تفاصيل الخبر

المذيعة والمخرجة والكاتبة بتريسيا حكيم في كتابها ”كلمات صمتي“: وصلتُ الى مرحلة من الالم خرجت فيها من جسدي... وصارت الـ”أنــا“ هي... ”الاخرى“!

01/02/2019
المذيعة والمخرجة والكاتبة بتريسيا حكيم في كتابها ”كلمات صمتي“: وصلتُ الى مرحلة من الالم خرجت فيها من جسدي... وصارت الـ”أنــا“ هي... ”الاخرى“!

المذيعة والمخرجة والكاتبة بتريسيا حكيم في كتابها ”كلمات صمتي“: وصلتُ الى مرحلة من الالم خرجت فيها من جسدي... وصارت الـ”أنــا“ هي... ”الاخرى“!

بقلم عبير انطون

<القدر؟! نحن نصنع قدرنا>... تقول بتريسيا بصوت تشد به للخروج من حلقها ارادة الحياة وحدها بعدما عانى هذا الصوت ما عاناه من دون ان يخفت فيها ذاك الداخلي الملعلع دائما بالايجابية والأمل: <حتى اليوم ادخل غرف الأشعة، اخضع للصور الشعاعية ولا يعرفون كيف يخرج صوتي> تقول بتريسيا مبتسمة بشقاوة، وكأنها وحدها تعرف السر، سر نسجته بنفسها لنفسها بعيداً عن تشخيصات الأطباء وممنوعاتهم و<علميتهم الدقيقة> بأن لا جدوى من المحاولة....

في عزّ صباها خطأ طبي قام به <جزاران> على ما وصفهما به لها طبيبها الأميركي البروفيسور <مونتغومري> بعد عدة سنوات في احدى مستشفيات بوسطن، كان كفيلا بأن يأخذ الصبية الضاجّة بالحياة الى قعر الصمت المطبق، الى <اللاذات>، الى عدم القدرة على النطق والتعبير ولا حتى على التنفس.

فماذا الذي عاشته صاحبة كتاب <كلمات صمتي> المترجم عن كتابها الذي اصدرته بالفرنسية تحت عنوان:  <LES MOTS DE MON SILENCE> ووقعته البارحة في قاعة بلدية سن الفيل؟

الرواية الكاملة لـ<بتريسيا> سردتها لـ<الأفكار> من داخل مكتبها في لقاء لا يشبه غيره...

- كنت متوجهة الى البحر استمتع بالحيوية الفياضة لابنة السابعة عشرة. سمعت اعلانا في الراديو يطلبون فيه مذيعات. عدت ادراجي، ركنت السيارة وخضعت للاختبار، لتبدأ رحلتي الجميلة جدا في اذاعة <ماجيك وان او تو >. لطالما استهواني عالم الاعلام الذي <كوّعت> عنه ايضا نزولا عند رغبة والدي بدراسة <ما يطعم خبزا>. تخصصت في العلوم التجارية الا ان ذلك لم يمنعني لاحقا من التخصص في كندا التي هاجرت اليها بعمر الخامسة والعشرين، وتحديدا في فنون التواصل <مجتمع وتلفزيون> كما درست الاخراج وعملت في مجاله.

ــ كندا؟! لماذا كندا؟

- لأن صقيعي الداخلي كان أكبر بكثير من صقيعها، ولان نيران الحرب في لبنان أججت اتخاذ القرار وعجلت به.

- مهلا، صقيع داخلي وكنت قبلها تشعرين بأن الارض صغيرة عليك، توصلين فيها نهارك بليلك؟ ما الذي جرى؟ ما سببه؟

 اليكم القصة. تقول بتريسيا النحيلة والجذابة الابتسامة:

- لقد دخلت الى العمل الاذاعي كما قلت وسط طاقة مذهلة وشوق الى عيش اللحظات بثوانيها لا بدقائقها. كتبت أيضا في عدة مجلات منها <ريفيل> و<سكوب> لستافرو جبرا رحمه الله. طلب مني المخرج سيمون أسمر الانضمام اليه وكان بصدد تحضيره برنامج <بيست تونايت> لـ<المؤسسة اللبنانية للارسال> قبيل اطلاقها، على ان نتشارك في تقديمه انا باللغة الفرنسية وزميلي باللغة الانكليزية. استمهلته بضعة أيام اذ كان علي ان اخضع لجراحة عادية في الغدة الدرقية. دخلت المستشفى، وعلى يد بروفيسور مشهور تمّ الأمر. في اليوم التالي عادني الطبيب للاطمئنان علي. اراد ان يتأكد من <كمال ما صنعته يداه>. طلب مني الاجابة عن اسئلة توجه بها الي. كنت اجيبه، ولم يكن يسمع. طلبت من والدتي كوب ماء لاشرب، ولم تستجب لما طلبته فهي لم تسمعني أيضا. راح يصرخ كل من في الغرفة بصوت واحد: <انطقي انطقي، قولي شيئا>... احاول... فأسمع بعد وقت خلته دهرا، صوتا غريبا يشبه زمجرة حيوان جريح.

بعد تفكير، لا بأس قال الطبيب، هذه ردة فعل ما بعد العملية الجراحية. واكمل شارحا:

-  كذلك فانني اضطررت، وبسبب النزيف الذي حصل ان اقطب الجرح بسرعة بالغة>... سرعة جعلت الخيطان التي غرزها في جرحي غير قابلة للتحلل تلقائيا فقطعت اوتاري الصوتية بشكل كامل... سببت ما سببته من اضرار. ومعها بدأ تحلل املي... تحلّل الروح فيّ.

وأضافت:

- تعقدت المشكلة بشكل اكبر وأضحت أكثر خطورة مع عدم امكانية التنفس لأن الاوتار المعلقة وسط الزلعوم تمنع تسرب الهواء نحو رئتي... لم يكف ما اصابني حتى استجدت، ومن جــــراء استئصــــال الغـــــدة بكاملهـــــا وفـــــــرض تنــــاول مجموعـــــة من الادوية بشكل دائم، مشكلة احتباس المياه داخل الاوعية ما أحدث مشكلات في القلب وعضلته الى غيرها من التعقيدات.

وتكمل بتريسيا وسط خشيتي عليها من اتعاب حنجرتها بكثرة الاسئلة لموضوعي و<استهلاك> الكثير من نفسها فشعرت وكأنني ضنينة عليها مثلها تماما وسألتها:

ــ  وماذا فعلت بعدها؟

- خضعت لعمليات كثيرة، مع <فخت> عميق في رقبتي، يزنّره على الدوام منديل يخفيه، الى أن وصل لمسامع والديّ اللذين لم يفارقاني لحظة وسط شعور بالذنب لا ذنب لهما فيه، ان طبيبا لبنانيا آتيا من كندا بتقنيات حديثة <يجترح المعجزات>. قررا ان يزرعا لي وترا مكان الذي تلف (والذي في عملية لاحقة سوف يتم التخلص منه مع قسم كبير من زلعومها كي يتسع مجرى الهواء وتتنفس بعد مرحلة كادت فيها تختنق فعلا).

انبأني الطبيب بأسف:

- لم نتمكن من انقاذ اوتارك الصوتية وقد اضطررت لاقتطاع قسم من القصبة الهوائية لاستئصال الورم وتوسيع مجرى الهواء ثلاثة مليمترات اضافية... كانت الخيبة كبيرة، كبيرة جدا لا بل ازدادت الحالة سوءا، حتى انني ما عدت استطيع الكلام ابدا. تراوحت مروحة التكهنات بين شلل نصفي لعصب الصوت وامكانية عودته الى ما هنالك. في هذه الفترة المؤلمة شعرت بأنني خرجت من جسدي. لا احد يسمعني ولا اسمع الا صوتي، صوتي الذي كنت قد عولت عليه الكثير يوما وشربت سجائر الـ<جيتان> لأجله حتى يطلع ببحة مثيرة على الهواء...

واستطردت قائلة:

- وصلت لمرحلة فيها الكثير من الألم، ولم اعد فيها انا المعنية. صرت <الاخرى>... صارت الـ<أنا> <هي>... تتقوقع في شرنقتها وتنظر الى ما يجري من حولها، تراقب بصمت كبير احداثا وقرارات لا حول لها فيه ولا قوة. كانت هذه عملية

دفاع عن النفس وحتى اليوم استخدمها في الحالات الحرجة تقول بتريسيا. وبهذه الصيغة، ضمير الغائب <هي>، تقرأون فصول الكتاب اللاحقة.

وتابعت قائلة:

- مررت بالمراحل الخمس المعروفة امام كل صدمة: الانكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، والتقبّل. خضعت لثماني عمليات بينها واحدة في بوسطن، أما الاخيرة في لبنان فأصررت عليها من جانبي وهي تجميلية. العملية في بوسطن كانت بمثابة صفعة كبرى إضافية. وقعها كان كالصاعقة علي، فبعدما باع اهلي قطعة ارض لاجراء العملية المكلفة، وبعدما اجتزت المحيطات متشبثة بحبل الأمل للخضوع لعملية تحت مبضع البروفيسور <مونتغومري> الذائع الصيت عالميا بعملية البلعوم المعروفة باسمه، كانت النتيجة انه لم يستطع توسيع البلعوم، وقد ربط الوتر الصوتي المتبقي كي لا يغلق المجاري الهوائية، فهو <نظف جيدا> لكنه <لم ينجح في ترميم الكثير لأن الجراحين الذين عملوا قبله كانوا جزارين>.

وأردفت قائلة:

 - كانت غرف العناية الفائقة والغرف المعقمة ومباضع الجراحين وصوت الآلات ويوميات المستشفيات قد اصبحت من يومياتي، وزاد من فصول التشويق عليها ما ابتدعته الحرب اللبنانية. فمع خضوعي للبنج الموضعي بعد نقاش مستفيض حتى اقنع طبيبي بالقيام بعملية تجميلية بعد ان كان رفضها لأن لا مجال للتخدير العام في مثل حالتي، دخلت المستشفى التي تقع على خط تماس في بيروت واجريتها لا بل حتى شاركت بها من خلال متابعتي لكافة تفاصيلها على ما يشبه المرآة في سقف غرف العمليات. وما ان انتهيت فرحة بانجاز ما اصررت عليه حتى وجدت نفسي بين الابر والدماء وطعم الدماء في فمي جراء قذيفة انفجرت في احدى طبقات المبنى...

وأضافت:

- كنت في اثناء تلك الفترة، وبعد ان خضعت لتدريبات في النطق والعلاج نفسي فرض علي لكنه اراحني، عدت للعمل مع المخرج سيمون اسمر (تسمية في الكتاب <سامي>) بعدما طلب مني معاونته في برامجه الجديدة. كنا قررنا السهر مع مجموعة من الأصدقاء واذا باتصال هاتفي يقول لي: <لا تتحركي... الوضع خطير لقد اجتاحوا مبنى كازينو لبنان>... حيث كانت الحلقات تصور !

فالى الحرب الاهلية العبثية جاءت <حرب الالغاء> الاكثر عبثية والاكثر وحشية. الحرب هذه بين الاخوة لم تنفلش على المنطقة الغربية التي كانت الحرب الأهلية قد <سلختها> سابقا عن جناحها الشرقي. وهذا ما جعلني اقصدها عند الصديقات تالا، ايمان ومايا لأبعد عن ازيز المدافع واصوات الرصاص. آه من الحروب... فالحرب الاهلية عينها هي التي جعلت من خطيبي السابق <ادي> البوهيمي الخارج من <افلام <الويسترن> في الستينات رافعا شعارات الحب والسلام والموسيقى، والذي وقف الى جانبي في مراحلي الصعبة الكثيرة، يقول لي جملة واحدة بعدما قررت انهاء علاقتنا: <اتمنى لك التوفيق>.

وتسترجع بتريسيا:

 - مع <حرب الالغاء>، وكان القصف على أشده اخبرني <مارك> وهو زميل في محطة الـ< ال بي سي> توطدت العلاقة معه الى ان اصبح صديقا، انه ينوي الهجرة الى كندا. دعمته في خياره وقررت مساعدته ومرافقته حتى الى السفارة في قبرص. انا ايضا تقدمت بطلب وتبعته.

 

عيشي حياتك...!

 

في كندا حزمت حقائبي عدة مرات للعودة، في حين كان الدفء بين مارك وبيني والذي استقبلني فيها يسير نحو علاقتنا ببطء الى ان قررنا الزواج. الزواج؟ كانت فكرة مجنونة، والاكثر جنونا منها فكرة الحمل. الاثنان ممنوعان علي للأسباب الصحية التي ذكرتها. فأنا بالكاد اتنفس. جلت على اهم المستشفيات فيها واصررت على مارك اصطحابي ليكون على دراية تامة بما هو قادم عليه. خلوة الاطباء من اختصاصات مختلفة الذين اجتمعوا لتقييم امكانية زواجي وحملي ان حدث كانت اشبه بمشهد سوريالي، اتخذ فيها رئيسها في النهاية قراره بالقول بعد سلسلة اختبارات لي ولتصرفي في حالات الطوارئ: <يمكن ان تعيشي بشكل طبيعي على ان تنصتي وبشكل دائم الى الاشارات التي يرسلها جسدك... وألا تستهري بها.. هذه توصيتي الوحيدة لك>.

وتابعت قائلة:

- تزوجنا، وبعد ستة اشهر حملت. ازداد وزني 30 كيلوغراما. طبيبي الكندي الذي كان يواكبني قرر رفع المسؤولية عنه وحولني الى دكتور شمالي وهو طبيب لبناني مختص بالحمل ذي المخاطر المرتفعة. كان متفهما وحضر لي غرفة الولادة منذ الشهر السابع. في حملي الثاني كسبت الكثير من الوزن ايضا، وكانت المغامرة تستحق كل ذلك. دافيد ومايا هما حياتي كلها، ولهما اهدي الكتاب، كتاب ولد من رحم معاناة بعيدا عن ان يكون مرثاة انما شهادة حياة وارادة. كنت كتبت فصلين منه قبل سفري على آلة الطباعة <الدكتيلو>، وفي صقيع كندا استعدته لكن على <فلوبي> هذه المرة وصححت فيه ما صححت، ولما عدت الى لبنان شجعني صديق وهو شاعر على الكتابة خاصة بعدما كان يقرأ ما اكتبه على <الفايسبوك> فارسلته له واعجب بما قرأ وطلب مني ان اترجمه الى الانكليزية ايضا.

ــ ألا تجدين انه يشكل مادة دسمة لفيلم عن تجربتك؟

 - بلى. لقد ُطرحت الفكرة وتمت كتابة السيناريو له لكن انتاجه تعرقل.

وننهي مع بتريسيا:

ــ هل شكلت الكتابة لك علاجا للتداوي من جروح الماضي، انت من كانت <تخبئ المها بين الكتب>؟

- احب الكتابة، واشكر الناشرين في <Noir Blanc Et Caetera> اذ قلت لهم انه سيكون صعبا علي اعادة قراءته واجابوا ألا عليك: ارسليه! لم ارده بكاء ولا تحسّرا بل قيامة جديدة وايمانا باننا من نصنع قدرنا. اخي الوحيد ايضا كان داعما كبيرا لي، وكذلك صديقاتي واصدقائي وطبعا اهلي. لقد علمني الصمت الكثير. أمسكت مصيري بيدي وتعلمت تقنية الكلام لكثرة ما قرأت عن حالتي. لم استسغ يوما فكرة مقارنة ملمّتي بغيرها وكثيرا ما قيل لي: <مصيبتك اهون من غيرك> فالمصيبة تكون هي الاكبر لصاحبها مهما كانت... تملكني غضب العيش الطبيعي. تعلمت التحكم بجسدي، وتعلمت الحياة بإيقاع جديد. لم يعد يمكنني صعود الدرج. بات علي ان اعد انفاسي، نبضات قلبي.

وأضافت:

- لا، لم ارفع دعوى على الطبيب الذي سبب كل معاناتي لأنه صديق لأهلي، وبرأيهما هذا لن يعيد صوتي اليّ. رأيته مرة، و تجمّد الدم في عروقي. لم يسألني اي سؤال، ولكنني اكيدة انه تعلم بي الكثير.

 كتاب بتريسيا يستحق القراءة، وهو ليس الوحيد من توقيعها. له اخ روائي خيالي بالفرنسية ايضا <Singulier, Plurielles> تنــــــاولـــت فـــيــــــه العلاقــــــــــــــات الافتراضية ويشتمل على أكثر من قصة حب لكل منها اشكاليتها فواحدة من بطلاته مطلقة واخرى اكبر من زوجها وثالثة تشعر ان زوجها يخونها فيما الحقيقة في موقع آخر. اما كتابها المقبل، فهو <ساتيري> ساخر الأسلوب، ونحن بانتظاره...