على طاولة مسؤول في مركز أمني رسمي <تقرير معلومات> أرسل بتاريخ 19/3/2014 من المديرية في بيروت إلى المراكز الأمنية المنتشرة في لبنان ورد فيه تحذيرات من انشطة استخباراتية اجنبية في بيروت تعمل على جمع معلومات عن الوضع في لبنان، ومحاولة تجنيد لبنانيين للعمل في صفوفها، ومن بين هذه الجهات <الموساد> الاسرائيلي. وأضاف التقرير ان صحافيين ومراسلي وكالات اجنبية ينشطون تحت ستار العمل الصحافي بتكليف من جهاز مخابرات اجنبي ويعملون على تصوير مناطق حساسة في لبنان لغايات امنية...
هذه المعلومات التي حصلت عليها < الافكار> استدعت تأكيد مسؤول امني <ان بيروت تعتبر محطة من المحطات الاساسية لعدد من الاجهزة الاستخباراتية الدولية على اختلاف انواعها، ومن خلال المتابعات الامنية للأنشطة الاستخباراتية في لبنان منذ اشهر، تبيّن ان بيروت عادت كما كانت <حلم كلّ جاسوس>، وباتت تَعجّ بالنشاط الاستخباراتي المتنوّع الجنسية، وهي بالنسبة لعدد من الاجهزة الاستخباراتية العالمية بمنزلة محطة مركزية وأساسية، وصارت مقاهي بيروت ومطاعمها مسرحاً لأنشطة هذه الاستخبارات، وبات من المتعارف عليه أنّ الاميركيين يلتقون <بأصدقائهم> في مطاعم <ماكدو>، و<بيتزا>، فيما البريطانيون يفضّلون اللقاء في الفنادق واحياناً في المقاهي، ومن خلال سيّدات بقصد عدم لفت الأنظار>. أمّا المخابرات الفرنسية فتركّز نشاطاتها في منطقة الحمراء، وبشكل خاص في منطقتي بليس وفردان، في حين انّ المخابرات العربية ما زالت تستخدم مراكز السفارات مكاناً للقاءات والتواصل، هذا اذا استثنينا المخابرات السورية والايرانية التي تسرَح وتمرح في البلد، ربما لأنها تعتبر نفسها <أم الصبي> ومن <أهل البيت>.
والنشاط الامني المتنوع يجري بشكل سري في الوقت الذي تواصل فيه الاجهزة الامنية اللبنانية دورات تدريب لضبّاطها وعناصرها لدى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا والمانيا وروسيا، إضافة الى التنسيق الامني القائم بين اجهزة هذه الدول، والاجهزة الامنية اللبنانية، في ملفات متعددة اهمّها ما يتعلق بالأنشطة الارهابية في العالم، وعمليات التزوير وتبييض العملات، وما الى ذلك.
صندوق بريد
ولبنان، وفق المصادر، يظلّ بالنسبة الى مختلف الدول العربية والاجنبية <صندوق بريد>، وساحة صراعات غير مُعلنة، فهو كان كذلك في الستينات في عِزّ صراع الشيوعية مع الولايات المتحدة الاميركية، وكذلك في السبعينات أيّام الناصرية، وفي فترات الحرب في ذروة الصراع الامني بين المخابرات الاسرائيلية والمخابرات الفلسطينية.
ففي عام 1968، كتبت مجلة <نيوزويك> الاميركية ان بيروت هي <العاصمة التي لا تنافسها عاصمة أخرى في الشرق الاوسط من حيث وفرة عدد الجواسيس الموجودين فيها ونشاطاتهم>. وفي كتابه <المخابرات تحرّك العالم>، يسرد الكاتب سعيد الجزائري رواية (قد تكون ملفقة) لكنها تعكس واقعاً ملموساً، عن اعتبار بيروت من أكثر العواصم التي تشهد انشطة لجواسيس العالم، وتحوي منذ زمن بعيد، محطات مهمة مركزية لعدد من الاستخبارات الغربية والعربية، يقول: <... ان جاسوساً غربياً تلقى ذات يوم من رئاسته امراً بالمجيء الى بيروت بمهمة ما. وقيل له: تذهب الى المنطقة الفلانية، الشارع الفلاني، البناية الفلانية، وفيها يقيم زميل لك (عميل) يدعى فلان؟ تقول له العبارة التالية (كلمة السر) فيتم التعاون بينكما ويقول لك ما يتوجب عليك عمله.
وصل الجاسوس الجديد الى بيروت واهتدى الى العنوان، وهو البناية التي يقيم فيها العميل المطلوب، لكنه فوجئ عند مدخل البناية وهو يقرأ اسماء المقيمين فيها على اللوحات النحاسية بوجود شخصين يحملان الاسم نفسه المعطى له من قيادته، وحار في الامر، اذ كيف يعرف مَن هو زميله المرسل اليه منهما؟ واخيراً لم يكن امامه سوى ان يعتمد على الحظ فيطرق باب احدهما، ويقول له (كلمة السر)، لعله يكون هو الشخص المطلوب، وتنتهي المشكلة، وقد قرع أحد الابواب وما ان فتح له الساكن حتى ذكر له عبارة التعارف، ولم يفهم هذا الاخير بالطبع. فكرر الجاسوس العبارة عند ذلك فهم الرجل القصد، وقال مبتسماً: <ها ها انك تريد الجاسوس؟ انه فوق في الطابق التالي فوق منزلي بالضبط...>.
السان جورج ملتقى الجميع
وتشير اوساط الى ان فندق <السان جورج> كان في المراحل الماضية، وخصوصاً في الخمسينات، المكان الذي يتردد عليه اعلام من الصحافيين والجواسيس والسياسيين، اضافة الى رجال الاعمال والفنانين... وكان مقهى <السان جورج> العنوان الدائم لكبار الصحافيين من محمد حسنين هيكل (رئيس تحرير جريدة <الاهرام>)، الى سليم اللوزي (صاحب <الحوادث>)، وعفيف الطيبي (رئيس تحرير جريدة <اليوم>)، وحنا غصن (رئيس تحرير <الديار>) ومحمد أبو الريش مراسل <التايم>... واضافة الى هؤلاء كان عدد من الصحافيين الذين عملوا في الوقت نفسه كأبرز عملاء للاستخبارات الغربية والاقليمية. فمراسل مجلة <الايكونوميست> كيم فيلبي كان من أبرز عملاء الاستخبارات البريطانية والسوفياتية في الوقت نفسه، ومراسل صحيفة <كونتيننتالي>، المصري خيري حماد، كان من ابرز عملاء الاستخبارات المصرية، وقد عمل على نسج علاقات واسعة مع عدد كبير من السياسيين اللبنانيين، ومع ضباط أمنيين في المؤسسات العسكرية والامنية اللبنانية. وكان حماد يستغل حماسة الشباب اللبناني للرئيس جمال عبد الناصر وللعروبة لتجنيدهم لخدمته ولانجاح مهمته. وتوصل حماد الى التعاون مع سائقي التاكسي، ونواطير البنايات، والبائعين المتجولين. وقد لفت خيري حماد انظار الاستخبارات الاميركية التي حاولت استمالته واغراءه للعمل معها، الا ان محاولاتها باءت بالفشل.
ويشير الضابط المتقاعد علي قاسم (عمل في الاستخبارات اللبنانية لفترة طويلة وعايش تلك الحقبة) الى أن معظم التحضيرات للانقلابات التي كانت تحصل في الدول العربية، وخصوصاً في سوريا، كانت تجري في عدد من مقاهي بيروت، ومنها مقهى <الدولتشي فيتا> عند منطقة الروشة وفي صالات فنادقها، اذ كانت بيروت المكان والمنفى والمأوى للهاربين من ظلم الانظمة العربية، ومن ديكتاتورية زعمائها وملوكها. <فالانقلاب الذي اطاح بالرئيس السوري أديب الشيشكلي في شباط/ فبراير 1945، وضعت مخططاته الاولى في احد المقاهي الراقية في بيروت. ولقد كنا نتابع ونرصد الشقق التي كانت تستخدم كأمكنة لاجتماعات كبار ضباط الاستخبارات العالمية مع عملائهم...>.
قصة <الميراج>
ويتذكر الضابط الامني كيف حاولت الاستخبارات الروسية عام 1969 سرقة طائرة حربية من طراز <ميراج> فرنسية تابعة للقوات الجوية اللبنانية، عندما حاول الروس اقناع الضابط اللبناني الطيار محمود مطر بتنفيذ هذه المهمة بقيامه بالاقلاع بالطائرة، والنزول بها فوق بارجة حربية روسية في البحر، مقابل اغراءات مالية كبيرة، من بينها تأمين اقامة له ولعائلته، في الاتحاد السوفياتي. وقد ابلغ الضابط مطر الاستخبارات اللبنانية بهذا الامر، وطلب منه المسؤولون عنه التظاهر بقبوله المهمة. <وبناء لاتفاق بين الاستخبارات اللبنانية والضابط مطر، قامت دورية من الشرطة العسكرية اللبنانية، وفي الموعد المحدد للقاء مطر والروس، بمداهمة الشقة في بيروت عند منطقة المزرعة التي كانت تستخدمها الاستخبارات الروسية لنشاطاتها، وذلك خلال قيام الضابط الروسي بتسليم شيك بمبلغ من المال للضابط مطر. وأسفرت العملية عن سقوط جرحى من الطرفين الروسي واللبناني، واحبطت العملية من الناحية الامنية، وانتشر خبرها في الصحف اللبنانية...>.
الا ان اوساطاً معارضة لبنانية وعلى رأسها الزعيم كمال جنبلاط شككت في الرواية الرسمية، واعتبر جنبلاط ان الضجة المثارة حول هذا الموضوع، انما هي نتيجة لمؤامرة، الاثر الاميركي فيها واضح للعيان. وقال جنبلاط لرئيس المكتب الثاني العقيد غابي لحود: <الاتحاد السوفياتي بلد صديق للعرب، ولا يجوز ان نشرشحه على هذا النحو... (مجلة <الوسط> 2/8/1998).
هشاشة الواقع اللبناني الامني
النشاط الاستخباراتي الاجنبي والعربي السافر في لبنان اعتبره البعض دلالة على هشاشة الواقع اللبناني الامني والسياسي الذي يسمح بهذه الاختراقات. وبرأي الباحث الياس ملحم الذي تحدث لـ<لافكار> ان بيروت كانت مسرحاً لتصفية عدد من المعارضين للانظمة العربية، وخصوصاً من معارضي الانظمة المتعاقبة في سوريا، الذين كانوا يلجأون الى لبنان، لاعتباره واحة ديموقراطية، في صحراء الانظمة الديكتاتورية. والامثلة في هذا المجال كثيرة، ومنها اغتيال الرئيس السوري سامي الحناوي على يد محمد أحمد حرشو البرازي. وفي منطقة الحمراء في بيروت، اقدمت عناصر من الاستخبارات السورية على اغتيال الضابط السوري غسان جديد عام 1957، وفي الرابع من آذار/ مارس من العام 1972، اقدمت الاستخبارات السورية على اغتيال ابرز الضباط البعثيين السوريين، اللواء محمد عمران في منزله عند منطقة القبة في طرابلس. وكان عمران قد لجأ الى لبنان في خضم الصراع البعثي على السلطة في سوريا.
ويذكر الكاتب غسان زكريا كيف انشأ رئيس الاستخبارات السورية عبد الحميد السراج مكتباً خاصاً للشؤون اللبنانية، وأوكل أمره الى الضابط السوري برهان أدهم، وكيف كان لهذا المكتب دوره الاول في الكثير من اعمال الاغتيال والقتل والتفجيرات في لبنان، عبر عملائه والمتعاونين معه، كتفجير التراموي في باب ادريس (1958)، واغتيال نسيب المتني (1958)، والصحافي كامل مروة (رئيس تحرير <الحياة>)، وكيف تمت تصفية القائد الشيوعي فرج الله الحلو، وتذويبه بالاسيد في مغطس حمام مكتب عبد الوهاب الخطيب عند شارع بغداد في دمشق.
في مرحلة الحوادث اللبنانية، وطوال عهد الوصاية السورية، كانت بيروت مسرحاً لتفجير السيارات المفخخة، واغتيال الشخصيات والزعامات والقادة.
الجاسوس الفلسطيني <وليد>
اضافة الى الانشطة الاستخباراتية العربية، كانت بيروت وما زالت ساحة للانشطة الامنية الغربية والاسرائيلية، وفي حديث خاص اكد الضابط السابق <ح. ش>، وهو من الضباط اللبنانيين الذين لعبوا دوراً مهماً مع المكتب الثاني اللبناني في الستينات والسبعينات <... ان الكثير من المؤسسات الانسانية الغربية، التي نشطت في بيروت، كانت تعمل لمصلحة اجهزة استخباراتية في وطنها الأم، وان المكتب الثاني اكتشف ارتباط عدد من مراسلي الوكالات الاجنبية في بيروت بأجهزة استخبارات غربية وحتى اسرائيلية، وان الاستخبارات اللبنانية كانت ترصد تحركاتهم واتصالاتهم، حتى ان بعض المراسلين الفرنسيين كان برتبة رائد في جهاز الاستخبارات الفرنسية، وكان لديه عدد كبير من المتعاونين معه من اللبنانيين. وان الاستخبارات الاسرائيلية ركزت بشكل خاص على التعاون مع الفلسطينيين في لبنان في السبعينات، الذين كانوا يكلفون بمهمات صعبة، من بينها اغتيال شخصيات قيادية في المنظمات الفلسطينية. والذي ساعد الاستخبارات الاسرائيلية على التغلغل في عمق المجتمع اللبناني زرعها عناصر يهودية من اصول عربية وفلسطينية بصورة خاصة لا يمكن كشفها، كقصة العامل الفلسطيني (وليد) في محطة محروقات في بيروت في منطقة الطريق الجديدة عام 1980، الذي تبين وخلال الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، انه يهودي من مواليد عكا، وشارك في المداهمات التي قامت بها القوات الاسرائيلية للمراكز الفلسطينية في منطقة الجامعة العربية والفاكهاني، وسط ذهول الجميع واستغرابهم، وكان <وليد> يعرف اماكن مستودعات السلاح والذخيرة...>.
... وأبو الريش
وروى الزميل محمد سلام في لقاء معه لـ<الافكار> (وهو عمل مراسلاً لعدة وكالات اجنبية) عن الفلسطيني <أبو الريش>، الذي كان مقيماً في بيروت في الثمانينات، وتحديداً في كوخ خشبي في شارع السادات. وكان <أبو الريش> يعتمر قبعة عليها ريشة كانت السبب في تسميته بهذا اللقب، ويستعطي المارة، ويقوم بنقل الاغراض لسكان البنايات قرب السفارة السعودية في شارع بليس. كان <أبو الريش> متنقلاً من منطقة الروشة حتى كورنيش المنارة، وعلاقته كانت وطيدة مع كل زوار الكورنيش، من المتنزهين الى الرياضيين، الى الباعة وسائقي التاكسي. وأثناء دخول القوات الاسرائيلية الى بيروت في اجتياح العام 1982، وبعد حصول مجزرتي صبرا وشاتيلا، ظهر <أبو الريش> بلباس مدني على حاجز للقوات الاسرائيلية في منطقة بئر حسن، ليتبين ان هذا <الشحاذ المخبول> هو من ضباط <الموساد> الاسرائيلي، وكان يعرف كل كوادر الاحزاب اليسارية اللبنانية، والمنظمات الفلسطينية. وأكد الزميل سلام <ان أبو الريش كان المسؤول عن رصد القوات السورية التي كانت متمركزة في ملعب النهضة، وهو الذي أمّن قصف هذه القوات من المروحيات الاسرائيلية من فوق البحر، في اللحظات الاولى لبدء الهجوم الاسرائيلي عام 1982، عبر اشارات لاسلكية كان يبثها للمروحيات، وقد تم تدمير المركز السوري بأكمله>.
من جهة اخرى، يؤكد محمود عيسى (المسؤول الامني السابق في جهاز الامن والمعلومات التابع لـ<فتح> اقليم لبنان) ان <الموساد> الاسرائيلي نجح بعد انسحاب الجيش الاسرائيلي من لبنان عام 2000 باعتماد اساليب امنية عدة تجاه لبنان من بينها :
أ - بناء محطة امنية خاصة بلبنان في قبرص.
ب - تحويل بقية الشبكة الامنية الاسرائيلية في لبنان غير المكشوفة الى جسد من الخلايا النائمة، حيث طلب من عناصرها الاستكانة في انتظار تعليمات جديدة.
ج - قام الموساد بتكثيف وجوده بين الجاليات اللبنانية، وخصوصاً في افريقيا، كما قام <الموساد> برسم هيكلية عمل جديدة للعملاء الذين فروا من لبنان مع الجيش الاسرائيلي>.
ديبلوماسي عربي مصري
وقال مظهر عيسى ديبلوماسي مصري (سبق ان كان في بيروت) في دردشة خاصة معه، انه <تابع في احدى المرات قضية سياسية مهمة في بلد عربي، والتقى لهذا السبب شخصيات سياسية في عاصمة هذا البلد، عله يصل من خلالها الى غايته، لكنه اخفق في ذلك. ثم اتى من اسر له: اذا اردت ان تعرف سر ما جئت من اجله، فإذهب الى بيروت.. وهكذا كان...>.
وهكذا فإن الديبلوماسي المصري أراد ان يؤكد ان اسرار العالم العربي السياسية والامنية، تُعرف من بيروت، تلك المدينة العجيبة المذهلة كما وصفها الديبلوماسي.
فالمطلوب تعزيز الأجهزة الأمنية وتحسين أدائها، والعمل على تعزيز السقف الأمني في هذا البلد، وتحقيق الاستقرار السياسي، منعاً لاستغلال الوضع الأمني والسياسي المترديين. فمن غير المسموح أن يظل لبنان بلداً سائباً، <تعربد> فيه الأجهزة الأمنية الاجنبية المشبوهة ، وعلى الأجهزة اللبنانية أن تكون جسماً واحداً متراصاً بوجه كل أعداء الوطن والساعين الى استهداف حريته وسيادته واستقلاله وأمنه الداخلي.