بقلم وليد عوض
إحفظوا جيداً اسم نائب وزير الخارجية الروسي <ميخائيل بوغدانوف> صاحب النظارة البيضاء التي تخفي وراءها عالماً من الغيوب والأسرار. فالرفيق <ميخائيل> الذي زار لبنان غير مرة واجتمع بالمسؤولين والقادة فيه، وكان قائماً بأعمال السفارة الروسية في بيروت من عام 1977 حتى عام 1980، هو الآن الممسك بالملف السوري، وإن كان يعمل تحت معطف وزير الخارجية <سيرغي لافروف>، و<لافروف> يعمل تحت معطف الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> وهكذا هي الأدوار.
و<ميخائيل بوغدانوف> (63 سنة) يدرك ان الحل للشغور الرئاسي في لبنان ليس الآن حالة مستعجلة، وإن كان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي يريدها كذلك، حتى يسلم الوطن من المجهول الآتي. وفي منظور <بوغدانوف> ان على اللبنانيين ان يفهموا بأن مشكلتهم لن تحل إلا بحل المشكلة السورية الممعنة في التفاقم، وعبثاً يحاولون إذا تصوروا الأمر بطريقة أخرى، أو خالجهم الظن بأن سياسة النأي بالنفس تتيح لهم أن يحلوا معضلة الشغور الرئاسي.
وبالأمس استقبل <بوغدانوف> مع رئيسه <سيرغي لافروف> وزير الخارجية الإيراني <محمد جواد ظريف>، وبسط الثلاثة الملف السوري على طاولة المحادثات. وكان <ظريف> ذكياً عندما نأى بنفسه عن أي تصريح يساند الرئيس بشار الأسد، بل ترك هذا الأمر لوزير الخارجية الروسي <لافروف>، وذلك حتى لا يقال إن إيران، بعد توقيعها الاتفاق النووي مع دول الغرب، تواصل تدخلها في شؤون بلدان الشرق الأوسط. ويبدو ان التعهد الإيراني بعدم هذا التدخل مذكور في الملاحق السرية للاتفاق النووي الذي جرى توقيعه في <لوزان>.
وثمة بين الديبلوماسيين العرب من يرى ان في هذه الملاحق السرية لاتفاق <لوزان> تعهداً إيرانياً طلبته الولايات المتحدة بأن تمتنع إيران عن التهديد بمحو اسرائيل عن الخريطة، أو باستهدافها بصواريخ بعيدة المدى من طهران. والدليل على وجود هذا الملحق السري الذي ستكشفه الأيام ان إيران لم تعد تهدد بمحو اسرائيل عن الخريطة، أو استهدافها بهجوم إيراني صاروخي، كما كان الحال من ذي قبل.
و<بوغدانوف> الهادئ الملامح كالحمل الوديع يعرف كل هذه التفاصيل، ولا يغيب عن باله تفصيل صغير وهو يعد الحل المطلوب للأزمة السورية التي أصبحت عند الروس كما عند الإيرانيين فوق الاحتمال. وما استقبال موسكو للائتلاف السوري المعارض برئاسة خالد خوجة، وهي الحليفة لنظام بشار الأسد، إلا محاولة لاختراق جدار الأزمة السورية، والوصول الى نقطة تلاقٍ بين المعارضة السورية والنظام السوري الذي لم يعد آيلاً للسقوط بسهولة كما تتصور المعارضة السورية. وقد قالها <لافروف> صريحة يوم الاثنين الماضي بعد استقبال <محمد جواد ظريف> وهو ان اشتراط المعارضة لرحيل بشار الأسد كمدخل الى التفاوض على حل في سوريا هو أمر غير مقبول. والمنطق نفسه يعتصم به <محمد جواد ظريف>، ولكنه يترك الكلام فيه لوزير الخارجية الروسية.
فاروق الشرع من جديد!
حسناً.. ماذا في مقدور الممسك بالملف السوري <بوغدانوف> أن يفعل؟
سيحاول <بوغدانوف> أولاً أن يقنع النظام السوري بأن الاتفاق مع المعارضة، داخلية وخارجية، هو باب النجاة، لأن الحلول العسكرية لم تعد تجدي، بل توسع الشرخ بين النظام السوري والمعارضة، خصوصاً بعد تلك المذبحة البشرية الرهيبة التي جرى ارتكابها في بلدة <دوما> التابعة لغوطة دمشق، وأسفرت عن مقتل 200 ضحية، وانصراف المعارضة السورية الى تحضير ملف لتقديمه الى محكمة الجنايات الدولية حول تلك الارتكابات.
وثانياً يحاول <بوغدانوف> اقناع المعارضة السورية بعد تجميعها في بوتقة ديبلوماسية واحدة مع ما في ذلك من مشقة، بأن رحيل بشار الأسد يكون في الفصل الأخير من الحل، لا قبله، أي عليهم أن ينتظروا نهاية ولايته الرئاسية عام 2018، وخلال فترة الانتظار يأخذ اتفاق <جنيف واحد> مسار التطبيق، فتستقيل الحكومة السورية لتحل مكانها حكومة ائتلاف وطني من رجال النظام ورجال المعارضة، ويرد في هذا الباب اسم نائب الرئيس السوري فاروق الشرع الذي تدعمه موسكو في أي مرحلة انتقالية سورية.
ولا تملك المعارضة السورية بعدما أخذ منها تنظيم <داعش> الوهج والدور إلا أن تقبل بطروحات <بوغدانوف>، لأن الحل الأميركي بتقوية المعارضة المسلحة المعتدلة لم يتحقق، بل زاد الصراع في سوريا شراسة، وأثبت تنظيم <داعش> انه سيد الواجهة في التصدي للنظام السوري. ولن يكون مستغرباً خلال تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، أن يجلس زعيم المعارضة خالد خوجة الى طاولة مفاوضات واحدة أمام فاروق الشرع.
وليس في مقدور المعارضة السورية أن تفرض المزيد من الأوراق السياسية بعدما شارفت منطقة الزبداني على السقوط في قبضة السلطة السورية، ورجحان كفة النظام السوري على كفة المعارضة، ولاسيما جبهة <النصرة>، إلا ان المعارضة المسلحة تقول بالمقابل انها تحاصر مدينة اللاذقية وجوارها، وتصل نيرانها الى القرداحة مسقط رأس الرئيس الأسد. وورقة عسكرية في يد النظام، تقابلها ورقة عسكرية في يد المعارضة، وإن كانت هذه الورقة أصغر حجماً.
اسمع يا خالد خوجة!
ومن هذا المنطلق ستتكرر زيارة خالد خوجة لموسكو، وتتكرر زيارات <بوغدانوف> لكل من دمشق وطهران وبيروت وربما الرياض لتوسيع أفق الحلول المطلوبة لسوريا. ويدرك <بوغدانوف> ان حصوله على التفاهم السعودي ــ الإيراني حول سوريا يكون الحلقة الأخيرة المطلوبة لانطلاق المفاوضات بين المعارضة السورية والنظام السوري، وقبل ذلك يبقى كل الفرقاء يحطبون في ليل، ويرسمون على الماء، وينفخون في رماد بارد.
ولكن لماذا كل هذا الاهتمام الروسي بسوريا؟
أولاً.. هي القاعدة البحرية الروسية في بانياس، أو مسمار جحا الروسي في بناء الشرق الأوسط، وبدونه تستحكم العزلة الروسية في المنطقة. وثانياً يستطيع الوجود العسكري السوري في سوريا أن يجعل من موسكو شريكاً في شطرنج الشرق الأوسط، فلا تمر الحلول بدونها، ولا يجري تقسيم العراق، دون أن يكون لها رأي فيه. ولا تتشكل حكومة جديدة في سوريا، إلا وتكون لها بصمة العين، وهو جهاز جديد لكشف هويات الذين تحوم حولهم الشكوك.
و<بوغدانوف> الذي يتكلم العربية والانكليزية إضافة الى الروسية كان سفيراً لبلاده في اسرائيل بين عام 1997 وعام 2002 وسفيراً لدى مصر من عام 2005 الى عام 2011.
كذلك فإن روسيا لن تكون بعيدة عن عملية اختيار الرئيس اللبناني الجديد، كما كان لها صيف 1970 دور في انتخاب الرئيس سليمان فرنجية، بدعم من الرئيس كميل شمعون الأقوى مسيحياً. وجاء ذلك الدور الروسي رداً على الحكم الشهابي ومرشحه حاكم مصرف لبنان الياس سركيس، بعدما جرى اتهام السفارة الروسية عند منطقة المزرعة في بيروت، بمحاولة سرقة خرائط طائرة <الميراج> الفرنسية من مربضها في مطار بيروت، وسوق تهمة كشف هذه العملية الروسية الى الرائد الطيار محمود مطر. ولما كان الزعيم كمال جنبلاط هو الصديق الأول للاتحاد السوفييتي (روسيا آنئذ) فقد نقل صوته في الدورة الثانية لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية من معسكر الياس سركيس الى معسكر سليمان فرنجية، وربحت المعارضة على الشهابية بصوت واحد، ومنها جاء الرئيس فرنجية مرشح تكتل الوسط يومئذ بزعامة كامل الأسعد وصائب سلام وعبد اللطيف الزين وسليمان فرنجية.
ومن هذا الاعتبار يمكن القول ان <بوغدانوف> سيكون ناخباً من خارج البرلمان في انتخاب رئيس لبنان الجديد، في ظل التفاهم السعودي ــ الإيراني، كما سيكون شاهداً، أو قابلة قانونية لأي حل يتناول الأزمة السورية التي تلفح لبنان بنارها.
<بوغدانوف> والجلسة الانتخابية
وغداً عندما يطل <بوغدانوف> على دمشق ثم بيروت، ينبغي الاقتناع بأن الحل السوري أصبح على الأبواب، وأن الشغور الرئاسي في لبنان وصل الى خواتيمه، والأزمة اللبنانية، ولاسيما في جانبها الاقتصادي والمالي والمعيشي، قد عبرت من مداها الى منتهاها، وان المؤسسات في لبنان لم تعد مهددة بالتفكك، وكان إلقاء مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم القبض على الشيخ أحمد الأسير، بعد اختفائه أكثر من سنتين، أول الغيث في نهضة المؤسسات، بعدما فقدت ثقة الشعب اللبناني الغارق في الأزمات المعيشية وفساد المتسلطين على مقدراته!
وعندما سيدعى نواب البرلمان الى انتخاب الرئيس الجديد، ويفك العماد ميشال عون مقاطعته للجلسات النيابية، كما طلب حليفه السيد حسن نصر الله، فاذكروا بالخير <ميخائيل بوغدانوف>!