تفاصيل الخبر

الوطنية الجماعية لكل اللبنانيين والأحرار والمناضلين...

09/05/2014
 الوطنية الجماعية لكل اللبنانيين والأحرار والمناضلين...

الوطنية الجماعية لكل اللبنانيين والأحرار والمناضلين...

ساحة البرج، ساحة المدفع، ساحة الشهداء، ساحة الحرية، بساتين فخر الدين أسماء عدة لمكان واحد بات يشكل الذاكرة  beirut-tramway-at-the-end-of-horsh-line-1955

بعض الاماكن تختزن في ثناياها عبق الماضي، تصير بحد ذاتها ذاكرة تحمل في ارشيفها وقائع وأحداثاً وصوراً بالاسود والابيض، وبعض الاماكن تصبح ذاكرة جماعية للشعوب، تتجسد فيها قصص من النضالات والبطولة والوطنية. ومن هذه الاماكن ساحة الشهداء في بيروت، والتي كانت وما زالت، الساحة الباقية الشاهدة على توالي الاحداث والتطورات في لبنان. ولعل هذا التحقيق يأتي متناسباً مع ذكرى عيد الصحافة، وعيد الشهداء. وفي وسط هذه الساحة، علقت المشانق التي صارت أرجوحة لابطال قدموا حياتهم فداء للحرية والاستقلال.

أسماء كثيرة حملتها هذه الساحة، من ساحة المدفع الى ساحة البرج، وبساتين فخر الدين الى ساحة الشهداء... ثم ساحة الحرية. انها ساحة الشهداء كبرى ساحات بيروت، وقلب وسطها التجاري. الساحة التي شهدت إعدام ثلة من الابطال الذين وقفوا بوجه الظلم العثماني في 6 أيار/ مايو عام 1916 وقد عرفوا بشهداء لبنان. يؤكد المؤرخون ان الأمير فخر الدين المعني الثاني كان أول من حول المنطقة الشرقية خارج أسوار بيروت آنذاك إلى ساحة فخمة شيد عليها قصراً حجرياً من الطراز <التوسكاني> الإيطالي وذلك في بدايات القرن السابع عشر الميلادي، وأنشأ حولها الحدائق فسميت المنطقة بـ<بساتين فخرالدين>، وقد استعمل في بنائها حجارة من قصور خصومه آل سيفا في عكار، ولاحقاً عاد أحد أفراد آل سيفا وانتقم من خلال تدمير هذا القصر. وفي القرن الثامن عشر، عاد والي عكا أحمد باشا الجزار ليرمم القصر وحوله برجاً لمراقبة سواحل البحر المتوسط تحسباً لهجوم الأساطيل. وفي إحدى غارات الأسطول الروسي، عمد الروس الى نصب مدافعهم في الساحة لدك البرج فسميت المنطقة حينها <بساحة المدفع>.

ساحة البرج

جامع-محمد-الامين-ساحة-الشهداء

وفي عام 1831، دخلت قوى إبراهيم باشا المصري إلى لبنان واتخذت من هذه الساحة معسكراً لجيوشه، وأعيد ترميم البرج القديم وزاد طوله فبلغ 60 قدماً وعرضه وصل إلى 12 قدماً وسمي <البرج الكاشف>. اما اهل بيروت فأطلقوا عليه اسم <برج الكشاف> ومنهم من سماه <برج الكشاش> لاستعماله في <كش طيور الحمام>، وسميت الساحة بـ<ساحة البرج>. وفي القرن الثامن عشر، بنى العثمانيون مبنى سمي بـ(السراي) استخدم كمبنى مركزي للحكم العثماني، وهو السراي الحكومي هذه الايام. ساحة الشهداء

خلال النضالات التي بدأها العرب للتحرر من نير الاستبداد العثماني، وإثر اكتشاف السلطات العثمانية وثائق يطلب فيها وطنيون سوريون من الإنكليز والفرنسيين التخلص من الحكم التركي والالتحاق بالثورة العربية، أقام الوالي العثماني جمال باشا السفاح محكمة صورية في عاليه عند جبل لبنان وأصدر احكاماً بالإعدام على عدد من الوطنيين في دمشق وبيروت. نفذت أحكام الاعدام شنقاً على دفعتين: واحدة في 21 أب/ أغسطس 1915 وأخرى في 6 أيار/ مايو 1916 في كل من ساحة البرج في بيروت، فسميت ساحة الشهداء، وساحة المرجة في دمشق. ومن ابرز شهداء الحادي والعشرين من آب/ أغسطس 1915: عبد الكريم الخليل، الأخوان محمد ومحمود المحمصاني، عبد القادر الخرسا، عبد الغني العريسي، أحمد طبارة، نور الدين القاضي، سليم أحمد عبد الهادي (فلسطيني)، محمود نجا العجم، الشيخ محمد مسلّم عابدين (مأمور أوقاف اللاذقيّة وهو من دمشق)، نايف تللو (من دمشق)، صالح حيدر من (ابناء بعلبك)، علي الأرمنازي (من حماة).

أرجوحة الابطال

--طوني-عطاالله

ويؤكد المؤرخ والباحث التاريخي احمد عبد الساتر في حديث مع <الافكار> ان احد الشهداء صالح حيدر صرخ عندما حان دوره للصعود الى حبل المشنقة: <اهلاً بأرجوحة الابطال>، بينما هتف البعض منهم للحرية، وفوجىء احد الضباط العثمانيين بهذا العنفوان الذي أبداه هؤلاء، فبكى وكان اسمه رفعت اوغباش وكان متزوجاً من لبنانية من منطقة صيدا، ولما وصل خبر تأثره للوالي جمال باشا عمد الى نفيه من لبنان بعد سجنه في عاليه لمدة اسبوع. وفي عام 1916، أعدم جمال باشا الذي عرف بالسفاح 14 وطنياً لبنانياً في الساحة اثر خسارة الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى متهماً إياهم بمساعدة الأعداء. وحين دخل الفرنسيون إلى بيروت، أنشأوا قوساً ليخلدوا ذكرى الشهداء. وأمر الجنرال غورو بتسمية المكان <ساحة الشهداء>. ثم بنوا نصباً كُلّف النحات يوسف الحويك بنحته من الصخر اللبناني يمثل امرأة مسلمة وأخرى مسيحية تندبان على قبر، لكن هذا النصب تم هدمه ابان الاستقلال، لما اعتبره اللبنانيون رمزاً للخنوع والذل. وقد افتخرت جريدة <المعرض> آنذاك بالتمثال المذكور، فقالت: <انه يصنع كله من الأرض اللبنانية. فصلصاله لبناني، والحجر الذي نحت منه لبناني، واليد التي نحتته لبنانية صرف، والفكرة التي أوجدته احتوتها مخيلة لبنانية>. واعتبر الكاتب زياد عيتاني أن هذا التمثال أثار جدلاً شديداً في المحافل الوطنية لأنه كان يمثل الذل والخنوع. وقد أسفرت الحملة التي نظمت آنذاك عن هدم التمثال سنة 1948 لاستبدال آخر به تكون ملامحه ومعالمه مجسدة للبعد والمدلول الوطنيين. ونقل القسم العلوي من التمثال ليوضع في زاوية من زوايا متحف سرسق.

تمثال الشهداء

شهداء-6-ايار-1916

في العام 1950، أمر الرئيس رياض الصلح بهدم السراي القديمة لتوسيع الساحة وإنشاء مناطق تجارية حديثة فأصبحت ساحة الشهداء قلب بيروت التجاري.وفي عام 1952 وفي أواخر عهد الرئيس الشيخ بشارة الخوري، خصصت الحكومة جائزة دولية لوضع تصميم جديد لنصب الشهداء وتم اختيار تصميم المهندس سامي عبد الباقي وهو عبارة عن قوس بارتفاع 27 متراً وعرض 24 متراً وتحته مسلة بارتفاع 8 أمتار، تعلوها مصطبة على جانبيها شعلتان دائمتا التوهج. إلا أن حوادث عام 1958 حالت دون إتمام العمل.وبعد أحداث 1958، كلف مجلس مدينة بيروت البلدي النحات الإيطالي <مارينو مازوكوراتي> بنحت نصب جديد للشهداء بعدما كان قد نحت تمثال الزعيم الخالد رياض الصلح، وأنهى العمل بعد 30 شهراً بإنتاج تمثال يرمز إلى الحرية تمثلها امرأة ترفع مشعلاً بيد وتحيط بيدها الأخرى شاباً وعلى الأرض امامها ووراءها شهيدان ليتم تدشين النصب رسمياً عام 1960 برعاية الرئيس اللواء فؤاد شهاب. يشار أيضاً الى أنه كان مقرراً في ذلك الوقت أن تنشئ بلدية بيروت أربعة ينابيع مياه اصطناعية تمثل الفصول الأربعة والينابيع اللبنانية الطبيعية الأربعة في حديقة ساحة الشهداء، بجوار النصب التذكاري فتنسجم مع التمثال لتضفي عليه مزيداً من الجمال، فإذا بها تكتفي ببناء قاعدة النصب الذي بقي مرفوعاً عليها حتى العام 1996. وخلال الحرب الاهلية الثانية بعد الاستقلال (1975- 1990)، أصبحت الساحة خط تماس بين المتصارعين لمدة 15 عاماً فتحولت الى منطقة دمار وخطوط تماس .

تفكيك النصب في الساعة الثانية عشرة يوم الخميس في 28 آذار/ مارس 1996، بدأت ورشة تفكيك نصب الشهداء، ونقله الى جامعة الروح القدس في الكسليك، والمباشرة بترميمه وتدعيمه، وكلفت شركة <سوليدير> التي تولّت نفقات المشروع النحات عصام خير الله بمعاونة المستشارر <روبرت هاريس> لترميم التمثال وبلغت التكلفة 71 ألف دولار. وبعد انتهاء الحرب في عام 1991، وإنشاء منطقة <سوليدير> كمشروع ضخم لاعادة اعمار وسط بيروت، أعيد تأهيل وبناء الساحة بحسب مخططات حديثة وأنشئ مسجد محمد الامين الضخم غرب الساحة بتمويل من الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وأعيد التمثال الى قلب العاصمة بيروت من جديد. التمثال-القديم-ليوسف-حويك ويعتبر الدكتور طوني عطا الله (استاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية) في حديث مع <الافكار> ان النصب التذكارية المنتشرة في جميع الاراضي اللبنانية تمثل رصيداً وطنياً كبيراً وثروة

ساحة الحريةمهمة يحتاج اليها لبنان الذي لا ثروات طبيعية فيه. وينتشر اليوم في مختلف المناطق اكثر من 500 نصب تذكاري ما زال اللبنانيون متمسكين بها رغم الاعتداءات والتفجيرات التي أصابت بعضها في حروب الاعوام السبعة عشر والتي كان في مقدم اهدافها تدمير ذاكرة الوطن ومحو حقبة من تاريخه. هذه النصب التي ظلت شامخة بعد المحنة تمثل وفاء الشعب اللبناني، لان وفاء الشعوب يقاس بعدد التماثيل والنصب التي تحافظ عليها. هي تعبير عن التقدير والعرفان بالجميل للشخصيات التي تمثل ولما بذلته من تضحية في سبيل وطنها ومجتمعها. فالشخصيات التي تجسدها تلك النصب عاشت حياة هي في بعض جوانبها الانسانية حياة رائدة ومدعاة للتمثل بها. كانت تلك الشخصيات قدوة في العلم والوطنية والتفاني في سبيل الخدمة العامة وتقديم المصلحة العليا على مصالحها الشخصية وتحلت بالصفات الحميدة، فأقيمت الانصاب تخليداً لذكراها.

في عام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، أصبحت الساحة ملتقى المناضلين في سبيل استقلال لبنان الثاني وشهدت حشوداً ضخمة سميت بالمليونية التي أطلقت ثورة الأرز وسميت الساحة بعدها <بساحة الحرية>.SAM_3632

وبرأي الزميل زياد سامي عيتاني ان ساحة الشهداء في وسط بيروت، التي كانت تعرف أيضاً بـ<ساحة البرج> كانت على مدى أربعمئة عام مسرحاً للأحداث والتطورات المرتبطة بتاريخ بيروت منذ أن كانت ولاية، وحتى احتلت مكانتها الريادية والمتقدمة كعاصمة مركزية لدولة لبنان الكبير. فكل حجر وقرميدة فيها، وكل حدث مرَّ عليها، وكل ذكرى راسخة عنها في وجدان الزمن، سيرة لمحطات وطنية وقومية مشرّفة، حتى أصبح المكان يؤرخ لنشوء لبنان ويجمع بين أبنائه.أما في العصر الحديث حتى عشية العام 1975 فكانت <ساحة البرج> قلب بيروت النابض، حتى ان البعض كان يطلق عليها تسمية <كرسي بيروت>. كانت الساحة شاهدة دوماً وباستمرار على أحداث بيروت، على الرغم من أنها كانت في ظاهرها، أي خارج سورها، لأنها كانت للمدينة القديمة بمنزلة ضاحية شرقية لها. وتتذكر الزميلة صباح زوين أنها عرفت ساحة البرج، قبل الحرب وتقول: <كنت في مراهقتي الأولى أرى صورة تلك الساحة بعين <نوستالجية>، وصوراً أخرى كثيرة لبيروت عن فترة ما قبل ولادتي بكثير، كانت فارغة من الناس ومن السيارات. فأنا عرفتها في زحمتها، حيث الضجة كانت تختلط بالصخب على أنواعه. مع ذلك، تلك البيروت التي عرفتها والتي لا علاقة لي بها سوى عبر مروري الاضطراري بها في تلك الآونة، بقيت جميلة في ذاكرتي، ربما لأنها ذكرى وكل ذكرى تصبح رائعة. فكيف بالحري ببيروت 1900 او 1920، ويا له من مشهد مؤثر، لهذه المدينة التي كانت ولم تعد المدينة التي لم أعرفها في براءتها وعرفتها من ثم في فوضاها وعجرفتها وحروبها. آسفة لأنني لم أعش فترة بيروت الأليفة والمتواضعة>.

حسرة وذكريات

ويتذكر ابو علي رعد (كان يعمل سائقاً على خط بعلبك بيروت) الأيام الجميلة في ساحة البرج كما يحلو له ان يردد، ويذكر اسماء اماكن مازالت تركن في ذاكرته على سبيل المثال<مطعم ومقهى الاتوماتيك> مقابل بلدية بيروت و<سينما ريفولي>، مطعم <ابو عفيف> البعدراني ومقهى <كوكب الشرق>... وفلافل فريحة ومطعم البركة... ويتابع بحسرة: كانت ساحة البرج لا تعرف النوم وتعج فيها الحياة... كانت اجرة الراكب من بيروت الى بعلبك 15 قرشاً، ثم ربع ليرة... ايام كانت كلها خيراً وبركة..>. وكما ابو علي رعد، تذكر هلا شاتيلا ( ام ساري) كيف كانت ساحة البرج ام الدنيا وكيف كانت تذهب مع ابيها الذي كان مفتشاً في الشرطة لشراء كل ما تحتاجه، كانت تجد الكون كله في ساحة الشهداء....ثورة-الارز-في-ساحة-الحرية اما محمد الجمال ( ابو اسعد) الذي كان شرطياً في ساحة البرج، فهو يتذكر بحسرة الزمن الابيض، وكيف كان بحكم عمله يتعرف الى كبار الشخصيات السياسية، ومنهم المرحوم الشيخ بيار الجميل الذي كانت له صيدلية في الساحة قرب مقهى <الباريزيانا>. ذكريات ساحة البرج تختزنها ذاكرة اللبنانيين، وهي من الذكريات البيضاء التي تذكرهم بأيام العز لوطن بدأت جلجلته منذ اندلاع شرارة الحرب في عين الرمانة في 13 نيسان/ أبريل 1975.. وبقيت ساحة الشهداء، ساحة الحرية، تحتضن الماضي الجميل، وضريح الشهيد رفيق الحريري، وتظل شاهدة على توالي الاحداث في وطن كأنه ممنوع عليه كتابة تاريخه الا بحبر الدم...