تفاصيل الخبر

أمهات اليوم يكافحن بأظفارهن وأسنانهن للحصول على ”الطفل المثالي“و النتيجة: أمّ مستنزَفَة وغير سعيدة، وطفل مرهَق ومتوتّر!

09/11/2017
أمهات اليوم يكافحن بأظفارهن وأسنانهن للحصول على ”الطفل المثالي“و النتيجة: أمّ مستنزَفَة وغير سعيدة، وطفل مرهَق ومتوتّر!

أمهات اليوم يكافحن بأظفارهن وأسنانهن للحصول على ”الطفل المثالي“و النتيجة: أمّ مستنزَفَة وغير سعيدة، وطفل مرهَق ومتوتّر!

 

بقلم كوزيت كرم الأندري

1-a

أكاد أجزم أن ما من أمّ، في عصرنا هذا، إلا واختبرت، تختبر، أو ستختبر حالة الاحتراق النفسي أو الاستنزاف النفسي < Mom Burnout>. المصطلح الأجنبي هذا، الذي استُخدم أساسا لتوصيف ما يمكن مواجهته في العمل من احتراق واستنزاف داخلي، بات يُستخدم اليوم لوصف الإجهاد العصبي واستنفاد الطاقة التي تعيشها الأم، في حياة هي في الأساس ضاغطة، وتزيدها الأم ضغطا، على نفسها وعلى أطفالها. فالسباق إلى لقب <أفضل أم> مستشرٍ، لاسيما على وسائل التواصل الاجتماعي. والسباق لإنجاز <أفضل طفل> مستشر أيضا، بحيث نريده الأول في كل المجالات! مع المعالجة النفسية دانيال بيشون، المرأة الثائرة على أكثر من مفهوم يسود مجتمعنا المبرمج برمجة لا منطقية ولا إنسانية، كان لـ«الأفكار> هذا الحوار.

ــ مدام بيشون، هل حالة الاحتراق النفسي <Mom Burnout> تصيب اليوم الأم، بشكل خاص، أم أنها باتت تصيب الوالدين على حد سواء؟

- يمكن أن يقع كلاهما في هذه المعاناة، لكن، في مجتمعاتنا الشرقية، غالبا ما تكون الأم من يعاني من حالة استنزاف أو احتراق نفسي، إذ تقع مهمة ومسؤولية التربية على عاتقها، هي، بشكل أساسي. وبصرف النظر عن الظروف التي تؤدي بالأم إلى حالة الاحتراق النفسي هذه، فإن المشكلة الأساسية تكمن في خلطها لمفهومَين مختلفَين تماماً في التربية: السلطة، وهي المطلوبة، والاستبداد! على الأم أن تتوصل إلى وضع قواعد ثابتة، وأشدد على صفة <ثابتة>، كي يعرف ويحدد الطفل موقعه من كل الأمور. وحين نقول ثابتة، هذا يعني أنه لا بد من الابتعاد عن النسق الرائج في أيامنا هذه، والمتمثل بـ:<لأ، لأ، لأ... طيّب يلا أوكيه>! فللطفل قدرة هائلة على مقاومة الرفض، وتالياً الإصرار والإلحاح حتى يحصل على ما يريد.

ــ لكن هل من السهل وضع قواعد صارمة وجامدة، وعدم الدوران حولها أحيانا؟

- أرأيتِ كيف تخلطون الأمور؟ أنا لم أقل <صارمة> ولا <جامدة>. قلت <ثابتة>، والفرق كبير!

ــ صحيح! أعترف أنني وقعت في فخ خلط المفاهيم... أكرر سؤالي: هل من السهل أن تضع الأم قواعد ثابتة <بلا ما تُطلع شوي وتِنزل شوي>؟ أليس هذا <التلاعب> من الصفات البشرية الطبيعية؟

- الطبيعي هو أن تتنازلي حين تختارين - أنتِ - ذلك، وليس تحت تأثير الضغط من الولد. القاعدة، مثلا، هي أن يتناول الطفل الطعام ومن ثم الحلويات. لكن إن شعرت، أنا كأم، أنه يرغب، اليوم، في تناول الحلوى أولا، فلا مانع في أن أقول له <حسناً تناولها الآن على أن تتعشى باكرا>. المرونة مطلوبة، لكن الخضوع لابتزاز الطفل مرفوض، ومن هنا ضرورة عدم إغراقه في عدد كبير من القوانين!

ــ إنه مأزق نواجهه جميعنا، في وقت من الأوقات، قبل أن <نُرَغْلِج> نظامنا التربوي، فيقع الطفل ضحية تعثّرنا هذا...

- لنتحدث، بداية، عن الإيقاع الذي يربى أطفالنا عليه اليوم، وهو إيقاع غير طبيعي على الإطلاق! على الطفل أن يستيقظ في السادسة صباحا، وهو أمر أكاد أقول شاذّ عن المنطق! فهو متعب، نعسان، يود أن ينام أكثر... باص المدرسة يمر عند السادسة وأربعين دقيقة، لذا تقرر الأم، من باب العاطفة وشفقتها على صغيرها الذي يبدو غارقا في النوم ويحتاج المزيد منه، تأخير إيقاظه ليرتاح قدر الإمكان، فتوقظه عند السادسة والنصف. سيتململ تلقائياً، ستغضب هي، سيرفض أن يرتدي ثيابه، ستلبسه عنوةً... ستستعجله وتدفعه بالقوة حتى يغادر المنزل باتجاه المدرسة. إنها فترة صراع خلّفت ضغطا على الطفل والأم في آن، لاسيما حين نفكر أن هذه الأخيرة استيقظت قبل أطفالها، بفترة زمنية معينة، كي تجهّز كل شيء. فهي تقوم بالكثير من الأعمال من دون أن توكّل سواها بأي من هذه المسؤوليات.

ــ أن توكّل من؟ تقصدين الطفل نفسه؟

- طبعاً! أسمع أخباراً تصدمني في هذا المجال! هناك أولاد يبلغون الرابعة عشرة والخامسة عشرة سنة من العمر، ولا تزال والدتهم تجهّز لهم ثيابهم التي سيرتدونها! تصوّري أن تقوم بذلك مع ثلاثة أو أربعة أطفال، بالإضافة إلى عدد هائل من المتطلبات اليومية الأخرى! يجب أن نمرّن طفلنا على تحمل المسؤولية، لأن تطبيق هذا المبدأ في البيت سيجعله يطبقه في أي مكان آخر في حياته...

ــ تعنين أن الطفل بات يريد، اليوم، كل شيء من دون أن يقوم بأي شيء، أليس كذلك؟

- ليس هو من يريد كل شيء، بل نحن نعطيه كل شيء! لاحظي طريقة تحدث الأم عن برنامج ولدها: <عِنّا درس... عِنّا مراجعة... عِنّا فحوصات>. هذه الـ<عِنّا> تشمل الطفل... وأمه. الأم تعبة، والطفل تعب أيضاً!

ــ هذا يعني أن حالة الاحتراق النفسي هذه باتت تطال الطرفين: الأم وطفلها؟

- تماماً! حين تسمعين <منظمة الصحة العالمية> تقول إن الطفل، حتى الثالثة عشرة سنة من عمره، يحتاج إلى عشر ساعات أو إحدى عشرة ساعة من الحركة والنشاط واللعب، هذا معناه أن ساعات الدراسة يجب ألا تتخطى الثلاث ساعات يومياً، في حين أننا نسمّره في مقاعد الدراسة سبع ساعات متتالية، تضاف إليها ساعات إنجاز الفروض في البيت. في ذلك افتراء على الطفل! تصوري أن مبدأ الانتقاء بات يمارَس منذ الحضانة <Garderie>. منها من يسمح لنفسه أن يطرد أطفالا، بحجة عدم قدرتهم على التأقلم! يؤلمني هذا الواقع ويصدمني، لكن ليس في وسعي مواجهته بمفردي! لدي، غالبا، الانطباع بأنني أقاتل، وحيدة، في وجه وزارة التربية والتعليم العالي، في وجه المدارس ونظامها اللامنطقي، وحتى في وجه... المدرّسين أنفسهم وهم زملاء لي، كوني مارست مهنة التدريس طوال عشرين سنة، لا بل كنت أيضا المعالجة النفسية التي تتابع المدرّسين أنفسهم، وأعرف تماما عما أتكلم حين أنتقد! هناك زملاء في مهنة التعليم يظنون أن الطفل يعاني من حالة مرضية، بدلا من الظن بأن المدرسة غير مناسبة لوضع الطفل وأنها لا تتكيف مع طبيعته! لا يستلطفونني لأني أنتقدهم. <ما حدا بِحِبّ شخص جايي يغيّر نظام قايم من سنين>.

ــ كما يقول الصحافي الكبير غسان التويني: <الفاتح يقاوم دائماً، وإن أتانا بالحضارة>!

- تماماً! تصوري، مثلا، مسألة بدء اليوم الدراسي عند السابعة والنصف أو الثامنة صباحا. لماذا؟ هل يمكن أن يجيبني أحدهم عن هذا السؤال! لماذا نبدأ في هذه الساعة المبكرة من اليوم؟! هناك زملاء في المدرسة، حيث كنت أدرّس، قالوا لي: <وشو بدّك يعمل الولد الصبح>؟ هم قرّروا أن ليس لدى الطفل شيء للقيام به، في حين أن بإمكانه أن ينام بكل بساطة!

ــ أنا من <حزب الحب>، وأؤمن بأن الطفل، إن أحببناه، وصلنا معه إلى النتيجة المرجوّة، حتى في المدرسة...

- طبعا! لم أواجه مشكلة انضباط واحدة طوال عشرين سنة من التعليم! غالبا ما أسمع، من تلامذة مروا في صفوفي، أنني كنت المدرسة الأفضل في نظرهم. لا أعرف إن كان هذا الواقع، لكن كنت أعمل بدأب ودقة لتحضير الحصة التي سأعطيهم إياها. كنت أعمل بقلبي، ولم أكن متسلطة، لكن كان لدي سلطة، والفرق كبير بين هذين المفهومين...

- حالة الاحتراق النفسي لدى المرأة هي أساس موضوعي هنا، إلا أنني أكتشف الآن أن هذه الحالة تطال الطفل أيضا، كما سبق وذكرنا، وهو أمر محزن للغاية...

- أطفالنا يعانون من فائض الضغط الذي نلقي به على أكتافهم، إن كمدرسة أو كأهل. فالمدرسة تخضعهم لساعات الدرس الطويلة ومن ثم لساعات تحضير إضافية في البيت، وتدفع بالأم إلى التعامل معهم بشكل سيئ وبضغط إضافي. فهي <تنتقم> من طفلها، بالصراخ والتوبيخ والضرب أحيانا، إذ عليها إنجاز ما تطلب المدرسة إنجازه، غير آبهة، أي المدرسة، بأن الطفل بات متعبا، لا بل مرهقا ويريد أن يستريح ويـــــلعب خــــــلال فترة ما بعد الظهر، وهذا حقه! المدرسة تضغــــط الطفـــــل وأمـــــه، والأم بدورهــــا تضغط طفلهـــــا، فينفجـــــــر الوضــــــع! وبعيـــدا من المـــــــدرسة، يُخضـــــع الأهــــــل أولادهــــــم إلى المــــــزيد مــــن الضغط والركض و<التدفيش> لإنجـــــاز كل شـــيء بوقتــه وكمـا يجب. خــــــذي، مثــــــلا، النشاطات اللامنهجيـــــــة <parascolaires Activités>. إنـــــه سباق ما بين الأمهات! لم نتعلم، حتى الآن، أن نقول لطفلنا أن النشاط الفلاني يكلفنا الرقم الفلاني، وأن عليه، تاليا، أن يواظب على القيام به. هو يمارس كرة السلة لمدة ثلاثة أشهر، وكرة القدم لمدة شهرين، والرسم لشهر واحد، وهكذا دواليك... <بيعمل شويّ من كل شي بس ما عندو شغف بشي ولا بيبرع بشي!>.

ــ هل صحيح أنه عليّ، كأمّ، أن أدفن مفهوم أو هَوَس الـ<أم المثالية>، كخطوة أولى ضرورية لتفادي حالة الاستنزاف النفسي؟

- من الصعب أن ندفن هذا الهدف وهو غاية كل أم، غاية أراها نبيلة وليست سيئة. المشكلة ليست في رغبتي في أن أكون أمّاً مثالية، بل في رغبتي في أن يكون لدي طفل مثالي! أريده أن يكون الأجمل والأذكى والأبرع وأن يعرف الكثير وأن يمارس أربعة عشر نشاطاً... علما أن هذه النشاطات تُخضعه لنوع من الضغط والضوابط التي تُضاف إلى تلك المفروضة عليه في المدرسة: <وْقاف، قْعاد، عيد، مش هيك، هيك أحسن>... أكافح، كأم، بأسناني وأظفاري، وعلى حساب أعصابي وأعصابه، لأصل إلى صيغة <الطفل الكامل>، في حين يعاني، هو من تخمة النظام والبرمجة!

ــ مدام بيشون، أهلنا لم يقوموا بأي من كل هذه الأمور، لكننا كنا سعداء، أكاد أقول... على عكس أطفالنا اليوم. إستنتاج محزن!

- طبعاً كنا سعداء! <كنا مبسوطين ألف مرة أكتر لأن كان عنا وقت نزهأ!>. الطفل الذي لا يشعر بالملل لا يخترع، لا يكون خلاقاً! لا وقت لديه ليكون خلاقا، ليخترع شيئاً!

ــ أخفقنا، كأمهات، مع أننا تثقفنا وقرأنا وطبّقنا نظريات علمية واستشرنا متخصصين... كيف تفسرون ذلك؟

- التربية، بالنسبة لي، ليست أمراً نتعلمه في الكتب وإن كان كتّابها إختصاصيين. هي مسألة خاصة جداً، ذاتية جداً، ولا تُعمَّم، تالياً، في كتب ولا تُقدَّم كوصفات جاهزة. كل طفل حالة بذاته. حتى داخل البيت، لا يمكن للأم أن تتعامل مع أولادها بالأسلوب عينه. هناك الحسّاس، القوي، سريع الغضب... لذا من الأفضل، برأيي، أن نضع كتباً حول <كيف أتحدث مع طفلي> أو <كيف أقبل طفلي كما هو>، بدلا من <كيف أربّي طفلي>. ويبقى الأهم، بنظري، وهو صدق الأم وتواضعها في مسار التربية. أن تقول لطفلها <إسمع يا ولدي، أنا أقوم بما أشعر بأنه الأنسب والأصح، لكنني لست امرأة خارقة لا تخطئ. هذا ما أريده منك وتلك هي قواعدي، عليك أن تتبعها وإن كانت مختلفة عن قواعد أمّ صديقك>. حين نكون شفافين مع طفلنا، يفهمنا جيدا...

ــ لمَ بتنا، برأيك، لا نُكثر من اللاءات لأولادنا؟

- لأننا فقدنا الصبر. نريد إسكاتهم بأي طريقة كي لا نسمع أنينهم أو احتجاجهم. أرى مشاهد مخجلة وغير مقبولة في المتاجر والسوبرماركات. لم أسمع، يوما، عبارة <كلا>، أو <هذا يكفي>، أو <لدينا منها في البيت>! يحصل الطفل على كل ما يريد ويتحاشى الأهل سماع صراخه.

ــ بالعودة إلى الأم، من هي الأم المعرّضة أكثر لحالات الاحتراق النفسي: ربة المنزل، أو تلك التي تعمل خارج البيت؟

- قد تتعرض كلاهما لهذه الحالة، وعندها لا بد من استشارة معالج متخصص في التدريب، بحيث يمرّن الأم على أمرين أساسيين في مواجهة أو تفادي حالة الاستنزاف النفسي والجسدي هذه: أن تكون منظمة جدا جدا، وأن تعلّم أولادها الاستقلالية.