تفاصيل الخبر

الصـحـافـي ”مايكل سبيـكـتـر“ يـتـغـــزّل بـعـاصـمــــة لـبــــنـان  

20/05/2016
الصـحـافـي ”مايكل سبيـكـتـر“  يـتـغـــزّل بـعـاصـمــــة لـبــــنـان   

الصـحـافـي ”مايكل سبيـكـتـر“ يـتـغـــزّل بـعـاصـمــــة لـبــــنـان  

huda-baroudi---2 يوم وصلت إلى بيروت، كانت هدى بارودي في استقبالي بالنزل الذي اقمت  فيه، وهي سيدة ذات ملامح بشوشة، عرضت ان نقوم بجولة لتعريفي بالمكان. كان يوم احد قاتماً وغائماً بعض الشيء، وكانت طائرتي قد تأخرت عن موعدها، لكن عيني تلك السيدة كانتا تلمعان حماساً، وقد أبدت حرصاً لمرافقتي إلى <قصر بشارة الخوري>... ذلك القصر الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، والذي قبل التخلي عنه وتعرضه للنهب اثناء الحرب الأهلية اللبنانية (1975)، كان يُعتبر أحد افخم مقرات بيروت.

بعد ان جلست في المقعد الأمامي الجانبي في سيارتها الرباعية الدفع، انطلقت سيدة بارودي، مصممة المنسوجات والمفروشات البارعة، بسرعة كبيرة نحو تقاطع طرق... وقد كانت طرقات بيروت ضيقة، مليئة بالحفر، لا ينقصها شيء سوى الاستقامة! في هذه الأثناء، كانت سيارة أخرى تقترب بسرعة في الاتجاه المعاكس، في حين بدت سيدة بارودي غير معنية بالأمر! وفي اللحظة الأخيرة، تنحى السائق ليفسح لنا المجال للمرور... لم استطع النطق بكلمة لشدة توتري، فيما كانت سيدة بارودي تبتسم وتهز كتفيها قائلة: <لقد نظرت في عينيه، ولذلك كنت اعلم أنه كان سيفسح لنا الطريق>... لم اشعر بالارتياح نوعاً ما لما قالته، وقد استأنفت قائلة: <هكذا هو حال القيادة في بيروت... اشارات السير جميعها تراها في اعين السائقين!>.

كانت بيروت تحوي تناقضاً مثيراً للدهشة.. فعلاً إنها تتميّز بأمر فريد من نوعه... فهي من ناحية تنبض بعادات وتقاليد الشرق الأوسط، ومن ناحية أخرى تضم معالم تعود بحيثياتها إلى عالم الغرب، لكن بيروت لم تكن محصورة بأي من العالمين... ولا شيء بدا ثابتاً فيها... كان كل شيء في حالة تحوّل وتغيّر دائمين!... أجيال مرت عبر حدودها، منها من كان في بحث عن اجواء التسلية والمرح، ومنها من جاء بدافع اليأس والقنوط، وفي كلتي الحالتين، ما زالت بيروت وجهة مقصودة... وهي قد تكون المدينة الوحيدة من بين المدن الكبرى التي تجمع ما بين عالم اللهو والعبث والمجون وبين حالة من الخوف و<الإرهاب> الأمني! وقد وصفتها الكاتبة البريطانية <جان موريس> في رسالة إلى ما سمتها: <The Impossible City> <المدينة المستحيلة> بأنها <آخر أماكن الشرق الأوسط الممتعة!>.

كُتبت تلك المقالة عام 1956 بعد أن استضافت بيروت <بطولة العالم للتزلج المائي> التي أُقيمت في خليج الـ«سان جورج>، ولئن كانت مقولة <بيروت هي باريس الشرق> نوعاً من <الكليشيه> إلا أنها كانت في جزء منها صحيحة. فمنذ انهاء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1943، وبخاصة في الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية، والحرب الأهلية الكارثية التي مزّقت لبنان في السبعينات، لمعت بيروت كمدينة عالمية وكونها الأكثر انفتاحاً ما بين المدن العربية، كما أنها شكّلت محطّة استقبال لأغنياء أوروبا، والعائلات الملكية، والعديد من المشاهير كمثل الممثل البريطاني <ريتشارد برتون> والممثلة الأميركية <إليزابيت تايلور>. وقد غصت مقاهي بيروت في تلك الفترة بمختلف الرواد من المثقفين الى الملتزمين إلى المتعاطين بأمور السياسة وغيرها... حتى أنّ سيء السمعة <كيم فيلبي> <العميل> المخابراتي الذي أضحى <الخائن> الأكثر شهرة في القرن العشرين، شعر بالارتياح في أحضان تلك المدينة، وقد امضى عدة امسيات في <بار> أوتيل الـ<سان جورج>.

تلك المدينة (بيروت) كانت <ميناء حراً> بكل ما في الكلمة من معنى، وقد جمعت الحانات والملاهي الليلية والكنائس والجوامع!.

... هذا وتخرق بيروت اليوم السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية... أنها عاصمة بلد لا رئيس جمهورية يرئسه منذ ما يقارب السنتين... حزب الله المتمركز في ضواحي بيروت الشرقية... هو التنظيم السياسي الأكثر نفوذاً وقوة في لبنان دون منازع. واليوم وفد إلى لبنان أكثر من مليون لاجئ سوري هرباً من جحيم المذابح في بلادهم على بعد أميال قليلة.. الأمر الذي يجعل من هذا التوتر المستمر سمة مدينة عصية على الفهم ونقطة جذب للزيارة في الوقت نفسه!

مع كريستين طعمة

<في بيروت هشاشة هي شكل من أشكال الهوية> تقول كريستين طعمة، القيّمة على <الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية - أشكال ألوان> التي أُسست في التسعينات كمساحة حرة للفنانين للدراسة والإبداع... وتستكمل: <لا شيء فاعلاً هنا، من الشيوعية إلى الاشتراكية إلى الأسواق الحرة الليبرالية، إلى إيجاد طرق لاستيعاب محبي موسيقى الجاز، أو المصممين، أو الفنانين أو جماعات مواقع التواصل الاجتماعي...!>. تلك الكلمات التي ترددت على مسامعي من معظم الناس الذين قابلتهم، تعكس ولا شك صورة قاتمة وكئيبة، لكن طعمة لم تكن شاكية بقدر ما كانت شارحة الوضع العام بالقول: <هذا الأمر شائع... استمع إلى خلفية ما يقوله الناس وسوف ترى اليأس في كل جملة يقولونها، ولكنك لا تسمعه بشكل مباشر>... سألتها عما إذا فكرت يوماً بالرحيل من البلد حيث أمضت الجزء الأكبر من حياتها، فأجابت بـ<نعم> لتستتبعها بعد ذلك بـ<طبعاً لا>، و<لن أفعل ذلك أبداً، فهذا النوع من الاضطراب والتقلب والهشاشة...>، تتوقف عن الكلام لتسرح بتفكيرها للحظات ثم تعود لتقول: <أعرف أنه من السذاجة القول إن الحياة في ظروف الحرب تجعل من الناس مبدعين... لكن بيروت مدينة خلاقة وهذا ما يبقيها على قيد الحياة، والحياة تقود إلى الإبداع!>.

 

وبارودي وهبري

شغف بيروت الكبير في البحث عن الهوية ينعكس في معروضات كل متجر ومعرض ومتحف. في معرض <بقجة Bokja>، السيدة بارودي وشريكتها ماريا هبري صنعتا أثاثاً عصرياً من المنسوجات المطرزة والمستوحاة من عشرات المصادر المحلية والإقليمية... غير أنه في معرض <صفير زملر> رأيت عروضات لمروان رشماوي اتت بطريقة مؤثرة للغاية وقد استغرقته سنوات لتحضيرها، وقد تألفت من 59 درعاً مزخرفاً ومطرزاً من قبل عاملين في <بقجة Bokja>، نُسقت جميعها بطريقة تعرض لخريطة شوارع بيروت وأحيائها بكامل تفاصيلها.

... لقد مرّ ما يقارب العشرين عاماً على زيارتي الأخيرة لبيروت. ومنذ ذلك الوقت، دارت أعمال عدائية بلا هوادة ولا رحمة ما بين عامي 1975 - 1990 وجعلت اسم المدينة مرادفاً لـ<منطقة نزاع>. أكثر من مئة ألف شخص قتلوا، وبأعداد أكبر هُجروا من منازلهم، فيما البنى التحتية، شبكات الهاتف، المياه، الطرقات، ومعظم أركان الاقتصاد كانت قد شُلت.

 

ظهور الرئيس الشهيد رفيق الحريري

 

في التسعينات، وضعت الحرب وسياسة الكراهية أوزارها، أقله لفترة، فجاءت الظروف في ذلك الحين سانحة لظهور رفيق الحريري، رجل الأعمال الجامح الذي كان قد انتقل إلى المملكة العربية السعودية في سن الواحد والعشرين حيث عمل في مجال التعهدات السعودية محرزاً تقدّماً ملحوظاً لينشئ سريعاً شركته الخاصة وليصبح المقاول الشخصي للملك فهد، بعد ذلك، عاد إلى لبنان عام 1992 ليصبح رئيساً للوزراء.. وكان قد جمع ثروة تُقدر <بالبليارات>.

أراد رفيق الحريري إعادة بناء وسط بيروت المحطم الذي يمثّل مركز بيروت الحضاري، وهو اتّسم بطبعه المسالم والاجتماعي، وقد سعى للنهوض بالبلد ليستعيد وهجه البراق، كما أنّه لم يكن ميالاً للنزاعات الطائفية، بل إنه صبّ جلّ اهتمامه لإعادة إحياء المدينة التي لطالما جذبت الأنظار إليها لكونها الأكثر جاذبية في الشرق الأوسط.

اهتمّ الحريري، الذي قُتل بانفجار شاحنة مفخخة عام 2005، باليخوت والطائرات، وكذلك المشاريع العقارية الضخمة التي كانت الأحب إليه، وقد أنشأ شركة <سوليدير> لإعادة بناء وسط بيروت، و<سوليدير> تعود بتسميتها إلى الحروف الأولى من التسمية الفرنسية: <Société Libanaise pour le Développement et la Reconstruction du district central de Beyrouth> - <الشركة اللبنانيــــــــة للتنميــــــــة وإعـــــادة إعمار وسط مدينة بيروت>. أُطيح بالمصادرين غير الشرعيين في وســــط بـــــيروت، وكانت المدينــــــة مهدومــــــة بالأساس، وتمّ استصلاح أكثر من نصف مليون متر مربع من الأراضي البحرية.

كان هدف <سوليدير> الأساسي يتركز على إعادة إحياء ذكرى الأيام التي سبقت حرب عام 1975، عندما كانت بيروت تعددية ومزدهرة وتخفق بقوة، فقامت بإعادة إعمار الواجهات المدججة بالرصاص وتلك التي صمدت في مواجهة اقتحام مختلف المليشيات، لكن عملية التنمية تلك أدت في الوقت نفسه إلى نسف قرون من تاريخ بيروت بعيداً ومحو تراثها المعماري الأكثر غنى، فقد تحّول وسط بيروت إلى مركز تجاري... وكان من المفترض أن تحافظ شركة <سوليدير> على طابع وسط بيروت التقليدي، لكن ذلك لم يحصل، فأسواق وسط بيروت تكتظ اليوم بالموجودات الثمينة وارض الرخام، وهي المكان الأنسب حيث بالإمكان إيجاد مرطب أو حقيبة يد بقيمة عشرة الاف دولار أو ساعة يد من ماركة <باتيك فيليب>، وتلك الأسواق لديها من القواسم المشتركة مع <المولات> في الولايات المتحدة الأميركية أكثر بكثير مما لديها مشترك مع طابع الأسواق الشرقية التي كانت تهيمن على الأسواق العربية منذ آلاف السنين.

 

specter-michael----1شهادة ساري مقدسي

 

والسؤال الأبرز يبقى هنا: <ليس كيف أن مجموعة من مطاعم الـ«بيتزا هات> و<سيفوي> و<ماكدونالدز> و<بودي شوب> التي تشكّل سوياً <السوق الحديثة> ستتمكن من استعادة نمط غير نمط مراكز التسوق>، يقول ساري مقدسي استاذ اللغة الانكليزية والأدب المقارن في جامعة كاليفورنيا والمتحدّر من أصول لبنانية، والذي غالباً ما تدور كتاباته حول التطور ونزعة التحفظ في العالم العربي، <ليست تلك الفكرة الأساسية، ولا الأسواق التقليدية هي بالضرورة أكثر اصالة ونفعاً من الأسواق الحديثة، لكن المسألة تكمن في أن شيئاً غريباً يخرق الحس التاريخي لدينا، وذلك عندما نقوم بدمج مراكز التسوق الحديثة بالأسواق التقليدية>.

... وقد ذهبت لزيارة مروة ارسانيوس ذات السبعة والثلاثين عاماً، استاذة الفن في الجامعة الأميركية، التي شاركت في تأسيس منظمة <98 Weeks> والتي انتشرت أعمالها الفنية المبهرة في جميع أنحاء العالم.  وقد أرادت أرسانيوس إنشاء مكان حيث يمكن للفنانين التلاقي والتعاون، وبدأت بطرح أسئلة تدور في خلد معظمهم: <كيف يمكن أن تبني مجتمعاً في وقت اندثرت فيه القيادات التقليدية العظيمة؟> و<كيف يمكن أن تؤسس لشيء يدوم على أرضية دائمة التغير؟.. نمر بأوقات غريبة حقاً... لا أحد يعلم ماذا يجري هنا، لكن الجميع يعلم أن شيئاً ما سيحدث>. مثل الكثيرين من زملائها، أرسانيوس تبقى في بيروت التي بالرغم من هشاشة الوضع فيها، غير أنها ما زالت توفرّ الإمكانات والفرص. وكمثل أرسانيوس، غالبية النخبة في المجتمع، وبخاصة أغنياء الشتات، يستطيعون السفر في أي وقت تدعو الحاجة لذلك، لكن مجدداً، فإن أولئك وأرسانيوس يرون بيروت مدينة مميزة، وبأنها بالرغم من الظروف المحيطة بها فهي ما زالت مدينة مبهجة ونابضة بالحياة. ورغم أن زهوة <الربيع العربي> تلاشت وحلّت مكانها بالنسبة للكثيرين مشاعر الخوف والارتباك، فإنّ ارسانوس ما زالت تأمل وتقول: <عندما بدأنا مشوارنا، كانت الحياة السياسية مجمدّة، ووضع الصحافة سيئاً، والجامعات مشلولة... فشكّل عالم الفن ملجأ لنا، وقد أمدّنا بالقوة>.

... في كل الأحوال، سرت نحو الفندق الذي أُقيم فيه، وحيداً وصامتاً، مثلما كنت أفعل كل ليلة منذ مجيئي إلى بيروت. ورغم أنّ نسبة الجريمة متدنية في بيروت لكنني ما كنت لأقدم على تلك الزيارة لو كنت اتبع الأقوال الشائعة في الولايات المتحدة حول الخطر الأمني في بيروت حيث أن الحكومة اللبنانية لا يمكنها أن تحمي المواطن الأميركي من أي خطر مفاجئ قد يطرأ، وحيث أن التظاهرات الشعبية يمكن أن تندلع دون سابق إنذار وقد تتحوّل إلى أعمال عنف، وطبعاً هذا أمر ينطبق أيضاً في عدد من المدن الأميركية، ولكن على ضوء تلك التحذيرات، على الأميركي المقيم أو السائح في لبنان توخي الحذر واتخاذ خطوات احترازية منها الابتعاد عن دائرة الأضواء والبقاء في الظل، توفير الأمن الذاتي، واعتماد طرقات وأوقات مختلفة للتنقلات.

لم أطبّق أياً من تلك الخطوات، ولم يكن من داعٍ لتطبيق أي منها، إذ توجد أماكن في بيروت غير آمنة على وجه واضح، وغالباً فإن السائحين لا يتجولون في مناطق يسيطر عليها حزب الله. فالمدينة التي زرتها كانت سلمية وهادئة... وإن الضوضاء الوحيدة التي تُسمع كانت في الغالب تتأتى من الملاهي الليلية الناشطة.

ولكن تلك الليلة، وبينما كنت أقترب من الفندق الذي أُقيم فيه، سمعت فجأة اطلاقاً كثيفاً للنار من رشاشات ثقيلة وصفارات قذائف الهاون، وكنت على وشك أن أختبئ تحت أقرب سيارة إلي، وقد رأيت عدداً من الرجال الكبار في السن يقفون في الشارع المجاور للمستودع الضخم الذي يبدو أنه يتعرض للهجوم، وكانوا جميعاً ينظرون إلي ويضحكون، فصرخت في الظلمة بعدما أدركت أن أياً من قذائف الهاون لم تصب شيئاً: <ماذا يجري هنا بحق الله؟>، عندئذٍ توجّه نحوي رجل عجوز كان يبيع زيتاً للمحركات على قارعة الطريق، لف ذراعه حول كتفي وقال لي مبتسماً: <إنها مجرد تمثيلية... إنهم يصوبون نحو المستودع... المسدسات ليست حقيقيةً!>.