بقلم كوزيت كرم الأندري
جثوت على ركبتَي لأتحسّس نبض الأرض. لم يرهبني المكان مع أن المشهد موحش، لا سيما عند مغيب الشمس. مستأنسة أنا مع <رفاقي>، ليقيني ربما بأن ما يفرّق بينهم وبيني - أو بينهم وبيننا - ليست معادلة الحياة والموت. مثلهم نحن أموات في الكثير من الأحيان، مع فارق بسيط في الشكل: لهم نعشهم الثابت، ولنا نعشنا المتحرك. تابوتهم يخفي بقايا جسد هجرته الحياة، وتابوتنا قد يخفي بقايا حياة في جسد.
إنحنيت لأضع باقة الزنبق البيضاء أمام مقبرة جدتي، حين لمحت شيئاً ما بدا لي دخيلاً على الديكور الذي لم تألفه عيناي من قبل. إنها المرة الأولى التي أزور فيها جدتي خارج منزلها الذي يعبق بعطر الهناء. أزحت حجراً مسنوداً إلى حائط القبر، فهوى مغلّفٌ أبيض كُتب عليه بخط اليد <إقرئي يا أمي>. فتحته بتردد وخجل، محرجة من عيون الموتى التي قد تكون محدّقة بي. الخط مشوّش والكتابة، التي تحمل تصحيحات وخربشات، تبدو تلقائية من دون تنميق. رحت أقرأ بفضولية ذهَبَت بانتباهي بعيداً عن هدف زيارتي هذه:
<أنقطع عن ضوضاء العالم الخارجي لأخطّ لك هذه الكلمات. عشيّة عيد ميلادي الخامس والخمسين، مكتظّة أنا بالكآبة يا أمي. ليتك تستطيعين مداعبتي بروحك الهائمة لا أعرف أين، علّني أنسى ما فهمته في خمسٍ وخمسين سنة.
فقد فهمت أن العمر رقم، لا علاقة له بتجاعيد الروح
فهمت أن الدمع يفيض نحو الداخل لا نحو الخارج
فهمت أن الإنسان ابنُ لحظته: يعشق اليوم ويكره غداً
فهمت أن القفص يبقى قفصاً، سواءٌ كان ذهبياً أم مرصّعاً بالألماس
فهمت أن طفولتنا هي المضادّ الحيوي
وأن كل ما يأتي بعدها <مطاحنات> مستمرة مع الحياة.
فهمت أن العلاقات العاطفية استثمارٌ عاطل
وهكذا تكون الأمومة - أحياناً -
فهمت أنه مع الوقت نغدو لا ننتمي لشيء
لا نشبه المكان الذي جئنا منه
ولا نشبه المكان الذي جئنا إليه.
فهمت يا أمي فهمت...
فهمت أننا نولد وظهرنا جالس كالرمح
وأن الحياة تتكفّل بانحنائه في ما بعد
فهمت أننا نأتي إلى الدنيا وحدنا
ووحدنا نرحل منها
فهمت أن العِلم فخّ
قد يحفر هُوّة بيننا وبين أقرب الناس
فهمت لمَ يُجَنّ البعض
لا بل بتّ أتعاطف معهم
فهمت أمي فهمت...
فهمت أن أحلام اليقظة هي حقيقتنا الوحيدة
وأن الجنّة مع الناس لا تُداس
فهمت أن باستطاعتنا أن نخبّئ بياض شعرنا
لكن لا شيء يحجب بطالة حواسنا
فهمت أن فوران الشباب يُبعث فينا قضاءً وقدراً
وقضاء وقدر يذوب
فهمت كيف يصبح الجسد حطباً يا أمي
بعدما كان أرجوحة تحلّق في العالي
فهمت... فهمت...
وفهمت كم كان أجمل... لو لم أفهم
فلو كان باستطاعتي أن أطلب ما شئت، في هذا العيد
لاخترت يا أمي أن أعود... إلى سنة أولى روضة!
ابنتك الوحيدة>
... لم أعد أشعر بجلدي يغلّفني. فراغ. فراغٌ مخيف داخل صدري وشعور بزلزال يصدّع الأرض تحت قدمَيّ، وكأنني أنزلق إلى محيطٍ سيبتلعني. إكتسحتني كآبة عارمة وفاض الدمع من عينَي. رحت أبكي كما لم أبكِ يوماً، في سكونٍ خلا إلا من شهقاتي. نسيت جدتي وصلاتي التي جئت من أجلها، وهبّت عليّ صورة أمي. ألهذا الحدّ تتكوّى بالحزن ونحن نغفل عن تعاستها؟ ألهذا الحد تنجح في حجب ندوبها عنا؟ كيف لهذا الكم من المرارة أن يتدفق في شرايينها دون علمنا؟
تمنيت لو أصاب بنوبة نسيان أبدية. لو أهرب إلى لحظة ما قبل إيجاد هذا المكتوب. كانت الأفكار السوداء تتقاذفني حين سمعت خطىً بعيدة. الصوت يقترب وارتباكي يزداد. طويت الرسالة بسرعة صاروخية، وضعتها في المغلف وأعدته إلى حيث كان، ثم رحت أبحث، عبثاً، عن محرمة تمتص الدمع الذي أمطر من عينَي. لكن بدل المحارم عثرت، في حقيبة يدي، على نظارتي السوداء ذات الإطار العريض والزجاج الداكن، فشكرت الله على موضة السّنة التي تحجب الشمس... والحزن. هممت بالرحيل، وإذ بامرأة يكسوها السواد تتجه إلى حيث أنا جالسة. نَظَرت إلي وألقت التحية ببسمة حزينة وإشارة برأسها. إنحنيت لتقبيل القبر قبل أن أغادر، وارتسمت على وجهي علامة استفهام تبحث عن جواب لزيارة هذه الغريبة قبر جدتي.
يا إلهي! كالبرق لمع ما اكتشفته أمام عينَي. أنا أمام قبر <هدى سعيد بركات>. أما جدتي، فاسمها <هدى سعد بركات>. الياء الضائعة هذه قلبت عليّ حياتي رأساً على عقب في غضون دقائق. يا الله كيف يتوه عنا البديهي أحياناً، وكأننا على موعد محتّم مع صاعقة تكهرب وجودنا. إختنقت ضحكاتي أمام عبثيّة هذا السيناريو السينمائي. فقد نجوت، والحمد لله، من مأساة خلتها في دياري، لكن مذاق العلقم الذي ابتلعت لا يزال في حلقي. فقد فهمت، بدوري، أن مقابل كل شروق للشمس في هذا العالم، هناك غروباً في مكانٍ ما. في بيت، في قلب، في عيون...