في دارته في برلين، يجلس السفير اللبناني في المانيا مصطفى اديب الذي كان لأيام خلت "دولة الرئيس المكلف" تشكيل حكومة جديدة، ويستعرض المراحل التي قطعها على مدى 27 يوماً في محاولة يائسة لولادة حكومة برئاسته بعدما نال 90 صوتاً من النواب الذين رشحوه لرئاسة الحكومة. يستعيد اديب ما حصل معه خلال هذه الايام مستذكراً عبارة قالها له احد الاشخاص في مطار رفيق الحريري الدولي الذي التقاه قبيل عودته الى برلين: "هالبلد مش لامثالك... انت رجل صادق وما في مطرح للصدق في لبنان".
من حق اديب ان يستعيد تلك الاوقات وهو الذي اتى الى لبنان بنية تشكيل حكومة اختصاصيين غير سياسيين يشكلون مع بعضهم البعض فريق عمل متكاملاً حدد مهامه منذ اللحظة الاولى لأنه يعرف ماذا كان ينتظره: بلد على شفير الانهيار والافلاس وربما الجوع يحتاج الى جراحة عاجلة لانقاذ ما تبقى. على اساس هذه المهمة الانقاذية قبل السفير في المانيا ان يترك سفارة اسس فيها حضوراً ديبلوماسياً رائداً وأتى متسلحاً بارادة نيابية كبيرة وبثقة نادي رؤساء الحكومة السابقين، وبمحبة واضحة من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي قال عنه: "رجل آدمي وواضح ونظيف".
قد يكون السفير اديب يدرك اسرار السياسيين اللبنانيين وعاداتهم وهو الذي تعاطى معهم عندما كان مديراً لمكتب الرئيس نجيب ميقاتي في حكومته الثانية، لكنه لم يدرك للحظة ان طبائع الناس تتغير ومواقفهم تتبدل والتزاماتهم تتأرجح من هنا الى هناك لتصب في المكان الذي يحقق مصلحة السياسي وليس مصلحة وطنه. لذلك استعان على قضاء حوائجه بالكتمان على امل ان يصل الى النتيجة المبتغاة وهي تشكيل الحكومة. لم يرو ما حصل معه خلال لقاءات بعبدا او مع "الثنائي الشيعي" او غيرهم وان كان مررّ بعض المواقف للقريبين منه وهم قلة يتقدمهم الرئيس ميقاتي الذي كان يستضيفه في منزله من حين الى آخر، خصوصاً انه اتى وحده من برلين من دون زوجته او الاولاد....
الخلوة الأخيرة مع الخليلين
لكن ثمة محطات مهمة في مسيرة التشكيل الذي لم يكتمل لعل ابرزها اللقاء ما قبل الاعتذار الذي عقده مع الثنائي علي حسن خليل (حركة امل) وحسين خليل (حزب الله) المعروفين بــ "الخليلين" وكان هذا اللقاء الاخير بين الرئيس المكلف والثنائي. الرواية تقول ان اللقاء كان عاصفاً من جانب ممثلي "الثنائي" في حين حافظ اديب على هدوئه الملفت وعلى عباراته المنتقاة بعناية ودراية خصوصاً حيال التعابير غير المألوفة التي سمعها من الخليلين والتي كان يرد عليها بعبارة تكررت اكثر من مرة "لا اريد الصدام مع الطائفة الشيعية او الطوائف الاخرى... تكليفي تشكيل حكومة مهمة جاء بعد توافق الاطراف الرئيسية مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على خارطة طريق طرحها لانقاذ لبنان والتي يفترض ان تكون الاطار العام لمسودة البيان الوزاري للحكومة العتيدة".
ولفت اديب الى ان ماكرون، وإن كان لم يتطرق الى تطبيق المداورة في توزيع الحقائب الوزارية على الطوائف اللبنانية ولا الى حصرية وزارات معينة لتكون من حصة هذا الفريق او ذاك ركز على " حكومة مهمة" وانها يجب ان تكون محصنة بالوحدة الوطنية، واكد ان ماكرون سأل ممثل "حزب الله" رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد عن رأيه في مضامين المبادرة، وكان جوابه بأنه يوافق على 90 في المئة منها. ولما سئل عن العشرة في المئة التي لا يوافق عليها، اجاب رعد بأنه لا يوافق على وضع قانون انتخاب جديد ولا على اجراء انتخابات نيابية مبكرة مع ان انجازها يتعارض مع الواقعية السياسية في حال رفض البرلمان حل نفسه.
واستذكر الحاضرون ان ماكرون لم يعترض على الملاحظات التي توقف امامها رعد في معرض تبريره عدم موافقته على العشرة في المئة من مبادرته، وقال ان رئيس الجمهورية ميشال عون كان اول من أيد المداورة في توزيع الحقائب من دون ان يأخذ البعض برأيه، وهذا ما كرره في لقاءاته مع اديب.
ماكرون لأديب: تصرف
محطة ثانية يستذكرها اديب وهي في اليوم الذي سبق زيارة الاعتذار الى بعبدا حين كان مع الرئيس عون يتداولان في مسار التشكيل وكان يحمل معه ملفاً اسود اللون ظن الاعلاميون ان فيه تشكيلة الحكومة العتيدة، فيما كان في داخله كتاب الاعتذار. خلال اللقاء تم الاتصال بالرئيس الفرنسي ماكـــرون وتحدث معه الرئيس عـــون حــــول "الصعوبات" وكيفية الخروج منها. قال الرئيس اللبناني لنظيره الفرنسي انه كان اقترح قبل ايام ان تعطى الوزارات السيادية بما فيها وزارة المال لوزراء من الطوائف الصغيرة منعاً لأي اشكال او حساسية، لكن اقتراحه لم يؤخذ به. وقال الرئيس عون لماكرون ان الرئيس المكلف وصل الى مرحلة قد لا يكون فيها قادراً على الاستمرار في مهمته، فطلب ماكرون الكلام مع اديب فاعطى الرئيس عون الهاتف لاديب الذي شرح الوضع للرئيس الفرنسي بتفاصيله واعلمه عن رغبته في الاعتذار. طلب ماكرون من أديب اجراء محاولة اخيرة واذا لم يحصل اي تجاوب من "الثنائي الشيعي" يقدم الاعتذار في اليوم التالي. وعليه نزل اديب من القصر ومعه كتاب الاعتذار والتقى الخليلين ليعود في اليوم التالي ويقدم الاعتذار مع الدعوة الى ان "يحمي الله لبنان واللبنانيين"....
لا يكثر اديب من الحديث عن محطات رافقت تكليفه بتشكيل الحكومة فهو يفضل ان تبقى بعيدة عن التداول. لكن ثمة حقيقة راسخة وهي انه رفض تشكيل حكومة امر واقع ورفض خصوصاً اي "مشكل" مع الطائفة الشيعية التي لم تسهل له مهمته نتيجة مواقف "الثنائي". قد يكون لدى اديب الكثير من الكلام ليقوله، لكنه يؤثر عدم الكلام فالمجالس بالأمانات بالنسبة اليه، لكنه واضح انه لم يندم "على تجربته الحكومية" لاسيما وان الرأي العام تعرف على نمط آخر من الرجال المدعوين الى التعاطي في الشأن العام، رجل آثر الاعتذار عن ترؤس الحكومة عوضاً ان يستمر رئيساً مكلفاً شهوراً عدة كما فعل غيره.
1 - مصطفى أديب عند اعتذاره عن التكليف.