تفاصيل الخبر

الـصحـــافــــة فــي الـعنـايــــة الـفـائـقـــــة  

13/08/2015
الـصحـــافــــة فــي الـعنـايــــة الـفـائـقـــــة   

الـصحـــافــــة فــي الـعنـايــــة الـفـائـقـــــة  

بقلم سعيد غريب

SAM_5208الكون قرية صغيرة منذ أكثر من عقدين والفضل للعولمة وتطور وسائل التواصل الاجتماعي.

صَغُر الكون وصَغُرت الكلمة  فيه، وأصبح القراء قلة قليلة، ودخلت الصحافة العالمية في المأزق الكبير وحافة الإفلاس.

وفي لبنان، القصة مختلفة وأكبر من الوطن الصغير، هي ليست مقتصرة على القراء بل على الأقلام نفسها والمستوى المتهالك، وبات المصححون في حاجة الى مصححين و<الأساتذة> الى أساتذة والمذيعين الى مدرّبين منقرضين..

وفي هذا الجو القاتم، يتعرض موقع وطني آخر وحصن نقابي للاهتزاز والتناتش على يد أهله أنفسهم، فنقابة المحررين التي غرفت من عميدها الراحل ملحم كرم على مدى أكثر من أربعين عاماً لم تستقر بعد، ولم تخرج من أثقال الماضي وتبعاته، ويكاد الصراع عليها يفرمها فرماً بالتسييس والتطييف والتبعية والاستزلام والأحقاد و<الاستقلالية>..

ولولا أقلام بقيت وندعو لها بطول العمر وحبر طلال سلمان ووليد عوض ورفيق خوري وسمير عطا الله وغسان شربل وغيرهم بقوا قلة، لقلنا ان غسان تويني وميشال أبو جودة وعبد الله العلايلي وأنسي الحاج وغيرهم كثيرون ذهبوا وأخذوا الصحافة ولبنان معهم...

في الجوهر، تحوّلت الصحافة اللبنانية من قائلة بصوت مرتفع ما كان يقوله الناس بصوت منخفض الى قائلة بصوت منخفض ما أصبح يقوله الناس بصوت مرتفع.

في المضمون، لم يعد ثمة شيء جديد تقوله مع صياح الديك، فوسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية على عشوائيتها تلعب بأعصاب الناس على مدى الثواني.

وفي الشكل، باتت الكلمة تخجل من نفسها ولم تعد تعرف ذاتها. والأقلام أصبحت سيّالة واللغة البيضاء المشوّهة هي المنقذة والسيدة المطلقة، وإذا اعتمدت الفصحى فلا حول ولا قوة.

الحقيقة المرة، ان لبنان استطاع الخلاص من متاعب الحرية الصحافية، عندما قرر المغامرة بالخلاص من حسناتها. واتبع بعضهم أسلوب المتنبي في مديحه لسيف الدولة وهجائه لكافور الأخشيدي.

إن اللبننة تفترض الحرية، والشجاعة تفترض الحرية، والذكاء يفترض الحرية، والحقيقة أننا نحتاج الى الاولى والثانية فيما النقطة الثالثة جُيّرت الى أمكنة أخرى وأصبح الإعلام اللبناني عموماً مؤسسات تجارية، وتحوّل الى استعراض فيه كل أنواع الإثارة الجسدية والعنف الكلامي والمنافسة غير المنضبطة المجبولة بالحقد والكراهية، وثقافة الإلغاء، وتحوّل بعض صحافييه الى نجوم تلفزيونيين...

كان مؤسس صحيفـــة <لوموند> يوصي رفاقه بالابتعاد عن الحكّام والسفراء، فيما حكّامنا وسفراؤنا لا يهنأ لهم عيش من دون إعلامنا المعاصر وإعلامييه <المثقفين>.

إنها حقاً مأساة، مأساة بلد كانت الصحافة فيه مرآة المنطقة العربية ومرآة الشرق الاوسط عموماً.

ولعلّ ما كتبه الصحافي أنطوان شدياق عضو مجلس نقابة المحررين خير تعبير عما يعانيه الجسم الصحافي وتعانيه الكلمة المكتوبة التي كانت أغلى صناعة صنعها لبنان - قبل أن ينهشها الانحطاط الضارب أفقياً كل ما يراه أمامه - وتصبح مع الكلمة المسموعة أرخص صناعة يصنعها، إذ تحدّث عن تراجع المهنة بشكل مخيف وينذر بالإفلاس الفكري كما هو حال السياسة اليوم.

وقال: <إن البلاد تعمها الفوضى وفقدان الثقة وانتشار الفساد والسرقات والغلاء وصولاً الى النفايات والصفقات، حتى أصبح المواطن لاجئاً واللاجئ مواطناً بفضل القوانين العشوائية>.

أضاف: نعترف بفشلنا على المستوى النقابي والمهني للمحافظة على ما تبقى من حريات صحافية وديموقراطية وأخلاق وطنية...

إن ثقافة الفساد والإفساد عطلت كل شيء ودمرت حياتنا الاجتماعية، عطلت الحريات والأقلام والفكر ودمرت القناعة والبساطة والطيبة، عطلت التحصيل الأدبي والعلوم الإنسانية والفنون الجميلة، ودمرت تاريخنا وتراثنا وثقافتنا وتعاليمنا وحِكَم أجدادنا.

إن ثقافة الفساد والإفساد جعلت من أولادنا تائهين في عالم غريب أكبر منهم ومنا، وجعلتنا ننسى الحياة العادية الغنية بالطبيعة، طبيعة الأرض والفضاء والبحر، طبيعة المأكل والمشرب، طبيعة البيوت التي تصنع رجالاً، وطبيعة الصحافة التي كانت تصنع أوطاناً...