما قد يئسا من حالة القلق و الذعر وباتا بالفعل بحاجة الى اجواء جديدة، اجواء مليئة بالتسلية والفرح بعيداً عن حياة المآسي والخوف.
وأثناء تجوالنا نلتقي بشادي العويس (موظف اداري لدى مصرف بيبلوس) وطارق السيد (مدرس لمادة الرياضيات) حيث اعلمانا ان الحرب الهمجية التي مرت على طرابلس جعلت ابناء طرابلس يمرون بمرحلة من الروتين ( عمل ومكوث في المنزل) خوفاً من الوضع الامني السيئ وحالة الغليان والفوضى التي خيمت وللاسف على شوارع طرابلس، لذا ما ان تم الاعلان عن المصالحة حتى ارتاح جميع شباب طرابلس، وقمنا بالتوجه فوراً نحو المقاهي والمطاعم، محاولين الخروج من حالة الروتين، علنا نتمكن من استعادة جزء من الفرح واللهو الذين حرمنا منهما لفترة زمنية تجاوزت السنة تقريباً.
وضع معن خليفة وانس الاسعد وحليم الاحمد، ابناء الضنية لا يختلف اطلاقاً عن وضع شادي عويس، اذ اطلعنا خليفة انه وبسبب الوضع الامني المتردي قرر ورفاقه قصد مطاعم الجوار ( خارج طرابلس ) ولكن للاسف تم استغلالنا من قبل اصحاب المطاعم فالاسعار لديهم مرتفعة جداً، مما دفعنا الى المكوث مرغمين في منازلنا طوال فترة المعارك، فتغلغل الروتين في نفوسنا وبتنا نلهي انفسنا بلعب الورق لدى منازل الاصحاب والاقارب.
ويتابع خليفة: وما ان استتب الوضع الامني حتى قصدنا طرابلس وتنقلنا بين مطاعمها (صح صح، شيشا فابوري - جرجينز- الحلم - دار القمر... .....) ولاحظنا ان اصحاب المقاهي والمطاعم عمدوا الى اتباع خطط تسويقية وخصومات مادية ومالية لتشجيعنا وجذبنا الى مطاعمهم، وفعلاً ان السياسة التسويقية التي تم اعتمادها ناجحة جداً وباتت تعطي ثمارها واعادت الحياة الى مدينة الحياة.. ونتمنى ان تكون المصالحة بين التبانة وجبل محسن مصالحة حقيقية لاننا بالفعل يئسنا من حالة القلق والخوف كما ان آذاننا لم تعد تهوى سماع انين الجرحى وبكاء الارامل والمفجوعين، وباتت مشتاقة لصوت الطبل والعتابا والميجانا..
مقهى نسائي اسمه
<صح صح>
ومن مطعم الى آخر نلتقي بسالي عبدالله التي اعتبرت أن الحرب الأهلية لم تؤثر فقط على الوضع الاقتصادي لأهل طرابلس، بل إن أثرها السلبي امتد ليبلغ حياتهم الاجتماعية، فبات القلق والخوف بمنزلة المرافق الشخصي لكل أبناء طرابلس، لكن ما ان انتهت الحرب حتى عادت الحياة الى طبيعتها في طرابلس، فتمكنت وزملائي من متابعة تحصيلنا الجامعي بشكل مستمر، كما تمكننا من معاودة عملنا في مجال الاحصاءات بشكل متواصل، والاهم من ذلك انه بات بإمكاننا قصد المقهى الشعبي النسائي <صح صح> في منطقة الضم والفرز من دون اي قلق او ذعر.
وبدورها وفاء قمر الدين صديقة سالي أشارت الى أنه مع نهاية الحرب الأهلية، بات بإمكانها متابعة حياتها الشخصية بشكل طبيعي بعد أن أجبرها رصاص القناص على ملازمة منزلها والانقطاع عن العالم ما يزيد على 25 يوماً، حيث لا عمل ولا جامعة ولا حياة شخصية.
أما نور اديب التي كانت برفقة صديقها محمد حجو فقد أعلمتنا أن 30 بالمئة من أهالي طرابلس لم تؤثر عليهم الحرب الاهلية، فهم وبالرغم من القلق والخوف تابعوا حياتهم العادية من ارتياد للجامعة وس
وتضيف اديب: ولكن ما ان انتهت الحرب الأهلية حتى عاود الجميع حياته بشكل طبيعي وتخلى عن خدمات ذلك المرافق وتم إعطاؤه تعويضاً صرفياً تعسفياً راجين الله عدم عودته من جديد.هر في المقاهي والملاهي، ولكن بمرافقة حارس شخصي ألا وهو الخوف من رصاص القناص والقلق من مستقبل مجهول مليء بالحزن والمآسي .
ونلتقي بمحاسن العواس التي اطلعتنا على أن الحرب الأهلية، اضافة الى منعها من ارتياد الجامعة، حرمتها أيضاً من رؤية خطيبها اسماعيل بلابل الذي يعمل في السعودية، فهو اضطر الى تأجيل عودته الى لبنان منذ سنة تقريباً بسبب الأوضاع الأمنية، ومحاسن تنتظر بفارغ الصبر منتصف شهر ايار/ مايو موعد لقائها مع اسماعيل وتتمنى أن تكون الحرب الأهلية قد انتهت فعلاً ورحل مفتعلوها عن طرابلس من دون رجعة.