بقلم صبحي منذر ياغي
28 أيلول (سبتمبر) عام 1970، توفي الرئيس جمال عبد الناصر، وأحدثت وفاته صدمة على مستوى الوطن العربي، وخاصة لدى دعاة القومية العربية الذين رأوا فيه المعلم وباعث الفكر القومي الذي تبلور مع كتابات ساطع الحصري، ومع بزوغ حزب البعث الذي كان عصارة من فكر زكي الأرسوزي وميشال عفلق وصلاح البيطار ... منذ موت جمال عبد الناصر، فقدت الأنظمة القومية صدقيتها، مستعيضة عن العروبة الجامعة بنزعة محلية قطرية، إلا أن انحسار المد القومي السياسي والتنظيمي فتح المجال لنشوء الفكر الإسلامي السلفي والأصولي المتطرف الذي فرض نفسه كواقع بديل في ظل غياب شمس القومية العربية.
يعتبر الكاتب عوني فرسخ أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945 وحتى مطلع سبعينات القرن العشرين، كانت الأحزاب والحركات والشخصيات السياسية والفكرية القومية التوجه والالتزام هي الأكثر فاعلية وحضوراً في أغلبية الأقطار العربية في التصدي لمشروعات الأحلاف الاستعمارية والمبادرات الأميركية لتوطين اللاجئين وتصفية القضية الفلسطينية، كما توالت مواجهة المشروع الصهيوني، بينما شهد الفكر القومي العربي تطوراً كيفياً من العفوية إلى الوعي العلمي لمشكلات المجتمع العربي وما يواجهه من تحديات داخلية وخارجية باعتماده المفاهيم القومية الستة وهي التحرر والوحدة والديموقراطية والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري بحيث امتلكت الحركة القومية المبادرة الاستراتيجية في الإقليم العربي، فضلاً عن دورها القيادي في حركة عدم الانحياز .
لذا ما زال فرسخ على تفاؤله بمستقبل هذا التيار القومي، ويرى ان <التيار القومي العربي> وحده المؤهل راهناً للتقدم بشعوب الأمة العربية على الطريق الطويل والصعب لتجاوزها واقع التجزئة والتخلف والتبعية، وما يتهدد وحدة ترابها الوطني ونسيجها الاجتماعي>.
وبعيداً عن تفاؤل فرسخ، هناك الواقع المتردي لحال الأنظمة العربية، وفشل الفكر القومي في تحقيق الأحلام في التحرير والوحدة وإقامة العدالة وتحرير فلسطين وأدى ذلك لعودة البعض الى الفكر الديني الإسلامي واعتباره خشبة الخلاص والوسيلة للتحرير وتحقيق العدالة الاجتماعية، ما ادى الى مغالاة البعض، فنشأت التنظيمات والاحزاب الإسلامية المتشددة، وكانت التطورات الدراماتيكية التي شهدها العراق، ومن ثم تونس ومصر وليبيا وصولاً الى سوريا واليمن.. المناخ الخصب لانطلاقة الحركات والجماعات الأصولية المتشددة بكل قوتها، فشهدنا قيام <جبهة النصرة> و<داعش> وحركات متنوعة اتخذت من الإسلام شعاراً وهدفاً...
الحركات والأحزاب الإسلامية
ويرسم الكاتب قاسم قصير خريطة للقوى والحركات الإسلامية في لبنان والمنطقة مؤكداً <ان هذه القوى والحركات أصبح لها دور مهم في لبنان والعالم العربي، وخصوصاً في السنوات الثلاثين الأخيرة منذ انتصار الثورة الإسلامية في ايران وصولاً الى الثورات الشعبية في العالم العربي>.
وبرأي قصير ان أهم هذه الحركات هي حركة الاخوان المسلمين، اذ يعتبر الاخوان المسلمون التنظيم الإسلامي الحركي الأول في العالم العربي (وله امتدادات أيضاً في العديد من الدول الإسلامية)، ولقد تأسس عام 1928 في مصر على يد الإمام حسن البنا بعد سقوط الخلافة العثمانية وهدف الجماعة إقامة دين الله في الأرض وتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام وتبليغ دعوة الإسلام إلى الناس عامة وإلى المسلمين خاصة وتحرير الوطن الإسلامي بكل أجزائه من سلطان غير إسلامي..
التيارات السلفية
واعتبر قصير ان التيارات السلفية تعتبر القوة الثانية في العالم العربي والإسلامي بعد <الاخوان المسلمين> وليس هناك تيار واحد أو إطار منتظم للتيـــــــارات السلفيــــــــة بــــــل هــــــي تتوزع في كل الدول العربيـــــــة والإسلاميـــــــة اما باســـــــم جمعيــــــــات أو معاهــــد أو حركات سياسية أو خلف علماء الدين وشخصيات دينية.
والتيارات السلفية وفق قصير تعود تاريخياً للإمام أحمد بن حنبل ومن ثم للإمام ابن تيمية... والسلفيون يدعون للعودة إلى السلف الصالح وهم يتمسكون بالأقوال والأحاديث الشريفة بحرفيتها وهناك سلفية تكفيرية وهي التي تدعو لتكفير من لا يتبنى آراءها...
حزب التحرير
تأسس حزب التحرير عام 1952 على يد الشيخ تقي الدين النبهاني. وقد عاش النبهاني في فلسطين ثم انتقل إلى سوريا فلبنان حيث بقي في لبنان حتى وفاته عام 1977. ويدعو الحزب لإقامة الخلافة الإسلامية ونشر الوعي السياسي والنصرة، أي دعوة القيادات الفاعلة (السياسية والعسكرية) لنصرة الحزب لإقامة الخلافة، وانتشر الحزب في العديد من الدول العربية والإسلامية ووصل إلى أوروبا ودول آسيا الوسطى.
حزب الدعوة والأحزاب الإسلامية
في العراق
تأسس حزب الدعوة الإسلامية في العراق عام 1957 على يد المرجع السيد محمد باقر الصدر وعدد من العلماء المسلمين الشيعة ومن الذين ساهموا بتأسيسه وقيادته نذكر منهم: السيد محمد حسين فضل الله، والشيخ محمد مهدي شمس الدين، والسيد مهدي الحكيم وعلماء آخرون، وقد تأثر حزب الدعوة بحزب التحرير والاخوان المسلمين على الصعيد الفكري وكان يدعو لإقامة الحكم الإسلامي. وقد انتشر في العراق وعدد من الدول العربية وخصوصاً لبنان والبحرين والكويت والإمارات... وفي موازاة حزب الدعوة، نشأت منظمة العمل الإسلامي برعاية المرجع محمد الشيرازي (وهناك تيار اسمه <الشيرازيون>) وقد انتشر هذا التيار في عدد من الدول العربية والإسلامية تحت أسماء متعددة كجبهة العمل الإسلامي في البحرين والجبهة الإسلامية في الجزيرة العربية...
التنظيمات الإسلامية الجهادية
وهذه التيارات إما متأثرة بالاتجاهات المتشددة في حزب الاخوان المسلمين وخصوصاً سيد قطب، وإما متأثرة بالتيارات السلفية الجهادية. وبدأت هذه التيارات والمنظمات تبرز في مصر وسوريا والأردن في الستينات والسبعينات والثمانينات ولاسيما بعد إعدام سيد قطب ومن أبرز هذه التنظيمات في مصر:
- جماعة المسلمين (المعروفة باسم التكفير والهجرة) - تنظيم الكلية الفنية العسكرية.
جماعة الجهاد الإسلامي، الجماعة الإسلامية الجهادية وقامت هذه المجموعات بعمليات عسكرية في مصر وأبرزها قتل الرئيس أنور السادات على يد خالد اسلامبولي ومحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك. ومن أبرز قادتها الدكتور أيمن الظواهري الذي انتقل لاحقاً إلى أفغانستان والتقى هناك بأسامة بن لادن حيث أسس مع مجموعات أخرى تنظيم <القاعدة>. وفي سوريا، برزت عدة منظمات إسلامية جهادية من رحم الاخوان المسلمين وأبرزها مجموعة الطلائع المقاتلة بقيادة مروان حديد والذي قاد الصراع ضد حزب البعث. كما خاض الاخوان المسلمون في سوريا صراعاً ضد البعث في الثمانينات.
وشكل تنظيم <القاعدة> التطور الأبرز في التيار الإسلامي الجهادي لأنه تحول إلى تيار عالمي وقام بالعديد من العمليات العسكرية وانتشر في معظم الدول العربية والإسلامية وفي أوروبا وأفريقيا وأميركا وآسيا.
وانتشرت المجموعات الإسلامية الجهادية في لبنان وسوريا والعراق والأردن والسعودية ولاسيما بعد احتلال أميركا لأفغانستان والعراق.
ويرى الباحث قاسم قصير ان الحركات الإسلامية هي مثل بقية الأحزاب في العالم العربي تتطور وتتغير وفق تغير الظروف ورغم أنها تنتسب بمعظمها للفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية وتعمل لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، فإنها شهدت تغيرات عديدة على رؤيتها الفكرية ومشاريعها السياسية والعديد منها رغم أنه كان يعارض الديموقراطية، فإنه اليوم قبل بالديموقراطية وانخرط في الصراع السياسي، وبعضها كان يدعو لإقامة الدولة الإسلامية، لكنه اليوم يدعو لإقامة الدولة المدنية أو إقامة الدولة ذات المرجعية الإسلامية لكنها تلتزم بالأسس الديموقراطية، في حين أن بعضها الآخر لا يزال يرفض الديموقراطية ويعتبرها كفراً وإلحاداً.
كما أن بعض هذه الحركات والتيارات التي التزمت بالعمل الجهادي عمدت إلى إجراء مراجعات فكرية وتنظيمية وتخلت عن العنف وعملت لتأسيس أحزاب سياسية، وكلما توفرت الديموقراطية والحرية، ابتعدت الحركات الإسلامية عن العنف، لكن عندما تغيب الديموقراطية ويسود القمع فإن هذه الحركات تلجأ للعمل السري والجهادي.
لبنان والأصولية
وكان لبنان قد شهد قيام تنظيمات وحركات أصولية على أراضيه، وان لم تلقَ هذه الظاهرة المناخ المؤيد نظراً للتنوع الطائفي في لبنان، وللتركيبة اللبنانية القائمة أساساً على العيش المشترك.
واذا اعتبرنا ان حزب الله لا يحمل في نهجه وفكره دعوة لإقامة جمهورية إسلامية او أفكاراً سلفية او متطرفة، فإن أبرز التنظيمات الأصولية التي شهدها لبنان لاقت الأرض الخصبة في المخيمات الفلسطينية نتيجة البؤس وصعوبة العيش ومنها مثلاً تنظيم <عصبة الأنصار> الذي اسسه الفلسطيني هشام الشريدي عام 1985، واغتيل الشريدي داخل المخيم، واتُهمت حركة <فتح> باغتياله. بعد اغتياله، تولى أحمد عبد الكريم السعدي الملقب بـ<أبو محجن> مسؤولية تنظيم <عصبة الانصار>، وصار يعرف بلقب <أمير العصبة>، ولكن سرعان ما توارى الأمير <ابو محجن> عن الانظار، بعد اتهامه باغتيال رئيس <جمعية المشاريع الخيرية> (الاحباش) في بيروت الشيخ نزار الحلبي صيف 1995، وما زال (أبو محجن) حتى اليوم يدير هذا التنظيم من مخبأ سري، وعندما تسأل مسؤولين في العصبة عن مكان وجود <أميرهم> يرددون <انه في بلاد الله الواسعة>.
وفي الفترة الاخيرة، لوحظ ان تنظيم <عصبة الأنصار> وصل الى مرحلة من النضج السياسي، وبات من التنظيمات التي تشارك مع الفصائل الفلسطينية في معظم القضايا واللقاءات التي تهم المخيم وأمنه وأمن الناس، فضلاً عن تجاوبه الى حد ما مع قرارات تتخذها الجهات الأمنية اللبنانية الرسمية.
<جند الشام >
واذا كانت <العصبة> قد بلغت مرحلة النضج والهدوء والبراغماتية، إلا ان تنظيم <جند الشام>، رغم قلة عدده ما زال يشكل عبئاً على الوضع الأمني في المخيم، لا بل ان ظهور هذا التنظيم عام 2004 اثار شكوك كثيرين من المسؤولين في التنظيمات الفلسطينية حول خلفيته والجهات التي تحركه خصوصاً بعد ارتباط اسم <جند الشام> بتفجيرات واغتيالات حصلت في مخيم عين الحلوة. و<جند الشام> وفق ما ذكر المسؤول الفلسطيني في حركة <فتح> م. عيسى: <عبارة عن مجموعة صغيرة لديها ارتباطاتها بالعدو الصهيوني، وهي موتورة جاءت من خارج المخيم وتقوم بأعمال تخريبية>.
<فتح الإسلام>.. وخلايا لـ<القاعدة>..
وشهدت الساحة اللبنانية نشاطات لحركات وخلايا تابعة لـ<القاعدة> سرعان ما جرى إلقاء القبض عليها من قبل السلطات الأمنية، ثم كانت ظاهرة <فتح الإسلام> عام 2007 والتي تمركزت في مخيم نهر البارد، وانتهت مع تدمير المخيم وإلقاء القبض على عدد من عناصرها، فيما فر مسؤولها شاكر العبسي وعدد من المسؤولين الى جهات مجهولة. وكان ظهور تنظيم <فتح الإسلام> مدار لغط وتساؤلات في الأروقة الأمنية حول ما اذا كان هذا التنظيم تابعاً لـ<القاعدة>، أو انه صنيع الاستخبارات السورية.
ويؤكد الزميل أحمد الايوبي رئيس <المركز اللبناني للإعلام> وهو كاتب متخصص في الشؤون الإسلامية، دخول مجموعات <القاعدة> الى الساحة اللبنانية في تلك الفترة من نافذة المواقع الفلسطينية الواقعة على الحدود اللبنانية - السورية، وتحديداً معسكر <قوسايا> البقاعي الذي تسيطر عليه حركة <فتح - الانتفاضة>. وحسب المعلومات، فإن ترتيبات ومفاوضات مع <القاعدة> أفضت الى اتفاق يمنح هذا التنظيم مواقع خاصة ومعسكراً يخضع لسيطرتها...
ويرى الايوبي ان هناك محاذير كبرى من دخول فكر <القاعدة> الى لبنان ليتحول عملاً تنظيمياً، لأن <طبيعة البلد وواقعه السياسي والديموغرافي لا يتحملان أحادية الطروحات التي يحملها هذا التنظيم... وان تورط مجموعات سنية في اي اعمال أمنية يعني تلقائياً تحقيق رغبة النظام السوري في وصم الحالة الإسلامية بالإرهاب، وتسويق نفسه على انه الحل الوحيد لمواجهة التطرف، وان المسلمين السنّة لا يصلحون إطلاقاً للحكم، وان على أميركا والغرب العودة اليه لاستعادة السيطرة على الموقف في لبنان والمنطقة.
فيما يعتبر الزميل قاسم قصير ان تنظيم <القاعدة> ليس <حزباً مركزياً او تنظيماً تقليدياً ذا هيكلية محددة، بل ان اية مجموعة إسلامية يمكن ان تتبنى أفكاره وتنفذ تعليماته من دون وجود ارتباط مباشر، كما ان التواصل عبر <الانترنت> ووسائل الإعلام أصبح أحد أبرز الوسائل الحديثة لإيجاد مثل هذه العلاقة>.