تفاصيل الخبر

الرسامة الفنانة منى باسيلي صحناوي: كان الانكليز يمنعوننا من التحدث باللـغــة العـربيــة وجــذوري الشرقـيــة هـي اليـوم فـي كـل حـرف ولــون!...  

11/05/2018
الرسامة الفنانة منى باسيلي صحناوي: كان الانكليز يمنعوننا من التحدث باللـغــة العـربيــة وجــذوري الشرقـيــة هـي اليـوم فـي كـل حـرف ولــون!...   

الرسامة الفنانة منى باسيلي صحناوي: كان الانكليز يمنعوننا من التحدث باللـغــة العـربيــة وجــذوري الشرقـيــة هـي اليـوم فـي كـل حـرف ولــون!...  

بقلم عبير انطون

3

لوحات وكتب من قلب الجذور اللبنانية العربية المتوسطية الى العالم كله. هذا ما ارادته الفنانة <الشرقية من الاعماق> منى باسيلي صحناوي التي جابت الارض وعادت الى المنبت ومنبع المنمنمات الفارسية والأيقونات البيزنطية. المعارض الفردية والجماعية التي اشتركت بها تندرج تحت عنوان كبير: الحرية والسلام وما بينهما تغريدة العصفور ونغمة العود، ولكل واحد منهما عندها قصة. فبنت لبنان التي عاشت في الاسكندرية حتى المراهقة ودرست في اميركا وعلّمت وعملت في لبنان تريد من فنها رسالة، ومن بعض لوحاتها توثيقا لتاريخ بلد يجمع التناقضات في حلو العيش ومره، في جمال الطبيعة وانسانها وبشاعة الحرب وآلتها، وقد نجحت من خلال ما ابتدعت في لفت انظار العالم حتى احتلت لوحاتها عناوين صحف اجنبية معروفة، بينها مثلا تلك اللوحة التي رسمتها في العام 1982 وتجتمع فيها نساء لبنانيات متشحات بالاسود في مجلس عزاء ما شكل مشهدا اليفا في الكثير من البيوت في الحرب اللبنانية الأليمة.

فما هي آخر اعمال الفنانة المسكونة بهاجس <الشهادة على عصرها> والتقاط اشاراته وتقديم واقعه من خلال لوحات تدعو فيها الناظر الى فك رموزها وتواريخها فيستشف منها احداثا ووجوها وتواريخ ومشاهد واقعية؟ وما الذي تحضره؟ كيف تقرأ الحالة الفنية في لبنان؟ وما الذي يحثها على حمل الريشة والرسم احيانا من قلب المشهد في عين الطبيعة وقلبها كما فعلت في نقلها للوحات من صخرة الروشة الى مشاهد من المتن او مناظر من سهل البقاع حيث <بائع البطيخ النائم> او من الارز واحضانه نزولا الى بلدة دوما الشمالية التي زارتها مؤخرا؟

من آخر معارضها العام الفائت في غاليري عايده شرفان حيث قدمت المعرض بعنوان <جبران> بالتزامن مع كتاب لها حمل العنوان نفسه حيث ارفقت فيه مقولات جبران الراسخة مع لوحات لها بالاكواريل، بدأ الحديث عن الفيلسوف والأديب العالمي وما يمثله بالنسبة لها وتقول:

- أحب جبران جدا... لما كنا صغارا كنا نصطاف في الشمال اذ في كل صيف كنا نأتي من مصر حيث عمل والدي في الاسكندرية وكان قد شيد فيلا في اهدن بحيث نحرص جميعنا على تمضية ثلاثة أشهر فيها وهي مدة العطلة التي كان الانكليز يمنحوننا اياها في المدرسة. وفي تقليد لا بد منه كنا نقوم سنويا برحلة غداء في قلب الطبيعة في الارز ونزور <متحف جبران>، وقد دأبت على قراءة كتبه بالانكليزية، اما اللغة العربية التي كان يمنع علينا في المدرسة التحدث بها فقد اتقنتها من خلال هذه الزيارات تحديدا، ولما تركنا مصر وعدنا الى لبنان كنت في السادسة عشرة من عمري. دخلت الجامعة الاميركية في كلية الفنون الجميلة لسنتين وكنت تلميذة متفوقة لكنني لم اتخرج منها لانه وجب علينا اجتياز الامتحان باللغة العربية ايضا، فطلبت من اهلي الذهاب الى اميركا لاكمل دراستي في< جامعة اريزونا> بعد دورات اكاديمية في المعهد الايطالي للفنون الجميلة، وبعد فترة عدت ودرّست في الجامعة الاميركية في بيروت... اما اصحابي في الاسكندرية من البرازيل الى اليونان الى ايطاليا والمانيا فلا زالوا حتى اليوم يحملون هذه الصفة ونتواصل عبر <الفايسبوك> ونزور بعضنا البعض.

 ونسأل منى:

ــ من يعرض في غاليرهات وصالات عالمية كمثل متحف المطبوعات في مصر والدول العربية وفرنسا والمانيا ومونتي كارلو واميركا وهذا الفضاء العالمي الرحب، ما الذي يعيده الى لبنان للعمل وتأسيس محترف فيه؟

 - لأنه بلدي بكل بساطة. لا اعرف ان اعيش في مكان آخر. في اي بلد في الدنيا تجدون قاديشا وصيدا وصور وجزين وزحلة واهدن وبيت الدين وجبيل؟ لكثرة ما احب هذه المناطق وأجعل اصحابي من الاجانب يزورونها بات بامكاني العمل كدليل سياحي فيها، تقول منى بغمزة من عينيها الزرقاوين.

طاحونة الحرب...!

الى جمال الطبيعة والموقع لا تنكر الفنانة المرهفة ان البلد ذا الـ<الالف جمال> عانى جدا بالمقابل، وأدمته حرب طحنته وسحقت ابناءه حتى بات هذا المتحف الالهي بطبيعته والتاريخي بحضارته ساحة قتال وتناتش، وقد ترجمت الرسامة هي ايضا ذلك باكثر من لوحة تجسّد المراحل العصيبة مذ نشوب الحرب في العام 1975 وحتى يومنا هذا، لا بل يمكن القول انها استشرفتها قبل ذلك بسنوات حتى، يوم رسمت سيدة لبنانية بالغة الاناقة تحمل في يدها كأسا فاخرا ويقف خلفها مقاتل جعلته منى صغيرا وكأن الحرب بدأت تطل برأسها.

 الحرب الاهلية عينها حضرت في معرض اقيم في واشنطن اشتركت فيه باسيلي بلوحة تحت عنوان <الأرامل الشابات>، وقد استضافتها على اثرها الاذاعة الوطنية في واشنطن كي تتحدث عنها، واليوم باتت اللوحة من ضمن مجموعة <بنك عودة>.

عن هذه اللوحة بالذات تتوقف منى وتشرح:

 - هي عبارة عن سترة رجالية تلتف افعى عليها، وخلفها ثلاث نساء يمثلن نساء لبنان، وحقيبة ترمز الى القتل الذي طال عددا كبيرا من الرجال، وكيف فقدت احداهن زوجها وبعد مقتله تتوجه صوب خزانته لتوضب امتعته وكأن بها تقتله مرة أخرى، وقد حملت اللوحة ايضا نوافذ عديدة: من احداها يطل سياسيون ينظرون الى الخارج للدلالة على الاصغاء اليه اكثر ما يهمهم الداخل للأسف، وفي اخرى حصان احمر يجري وفيه رمز للحرب المقبلة، والناس في الاسفل موتى على الارض.

لكن اللوحة لم تخلُ من الامل بالحياة تقول منى، وهي تتجلى من خلال عازف العود الذي رسمته، او المرأة والرجل اللذين يجمعهما الحب على الرغم من كل شيء... هذا الأمل شديد الدلالة عند الفنانة التي تعشق الألوان والفرح وتقول: <الحزن يأتينا من غير ان نناديه اما الفرح فنجلبه نحن>... اليست منى ايضا هي من ابقت باب الامل مفتوحا في عز الحرب اللبنانية فكتبت ورسمت في لوحات ونصوص قصيرة تحت عنوان <سورفايفر> دهشتها وموقفها المتعجب والفخور في الوقت عينه من شجاعة من بقوا على قيد الحياة في لبنان واستمروا بالعيش على الرغم من كل شيء وكأنهم جبابرة يرفضون الرضوخ لراية الموت؟!... ففي عز الحرب كانت لوحاتها عن <المازة> اللبنانية الممدودة، وجلسة القهوة بين الاصدقاء في لوحة <Cinq pour une conversation>.

 

 والثورة ايضا...!

 استشهاد <خيرة اللبنانيين> في قافلة من استشهدوا منذ العام 2005 وحتى يومنا حضروا ايضا في احدى لوحات باسيلي الشهيرة والتي عندها ايضا توقفنا في الطابق العلوي من المحترف عند منطقة الرابية المتنية. تنظر السيدة النحيفة القامة من جديد الى لوحتها وكأنها تستكشفها من جديد وتشرح:

- هذه اللوحة ستكون يوما ما تاريخية لأنها ترمز بما فيها الى تاريخ لبنان الحديث وعبثية ما جرى فيه منذ العام 2005 حتى اليوم... رسمت هذه الـ<تربتيك> ردا مني على تصريح لاحدهم استفزني جدا بحيث اعتبر ان من استشهدوا صفحة وطويت، فلم كل هذا الحديث وهذه <الهيصة لهم>؟!... من الحريري الى وسام الحسن وجبران التويني وبيار الجميل وكل من قضوا في سبيل هذا الوطن، هذه اللوحة تضم كل الوجوه التي قضت في تلك المرحلة من خلال رسوم صغيرة باللون الأحمر تشير الى كل واحد منهم... هذه الوجوه ليست واضحة المعالم انما تأتي من ضمن سياق زمني معروف ويمكن للناظر اليها ان يتعرف الى كل وجه فيهم.

الى جانب هذه اللوحة يأخذنا النظر الى <يافطة> مركونة في الزاوية انما تتقدم على غيرها من لوحات اصطفت خلفها. نسأل منى عن قصتها فتجيب مبتسمة: كنت احملها وانزل للتظاهر في وسط البلد مع الشباب (ايام ثورة الارز) وفي كل مرة كانوا يأخذونها مني ويحملونها عاليا. انجزت منها اكثر من واحدة واحتفظت بهذه لي.

 عن يمين <اليافطة> بعمودها الخشبي، سترة رجالية على علاقة خلفها صورة للوحة رسمتها باسيلي وكانت في العناوين الاولى للكثير من الصحف الفرنسية عام 1982. تشرح منى:

- انها الجاكيت الرجالية المعلقة والتي تشكل نقطة جامعة بين الكثير من سيدات لبنان وامهاته من مختلف الطوائف والمناطق والتي ترمز الى من قتلتهم نيران الحرب اللبنانية. جاءت هذه ضمن ما سميته <يوميات عنتر> متمنية لو ان قصص الحرب التي نعيشها تبقى مثل قصص عنتر التي سمعناها في الماضي، نستذكرها انما نحصرها فيه فلا نعيشها من جديد. اما الصورة في الداخل، فهي تشير الى مجموعة من النساء باللباس الاسود والجالسات في عزاء، وهذه استوحيتها من تجربة شخصية فكنت كلما عدت من باريس التي لجأنا اليها ايام الحرب البس الأسود لتعزية اشخاص واصدقاء فقدوا اعزاء لهم في الحرب المقيتة، وقد عرفت هذه اللوحة شهرة واسعة للمعنى الذي تضمنته.

الجاكيت التي لفتتنا، لفتنا اكثر منها بعد مجسمات لمجموعة من الرجال وكأنهم منشورون على حبل من الغسيل يبرمون ويدورون حول أنفسهم. نسأل منى عن القصد منها، فتجيب قائلة:

-  اقرأوا عنوانها <سياسيون في مهب الريح>، وحتى تجعلهم في دوران دائم وضعت الفنانة قبالتهم مروحة تلفحهم بالهواء... <هم يبرمون ويغيرون فكرهم بحسب الهواء>... وبضحكة عالية تعترف منى: <قدمتها الى احد المعارض في لبنان لتعرض فتم رفضها... السبب؟ الخوف ربما ممن تمثلهم>!.

الحرب والثورات لا تقتصر عند باسيلي على لبنان، ففي لوحاتها ايضا يوغوسلافيا والمقابر الجماعية فيها ، ولها ايضا لوحات عن الرهائن والمخطوفين، وعن حقوق الانسان المهدورة، وعن احداث 11 ايلول/ سبتمبر في اميركا التي <لا يمكن الا ان يطالها عنف وارهاب تنشره هي ايضا في الكثير من الاحيان> وقد اعطتها اسم <وان ترايد>، وهنالك ايضا لوحة اخرى عن اميركا بعنوان <كولاتيرال داماج> بحيث يضع الاعلام الأميركي في اطار هذا الوصف المواقع التي تقصفها اميركا معتبرة انها تخلف دمارا محدودا، فيما قد يكون اشخاص وابرياء قضوا جراء القصف. كذلك رسمت منى تحت عنوان <الجدار> لوحات ترمز الى هذا الحاجز بين الشعوب، ففي حين كان جدار برلين يهدم بين الالمانيتين، كان الاسرائيليون يشيدون الجدار ما بينهم وبين الفلسطينيين.

وتتوقف هنا منى برهة وتسأل: <كل هذه الحروب ليست سوى لبيع السلاح برأيي وليس اكثر. انظروا ما يجري في سوريا اليوم، هذا فعلا يحزنني... لنا اصدقاء كثيرون في حلب التي احبها وكنت وزوجي نزورها تكراراً>.

2

 قدموس وعشتار...

الحرب ليست كل ما شغل انامل الفنانة وريشتها، ففي لبنان وحضارته امور كثيرة اخرى تفتخر بها وتقول:

- كان لي معرض في فرنسا منذ اعوام، وقد اراد شخص ممن يعملون في حقل الليتوغرافيتا ان يتعرف بي وسألني رسم مجموعة من اللوحات الليتوغرافية، فوافقت بشرط ان يترك لي ملء الحرية في اختيار الموضوع فكان لي ما اردت. اخترت الاساطير الفينيقية وبها اردت البرهان ان حضارتنا تأتي قبل حضارة الاوروبيين حتى، هم الذي يزهد البعض منهم بتاريخنا اللبناني. وكانت سلسلة رسومات عن <ادونيس وعشتار> واخرى عن <قدموس واوروبا> تم عرضها في <غران باليه> في فرنسا.

 اوروبا، ورحلة اليسار الى قرطاج تمثل ايضا بين رموز اللوحة التي تعمل عليها باسيلي حاليا بقياس كبير وتأمل ان تنضم الى معرض <صالون دوتون> في باريس لهذا الموسم تحت عنوان <آثار> او <تراث> بالفرنسية، وفيها الرموز اللبنانية والفينيقية التقليدية مع <الطنطور> و<السمكة> و<التانيت> الفينيقي الجالب للحظ والشمس والسفينة والبحر، وطبعا آلة العود العزيزة جدا على قلب منى، ولهذه الآلة حكاية معها، ففي اهدن حيث كانت ترتاد احد المقاهي كان رجلان اعميان يعزف احدهما على العود والآخر على الناي وما عادت رأتهما وهما منطبعان في ذاكرتها لشدة ما تأثرت بهما.

 واذا كان العود آلة بين المفضلات لدى باسيلي <لأنها تأخذني بالسحر وتحملني لعالم آخر جميل> كما تقول، فان لوحات الفنانين لبنانيين وعربا تتربع ايضا في صالتها الفسيحة المفتوحة على الف لوحة ولوحة. <ام كلثوم> مع رسمها في رائعتها <انت عمري> الى عبد الوهاب وعبد الحليم وفريد الاطرش وساميا جمال واسمهان وفيروز وصباح ووديع الصافي وسميرة توفيق ... على جميعها تعلق: انظروا، كل ما في لوحاتي يستحضر <الجذور العربية> (عنوان معرض لها في العام 2001) وروح الشرق ووحيه... فنجيبها من ناحيتنا: <محترفك سيدتي هو ايضا كألف ليلة وليلة>...

العصفور... والسلام!

 

من وحي الشرق ايضا استولدت منى باسيلي صحناوي العصفور رمزا موجودا في الكثير من لوحاتها حتى انها وضعته وشما لا يمحى على يدها التي بها تمسك الريشة كلما عنت على بالها شطحة لون ودعتها ملكة الرسم الى محترفها الذي بنته مع بيتها منذ عشرين عاما وجعلته جامعا ما بين الحداثة والتراث، والى حيث يوافيها حفيدها العاشق للرسم هو ايضا:

- العصفور عزيز جدا على قلبي تقول منى، له معان كثيرة. هو رمز الحرية ويرتبط عندي ارتباطا وثيقا بالسلام ايضا. هذا الوشم رسمته انا ونفذه على يدي هادي بيضون وكان تلميذي النجيب في الجامعة وهو معروف اليوم على نطاق الشرق الاوسط.

وتضيف منى:

- عندما اسافر وازور المتاحف فانني اول ما اتوجه الى القسم الخاص بالشرق الاوسط والتاريخ الاسلامي، وقد لاحظت ان العصفور يستخدم بشكل كبير في الرسم على الفضة او الخشب او النحت من الهدهد والصقر والنغل. في ابو ظبي قدمت معرضا كاملا عن العصافير، ومنها الطاووس الذي يحمل رمزية خاصة، فما لاحظته في العديد من الغرف القديمة في متاحف دبي والشارقة التي يبقونها على قدمها للتذكير بحياة الناس وطرق عيشهم القديمة، انني وقعت على العديد من الاطباق واللوحات وبشكل اكبر في غرف النوم فيها نقوش ورسومات للطاووس، وما كنت اعلم انه طير يخسر ريشه في الشتاء لينبت من جديد في الربيع والصيف. قمت بابحاثي ووجدت انه يحمل رمزين: هو اولا عين السماء اذ له عيون في ذنبه وهو يتطلع الى فوق، كما انه ايضا رمز للخصوبة وقد اوردت ذلك في كتابي بعنوان <اليوم الخامس> لأن الله في اليوم الخامس خلق العصافير.

وأضافت:

- واذا كان العصفور قد احتل حيزا كبيرا في معرض ابو ظبي فانني ايضا استلهمت في ذاك المعرض الكثير مما في تلك البيئة كالحمامة والحصان والنخيل، وقد اعتمدت فيه على الاشكال المسطحة اكثر من البعد الثالث الذي تميز فيه الغرب، وانني تأثرت جدا بزيارتي للامارات العربية المتحدة إذ ادركت كيف ان هذا الشعب عاش في ظروف صعبة غير أنه توصل الى تطوير نمط حياته، وقد جعلت معرضي صرخة تدعو الى <ترك الاصول حية> على الرغم من التمدن والتطور.

 هذا التجذر بالبيئة والبحث الدائم عن الاعماق يرافقان باسيلي حتى الآن، وهي لما دعتها اميرة كويتية وكانت في الولايات المتحدة لانجاز معرض عن الكويت رحبت مؤكدة انها لا تستطيع ذلك الا بعد ان تعيش في البلد وتتعرف اليه وتلتصق بأرضه ومناخه وناسه حتى تترجمه في لوحاتها...

حروف وموجات...!

 

الألوان التي تستخدمها باسيلي في اعمالها البعيدة عن التجريد تمليها عليها اللوحة وموضوعها، وكذلك اسلوبها الذي تصفه بـ<صفوة> او <قشدة> كل ما تعلمته من مختلف التقنيات الكلاسيكية من علوم التشريح <اناتوميا> الى رسم الباستيل والزيت وتعمقها في الفنون الغرافيكية والحفر... بعد عودتها الى لبنان تغيرت نظرتها الى الشرق الاوسط في صحوة لها على غنى التراث الثقافي فيه فاتخذته منبعا لريشتها لا ينضب وحملته رسالة تسلمها للاجيال المقبلة حتى لا تضيع آثاره، وهي آثار اجتذبت المسافرين الاوروبيين في القرنين الـ18 والـ19 من <براتليت> الى <روبرت وولسون> و<فلاندرين> وغيرهم من خلال حضورهم الى هذه المنطقة بغية اكتشاف شعور جديد يولد فيهم فنيا.

 اما ادخال الاحرف لاتينية او عربية او حتى هيروغليفة على لوحاتها المختلفة والتي لا بد ان يلاحظها الناظر اليها، فله فلسفة خاصة بها تشرحها بالقول:

- اثبت العلم ان اي صوت مذ بدء الخليقة حتى يومنا لا يتبدد ولا يختفي انما تحمله الموجات ويبقى فيها حتى منتهى الدهر... احيانا عندما ازور مناطق او معالم اثرية أشعر وكأن بعض الكلمات من الماضي تزحف ما بين الاعمدة، وهذا ما اوحى لي بفكرة وضع الحروف في لوحاتي... فالعلم اخبرنا بان الموجات موجودة وجل ما فعلته انني جعلتها ظاهرة، وعندما اضع الحرف العربي في تكوين لوحاتي فان وجوده جمالي وله دلالات مرتبطة بثقافتنا.

 

1الطوابع ايضاً!

 الاستراحة مع منى قطعها فنجان قهوة. قدمت هذه الينا بفناجين تحمل توقيع الرسام حسين ماضي في احدى لوحاته التي اعيد طبعها على الفناجين والاطباق التي تحملها والتي تروجها احدى ماركات القهوة اللبنانية المعروفة. الخطوة رائدة وجميلة جدا، تقول منى مثنية عليها: <حسين صديق واستاذنا جميعا وبالطبع لا مانع عندي من اكون التالية في مشروع كهذا، فهل اجمل من ان تزين جلساتنا رسومات فنية رائعة بهذا الشكل>؟

 الى اللوحات التي تستعيد الواقع وموضوعاته في اعمال فنية خاصة، كانت لباسيلي بصمة خاصة في ميدان الطوابع البريدية ايضا. فالفنانة التي عادت من اميركا في العام 1964 كانت الاولى في الشرق الاوسط التي درست مجال <الغرافيك ديزاين> وعملت عليه قبل ان يصبح رائجا جدا في ايامنا، وقد تولت خلال السبعينات رئاسة قسم الفن التصويري في المجلس الوطني اللبناني للسياحة. عن تلك الحقبة تقول:

- مجموعة الطوابع البريدية الاولى التي عملت عليها كانت بناء على طلب اليونيسيف في مجال التربية، اعقبها طابعان لمهرجانات بعلبك الدولية، وطوابع اخرى للازياء اللبنانية بينها زي الاميرة اللبنانية والسيدة الطرابلسية وكانت لهما ازياء خاصة بهما، كما رسمت زي الامير وايضا زي الفلاح اللبناني وهي طُلبت مني من قبل رئيس الجمهورية حينذاك سليمان فرنجية... ولزي الفلاح قصة مع الرئيس فرنجية لا انساها: فلما انجزت الطابع وزرت القصر لاطلع فخامته على ما انجزت ضحك وقال لي: اعرف ان زوجك فارس قدير (يشارك في مسابقات دولية في ركوب الاحصنة) لكن حذاء الفلاح ليس كحذاء الخيال الذي رسمته وشرح السبب بأن الفلاحين الفقراء كانوا يلبسون الجلد من دون ان يكون قاسيا ما يؤدي الى طيات فيه ويستبدلونه عندما يهرم تاركين النعل ذاته حتى لا يتكلفوا المال، فاقتنعت وعدلت في الرسمة...

مبدعون...!

 

تثني باسيلي على الكثير من الطوابع اليوم فهناك مبدعون في هذا المجال كما في مجال الرسم الذي ترى فيه مواهب كبيرة كايمن بعلبكي الذي تحب عمله، ولو طلبت اليها شخصية واحدة معاصرة تجسدها في طابع لكانت اختارت المرأة اللبنانية اليوم مع تحيتها الى النساء اللواتي ينظمن المهرجانات وينقلن الوجه الحضاري الجميل للبلد، لكن هناك من قدم طابعا عن المرأة اللبنانية منذ فترة وجيزة، وهي تراه موفقا وقد اشترته مع الطابع الذي يحمل رسم السيدة الاولى سابقا زلفا شمعون وارسلتهما الى زوج ابنة عمتها وهو هاوٍ لجمع الطوابع يعيش في اوروبا.

عالم باسيل شفاف، واضح وغني... له اكثر من عمق واكثر من بعد تصب جميعها في قالب واحد جوهره الطبيعة والانسان وسلامه بعيدا عن اية حواجز، وبذلك يتحد تفكيرها مع رسالة زوجها في رئاسة <جمعية فرسان مالطا> التي تنشر مستوصفاتها الخيرية الـ13 على امتداد لبنان، من دون ان تسأل عن جنس او عرق او دين. <أساعدهم لما استطيع> تقول منى، التي تحيي جهودهم مستعيدة شعار الجمعية المستوحى من جملة لباستور يقول فيها: <لا اسألك ما هي لغتك ولا ما هو دينك ولا عرقك، قل لي فقط ما هو وجعك Je ne te demande pas quelle est ta race, ta nationalité ou ta religion, mais quelle est ta souffrance>.

هذا الوجع الانساني تحمله منى باسيلي صحناوي همّا يوميا تداويه بالريشة والكلمة فتمسح بالفن عن الروح غبار الحياة اليومية في ثورة جمالية دائمة...