تفاصيل الخبر

التحركات الشعبية عام ٢٠١٩ تغرق العالم في بحر الديون!

28/12/2018
التحركات الشعبية عام ٢٠١٩  تغرق العالم في بحر الديون!

التحركات الشعبية عام ٢٠١٩ تغرق العالم في بحر الديون!

بقلم خالد عوض

ليس صدفة أن يكون إقفال الحكومة الفيديرالية في الولايات المتحدة منذ ايام متزامنا مع إستمرار المظاهرات السبتية للسترات الصفراء في باريس، والتي أصبحت توحي جماهير في كل العالم، ومع القلق من خروج بريطانيا من أوروبا في ٣٠ آذار (مارس) المقبل بلا إتفاق. وليس صدفة أن يحصل كل ذلك في وقت تقرر فيه الولايات المتحدة الانسحاب الكامل من سوريا بشكل احادي وتقوم بتخفيف وجودها في أفغانستان إلى النصف في خضم المفاوضات التي بدأت في العاصمة الإماراتية أبو ظبي بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان. هناك عامل واحد يفسر كل هذه الأحداث: حجم الدين العام وصل في معظم دول الغرب إلى مستويات قياسية أصبحت تؤثر بشكل واضح على كل السياسات الداخلية والخارجية للدول التي من المفترض أنها سيدة قراراتها.

العالم يغرق في الديون... بسرعة!

منذ أيام صدر تقرير فرنسي عن حجم الدين العام الذي بلغ مع نهاية أيلول (سبتمبر) المنصرم ما يساوي حوالى ٢٥٠٠ مليار دولار أي ما يناهز ٩٩ بالمئة من الناتج المحلي لفرنسا. الموضوع نفسه في ما يخص بريطانيا التي سيتجاوز الدين العام فيها مع نهاية ٢٠١٨ الـ٢٧٠٠ مليار دولار يعني أيضا حوالى كل الناتج المحلي. ومع أول أيام ٢٠١٩ سيسجل عداد الدين الأميركي رقما قياسيا جديدا وهو حوالى ٢٢ ألف مليار دولار أي ما يقارب أيضا ١٠٠ بالمئة من الناتج المحلي، وهذا يفسر إلى حد كبير حفلة انسحابات <ترامب> من مستنقعات أفغانستان وسوريا. اليابان تنفرد بالرقم القياسي للدين العام حيث يشكل دينها العام ما يقارب ١٢ الف مليار دولار وهذا أكثر من ضعف الناتج المحلي بل بنسبة 24 بالمئة منه. وحدث بلا حرج عن ديون اليونان وإيطاليا والبرتغال التي يتجاوز الدين العام فيها ناتجها المحلي بأكثر من ٢٥ بالمئة. وحدها ألمانيا من خارج سرب نسبة الديون المرتفعة لأنها التزمت بالمعايير الأوروبية للدين المنصوصة في إتفاقية <ماستريخت> عام ١٩٩٢ والتي تلزم دول اليورو بألا تتجاوز نسبة الدين العام فيها ٦٠ بالمئة من الناتج المحلي.

وبحسب <معهد الإقتصاد الدولي> في واشنطن وصل مجموع ديون العالم أي الحكومات والشركات والأفراد الى ٢٤٧ ألف مليار دولار هذا العام وهو ما يساوي أكثر من ثلاثة أضعاف كل اقتصاد الكون أي ٣٠٠ بالمئة من الناتج المحلي العالمي، ووصل مجموع دين الحكومات من أصل كل الديون إلى ٧٧ ألف مليار دولار أي تقريبا ١٠٠ بالمئة من إقتصاد العالم، فيما تشير الإحصاءات أن الدين العالمي زاد ٤٠ بالمئة منذ الأزمة العالمية عام ٢٠٠٨. هذه الأرقام تشير إلى أن الدين في كل المجالات ينمو بوتيرة أسرع بكثير من الإقتصاد في معظم دول العالم، وأن ٢٠١٩ ستشهد لأول مرة في التاريخ الحديث أن مجموع ما تستدينه دول العالم هو أكثر من حجم اقتصادها السنوي.

الشعب يريد... مزيدا من الدين؟!

الحركات الشعبية المطالبة بعطاءات حكومية في المجالات الإجتماعية والصحية تاخذ أشكالاً مختلفة في دول العالم. السترات الصفراء في فرنسا أصبحت مصدر وحي لعدة دول أوروبية وحتى عربية بعد أن وصل صداها بقوة إلى لبنان وتونس والحبل على الجرار. المطالب متنوعة ولكنها تدور حول مسألة واحدة رئيسة وهي تحسين القدرة الشرائية للناس أي إما زيادة مداخيلهم أو تخفيف الأعباء المالية اليومية عليهم أو الإثنان معا، هذا يعني بشكل مباشر زيادة الإنفاق في موازنات الدول التي تعاني أساسا من العجز لأن الواردات أقل من النفقات في معظمها وبالتالي هذا يؤدي إلى مزيد من الدين، وما يستتبع ذلك هو كلفة متنامية لخدمة الدين التي تزيد بدورها العجز السنوي. المحصلة لكل هذه الحلقة المفرغة هي ضغط مستمر على عملة البلد وطريق سريع إلى مزيد من شراء السندات الحكومية من قبل البنوك المركزية وهو شكل من أشكال طبع العملة... في النتيجة تتراجع القيمة الحقيقية للعملة أي تضعف من جديد القدرة الشرائية للناس وهكذا دواليك.

الإنفاق العسكري أهم من تحسين حياة الناس!

أحد أهم البنود في موازنات الدول الغربية هو الإنفاق العسكري. هذا البند ينمو أسرع من كل البنود الأخرى في موازنات دول العالم وهو سيبلغ مستوى قياسيا عام ٢٠١٩ تقديره حوالى ١٨٠٠ مليار دولار. لو تم تخصيص ١٠ بالمئة من ذلك أي ١٨٠ مليار دولار للتقديمات الإجتماعية وتحفيز القطاع الخاص لخلق فرص عمل مستدامة وخفف البطالة ولما كانت هناك حاجة لسترات صفراء أو حمراء. ومن غير المنطقي مثلا أن يكون معدل حجم الإنفاق العسكري في العالم العربي يناهز ٦ بالمئة من الإقتصادات العربية وهو ضعف المعدل العالمي الذي يصل إلى ٣ بالمئة من الناتج المحلي العالمي. وبمقارنة بسيطة يتبين أن الدول التي عرفت كيف تجعل مجموع إنفاقها العسكري أقل من 1.5 بالمئة من ناتجها المحلي هي الدول التي فيها أكبر نسبة من الرضا الشعبي والإجتماعي وأقل نسبة بطالة ومن بينها النمسا وسويسرا والسويد والدانمارك وألمانيا واليابان. بينما نسبة الإنفاق العسكري في لبنان هي حوالى ٥ بالمئة والأردن أيضا ٥ بالمئة والعراق ٤ بالمئة. ليست صدفة أن يكون هناك تململ إجتماعي كبير وبطالة متزايدة في هذه الدول وفي كل البلدان التي تنفق على جيشها وسلاحها أكثر مما تنفق على الإستثمار في تحسين حياة الناس. المشكلة أن الإنفاق العسكري يزيد عندما تريد الدول لجم الأمن بسبب الثورات الإجتماعية التي تأخذ دائما طابعا عنفيا، مثلا إضطر الرئيس الفرنسي <إيمانويل ماكرون> منذ اسبوعين إلى زيادة مرتبات الشرطة الفرنسية ١٢٠ يورو لكل فرد بعد الضرائب حتى <يشجعهم> على الاستمرار في التصدي بحزم للمظاهرات <الصفراء> التي اجتاحت فرنسا!

على حكومات العالم وخاصة العربية أن تختار بين الأمن بالقوة والكلفة العسكرية أو الإستقرار الذي يأتي بالرخاء الإقتصادي، وإذا استمرت بالخيار الأول فانها ستجر نفسها عام ٢٠١٩ إلى مزيد من الدين أي إلى المزيد من الغضب الإجتماعي.