بقلم سعيد غريب
تمثال الحرية الذي أهداه الفرنسيون لمدينة نيويورك، إنما هو مجرد تمثال ثقيل الحجم، خفيف الظل، وشاهد على آلاف القصص والحكايات...
في خريف العام 1998، زرت الولايات المتحدة وقصدت التمثال الشهير حيث استوقفتني عند مدخله لافتة كُتب عليها: No Smoking, No Eating, No Drinking (لا للتدخين، لا للأكل، لا للشرب).
نظرتُ الى الدليل السياحي وهي فتاة، وفي الوقت عينه التفتّ الى التمثال واللافتة وقلت لها: ما هذه الحرية التي تبدأ بلاءات ثلاث؟!
اكتفت الفتاة بالابتسامة وقالت لي: لقد أعجبتني الملاحظة!
وفي لبنان، ننظر الى تمثال الشهداء الذي أعيد الى الساحة مرمّماً قبل حوالى اثني عشر عاماً، والنسيان يسابق الذاكرة... ننظر إليه ونحن نترحّم على شهداء لبنان بعدما بات كل يوم في السنة يحتضن في كل بيت ذكرى شهيد..
نستقبل ذكرى السادس من أيار/ مايو بكثير من اليأس وكثير من الأمل. من اليأس أولاً لأن المسؤولين وزعوا الذكرى على تواريخ أخرى وأفرغوا الأساس من مضمونه وجوهره!
ننظر الى الحرية ونتطلع إليها ونشعر بالغثيان حين ندرك انها مجرد سلعة يستخدمها بعض الأعلام وبعض الصحافة وبعض السياسيين لمآرب شخصية حيناً وتجارية أحياناً.
ننظر إليها وقد أُفرغت من محتواها وفقدت عطرها والسبب الذي من أجله دفع أسلافنا ثمنها غالياً، وتنظر هي إلينا دامعة لأن الكبار تسلّقوها وعقدوا الصفقات باسمها.
ينظر الشهداء الى <كبار> لبنان ويقولون لهم: ماذا فعلتم ببلدنا الحبيب، نحن ذهبنا لتكونوا أحراراً، هل أنتم أحرار فعلاً؟ ماذا تقرأون، وماذا تسمعون؟ ماذا تأكلون، وماذا تشربون؟ كم مرة تسافرون في الأسبوع؟ أين تضعون أموالكم ومن أين مصدرها؟ كم سيارة تبدّلون في الأسبوع؟ كم منزلاً اشتريتم أو بنيتم؟ هل صحيح أن المنزل العادي لم يعد يلائم؟ هل نسأل عن <الفيلات> والقصور واليخوت والطائرات الخاصة؟
شُنق الأحرار في 6 أيار/ مايو واستشهد عشرات الآلاف على مدى مئة عام.. كلهم ذهبوا وأخذوا معهم لبنان الذي أحبّوا!
كلهم ذهبوا وبهم شوق مُلحّ لأن يرى أبناؤهم وأبناء أبنائهم وجه الشمس وطلعة صنين.
دفع الأجداد غالياً ثمن الحرية، وحوّلها الأحفاد الى صناعة رخيصة يحاربون للمحافظة عليها، رخيصة لأنها مرتفعة الثمن. وليست البرامج التي نشاهدها في أيامنا هذه سوى خير تعبير عن المستوى الذي بلغته هذه الصناعة: إنها صناعة الإثارة والتشهير والفضائح والتنجيم والخناق والصريخ.. والهدف واحد: الكسب المادي مع ارتفاع نسبة المشاهدة.
اليوم، نفهم لماذا الغرب، وفي مقدّمه الولايات المتحدة وأوروبا، يتفاهم مع الصحافة والإعلام، وكيف يتفهم الإعلام وتتفهّم الصحافة منطق الدولة وأسرار الدولة عندما تتعرض الدولة بل أمنها القومي للاهتزاز أو للخطر...
اليوم أدركنا لماذا أخفى الإعلام الأميركي جثث الثلاثة آلاف الذين قضوا بتفجيرات 11 أيلول/ سبتمبر 2001، ولماذا لم يبرز الإعلام الفرنسي إحراق أربعة عشر ألف سيارة خلال أعمال الشغب في ضواحي العاصمة باريس في العام 2003.
اليوم بتنا ندرك أكثر من أي يومٍ مضى لماذا يشدّد الرئيس سليم الحص على أن في لبنان الكثير من الحرية والقليل من الديموقراطية..
نحن مع الحرية المطلقة شريطة ألا تؤذي البلاد وتعرض الأمن القومي للخطر.
نحن مع <عقيدتي: الحرية> كما قال عنها ذات يوم رئيس تحرير <الكريستيان سيانس مونيتور> <أروين كانهام>.
يقــــول <كانهــــام> في مقدمة كتابه <عقيدتي: الحريــــة>: <الأخبـــــار والتعليق عليها، اليوم أكثر من أي يوم مضى، مطلب ضروري إذا كانت البشرية تريــــد تجنّب الكارثة العظمى.. الأخبار هي مفتاح الفهم، بلا أخبار لا تستطيع البشرية الارتفاع الى مستوى اتخاذ القرارات المصيرية التي تواجهها في هذا العصر المعقد بالمشاكل.. ومن غير الأبناء لا تستطيع البشرية احتمال المشاكل والمتاعب بالحكمة المطلوبة...>.
ونحن نقول شريطة أن تكون أخباراً لا مقدمات إنشائية وقال وقيل وحكي بلا طعمة.
في ذكرى الشهداء نقول ان يأس اللبنانيين من حاضرهم وأوضاعهم الداخلية لا يضاهيه إلا يأسهم الأكبر من الأوضاع الإقليمية والدولية..
ومن الأمل نكتفي بأن محاولاتنا نحن اللبنانيين ستستمر من دون توقف لوقف السباق نحو ما هو أخطر على مستقبل العيش المشترك.
وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل...
صحيح أن النسيان يسابق الذاكرة، ولكن المهم ألا يبقى لبنان مجرد ذكرى.