مع دخول الشغور في موقع الرئاسة الأولى شهره الرابع، لم تحمل التحركات السياسية الداخلية جديداً، بل تكراراً لمواقف معلنة تؤكد على استمرار الشرخ داخل المكونات السياسية اللبنانية، ما يجعل إمكانية الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضئيلة في المدى المنظور، وبالتالي فإن الجلسة النيابية التي كان الرئيس نبيه بري قد دعا الى عقدها يوم الثلاثاء الماضي 2 أيلول/ سبتمبر الجاري انضمت الى سابقاتها في عدم اكتمال النصاب والتأجيل الى موعد آخر!
وبدا أيضاً ان الاستحقاق الرئاسي تراجع خلال الأسبوعين الماضيين ليتقدم الاهتمام بالملف الأمني بعد أحداث عرسال وتداعياتها، ولاسيما احتجاز العسكريين من الجيش وقوى الأمن الداخلي لدى تنظيم <داعش> و<جبهة النصرة> وما رافق ذلك من <ابتزاز> للدولة اللبنانية وفرض شروط عليها لإطلاق العسكريين، وسط تزايد الحديث عن قتل العسكريين إذا لم تستجب الدولة لشروط خاطفيهم. واللافت في كل ما دار حول مسألة احتجاز العسكريين من ردود فعل وتعليقات وتسريبات، محاولة جهات معينة استعمال قضية العسكريين للانقضاض على القيادة العسكرية عموماً، وقائد الجيش العماد جان قهوجي خصوصاً، ما جعل بعض المراقبين يقيم ربطاً بين <استثمار> مأساة العسكريين في <البازار> الرئاسي المفتوح والذي يشهد تباعاً <صعوداً> لاسم مرشح معين و<احراقاً> لاسم آخر، ثم تنقلب الأدوار فيصبح <الاسم المحترق> في الواجهة من جديد، ويتراجع الاسم الذي كاد أن يصبح رئيساً! وقد أحدثت الحملات على الجيش وقائده انزعاجاً عربياً ودولياً برز من خلال مواقف تبلغها لبنان الأسبوع الماضي بالتزامن مع الحديث عن الدعم العسكري المفتوح للجيش.
ومن مظاهر تراجع الاهتمام الداخلي بالاستحقاق الرئاسي، تركيز الحديث على استحقاق التمديد لمجلس النواب بالتزامن مع فتح باب الترشيح الى الانتخابات النيابية منذ 28 آب/ أغسطس الماضي وحتى 18 أيلول/ سبتمبر الجاري بقرار من وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق، وغياب <مبادرة> رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط الذي سافر في إجازة عائلية الى الخارج، وتوقف اللقاءات <الرئاسية> باستثناء <حركة بلا بركة> لعدد من السياسيين. كذلك كان لافتاً تراجع <حماسة> السفراء الذين كانوا قد نشطوا رئاسياً قبل أسبوعين، وحصر لقاءاتهم في مواضيع أمنية وعسكرية وإبعاد ما حصل في عرسال وضرورة دعم الجيش والقوى الأمنية لمواجهة الإرهاب والإرهابيين!
المحادثات السعودية ـــ الإيرانية في الميزان اللبناني
في غضون ذلك، برزت المشاورات السعودية ـــ الإيرانية بين وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل الذي استقبل نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون العربية حسين أمير عبد اللهيان، في ما بدا عودة الحرارة الى خطوط التواصل بين الرياض وطهران وإن كان العنوان البارز لها مواجهة إرهاب تنظيم <داعش> و<جبهة النصرة>، بعد التقاء القيادتين السعودية والإيرانية على ضرورة التعاون لإبعاد المخاطر الناتجة عن التحركات العسكرية لتنظيم <داعش> لاسيما في سوريا والعراق، وحديثاً في لبنان. وقد تلقف اللبنانيون انتهاء القطيعة بين الرياض وطهران باهتمام بالغ على أمل أن يساعد الحوار بين الجانبين السعودي والإيراني على الإسراع في إيجاد تسوية حول الاستحقاق الرئاسي اللبناني على غرار ما حصل في العراق بعد استبعاد رئيس الحكومة العراقي السابق نوري المالكي والاتفاق على تعيين حيدر العبادي خلفاً له، والشروع في البحث عن التركيبة الحكومية العراقية وحصة الاطراف الفاعلين فيها، لاسيما السعودية وإيران.
غير أن <المتابعة اللبنانية> للحوار السعودي - الإيراني لم تصل الى نتيجة واحدة، إذ راوحت بين فريق متفائل في إمكان التوصل الى اتفاق على <التسوية الرئاسية> اللبنانية، وآخر متشائم لأن الأولوية كانت لموضوع الإرهاب وطرق مكافحته وإبعاد مخاطره عن منطقة الخليج التي تعيش هواجس <التمدد الداعشي> في سوريا والعراق تمهيداً لإقامة <الدولة الإسلامية> الموعودة.
<المتفائلون> بعودة التواصل السعودي ـــ الإيراني يقولون إن <قطار التسويات> في المنطقة انطلق من العراق بعدما أدرك أصحاب القرار في العالم العربي والخارج، انه لا بد من تحرك سريع أمني وسياسي لوضع حد للمخاطر المترتبة على استمرار الفوضى وتجاهل حقيقة ما يجري على الأرض، وعليه أتت التسوية الأولى في العراق بعد تغيير المالكي، وقبول إيراني بشراكة مع السعودية في استكمال موجبات تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، ولذلك كانت بداية الحوار على قاعدة <الشراكة الواقعية> في تقاسم النفوذ في المنطقة، من خلال إنتاج <سلة> تفاهمات تشمل كل المناطق المضطربة سياسياً أو أمنياً بدءاً من اليمن والبحرين والعراق وسوريا... وصولاً الى لبنان. ويضيف <المتفائلون> ان <التنازلات> الإيرانية التي حصلت في العراق لصالح السعودية حرّكت التفاهم بين البلدين على جملة استحقاقات، وأن الانتخابات الرئاسية اللبنانية ستكون واحدة من هذه الاستحقاقات على أن يشمل الحل اللبناني المرتقب التفاهم على التمديد للمجلس النيابي أيضاً، و<شكل> الحكومة الجديدة ومهامها والتفاهم سلفاً على الحد الأدنى من النقاط العالقة لاسيما في ما خص العلاقة مع حزب الله، على أن يبقى موضوع سلاحه الموجه ضد اسرائيل خارج أي أجندة ستُدرج فيها مواضيع البحث.
<الطبخة الرئاسية> على نار قوية؟...
وفي رأي <المتفائلين> ان <الطبخة الرئاسية> وضعت على نار قوية وان شهر أيلول/ سبتمبر الجاري سيكون موعد انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية قبل انتهاء ولاية مجلس النواب ليأتي بعد ذلك التمديد المجلسي من دون اعتراضات جذرية على أساس ضرورة إعطاء الرئيس الجديد فرصة لتشكيل حكومة جديدة والتحضير للانتخابات في ربيع 2015 كأقصى حد. ويستذكر <المتفائلون> كيف التقت المصالح السعودية مع المصالح الإيرانية في <لحظة ما>، الأمر الذي أدى الى ولادة حكومة الرئيس تمام سلام بعد 11 شهراً من المخاض، وكيف ان <المظلة> نفسها السعودية والإيرانية أنتجت خطة أمنية أنهت المواجهات الدامية في طرابلس وضبطت الوضع الأمني في البقاع جزئياً قبل أن تجتاح <داعش> و<جبهة النصرة> بلدة عرسال ويصطدم المسلحون بالجيش المنتشر حول البلدة. ويمكن استطراداً تكرار الأمر نفسه في الاستحقاق الرئاسي من خلال الاتفاق بين الرياض وطهران على المرشح الرئاسي الذي يمكن أن يصل الى قصر بعبدا بالتفاهم مع غالبية المكونات السياسية اللبنانية.
ويرى المتفائلون ان التفاهم السعودي ـــ الإيراني حول الملف الرئاسي <حتمي> لأن لا السعودية قادرة وحدها على إنجاز هذا الاستحقاق و<الإتيان> بالمرشح الذي تدعمه، ولا إيران يمكنها، من خلال حلفائها في لبنان، فرض مرشح واحد يمكن أن تتوافر له غالبية ثلثي أعضاء مجلس النواب لعقد الجلسة الانتخابية، الأمر الذي يعني ان الحوار السعودي ـــ الإيراني هو المدخل الوحيد لحصول الانتخابات، وان القيادتين السعودية والإيرانية اقتنعتا بضرورة البحث في إنضاج <تسوية> لبنانية خلال الأسابيع القليلة المقبلة، علماً ان ثمة من يرى أن أي <تسوية> لا يوافق عليها العماد ميشال عون لن تسير بها طهران وحزب الله وقوى 8 آذار، خصوصاً إذا ما كان الفائز في هذه <التسوية> الرئاسية غير العماد عون... ويتحدث هؤلاء عن <تنازلات> متبادلة يمكن أن تنجز الملف الرئاسي اللبناني.
... أم الأولوية لمكافحة الإرهاب؟
في المقابل، يعتبر <المتشائمون> ان لا انعكاسات إيجابية مباشرة وقريبة للتقارب السعودي ـــ الإيراني على الملف الرئاسي، وان كانت الأحاديث بين الجانبين قد تطرقت بشكل أو بآخر الى تعثر انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية في معرض الحديث عن التأثيرات السلبية للاضطرابات الأمنية التي ارتفع منسوب خطرها بعد أحداث عرسال.
ويقول <المتشائمون> ان الأولوية في التنسيق السعودي ـــ الإيراني أعطيت لمسألة الإرهاب وسبل مكافحته والحد من خطره سواء الذي يهدد العراق أو لبنان أو غيرهما من الدول المجاورة لسوريا، وان ما صدر من تصريحات بعد لقاء الفيصل - عبد اللهيان دلّ على ان التركيز كان على ملف الإرهاب، وان كانت المعطيات تتحدث عن <أبواب مفتوحة أمام كل المواضيع المطروحة>، كذلك كان للأحداث في غزة النصيب الكبير من البحث بعد صدور مواقف خليجية متباينة في مقاربة ملف العدوان الاسرائيلي على غزة.
ودعا <المتشائمون> الى التريث في الرهان على انعكاسات الحوار السعودي ـــ الإيراني رئاسياً، وانتظار عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت خلال الأيام القليلة المقبلة وما يمكن أن يقوم به من مبادرات سياسية معينة، لأن ذلك سيعكس ما دار في المحادثات السعودية ـــ الإيرانية في ما خص الملف اللبناني، علماً ان مصادر في <المستقبل> تحدثت عن <تغيير ملموس> في التعاطي السعودي مع الملفات اللبنانية سجل قبل اللقاء السعودي ـــ الإيراني ومن مظاهره إبقاء السفير السعودي علي عواض عسيري في لبنان وإلغاء قرار نقله الى باكستان، ليكون مقرباً من المستجدات السياسية المتوقعة. ويعتبر هؤلاء <المتشائمون> ان الموضوع اللبناني يحتاج الى مزيد من الوقت وربما الأحداث لينتقل الى موقع متقدم في الحوار السعودي ـــ الإيراني وان ما قاله الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله حول ضرورة <لبننة> الاستحقاق الرئاسي خصوصاً، يصب في هذا الاتجاه لاسيما عندما دعا أيضاً الى عدم الرهان على أن يكون الموضوع اللبناني من ضمن <تسوية> سعودية ـــ إيرانية، لأن اهتمامات كل من الرياض وطهران لم تلامس بعد الوضع السياسي في لبنان، وان كانت قد لامست الوضع الامني، بدليل ان السعودية خصصت مليار دولار لدعم الجيش والقوى الأمنية في مكافحة الإرهاب والمسلحين في وقت كان يمكن ان تضغط سياسياً على حلفائها للقبول بـ<تسوية> رئاسية تتفاهم عليها مع إيران مباشرة ومع حزب الله وسوريا ضمناً، لاسيما وأن طهران ليست في وارد تجاهل الرأي السوري في هوية الرئيس اللبناني المقبل، وان كل ما يقال عن ان دمشق لا رأي لها في هوية الرئيس العتيد هو كلام غير دقيق، لأن طهران راغبة في إعطاء دمشق <حصة> في التسوية الرئاسية متى حصلت، إضافة الى انها تترك لحزب الله مساحة واسعة للتفاهم مع حليفه العماد ميشال عون على اسم الرئيس، سواء كان العماد عون نفسه أو من يوافق على ترشيحه. من هنا، يضيف <المتشائمون> ان المشهد الرئاسي يبدو في الأجندة السعودية ـــ الإيرانية معقداً ويحتاج الى المزيد من الوقت لـ<حلحلته>.
سعود الفيصل: الحل في لبنان
وينسب هؤلاء الى أحد المرشحين الرئاسيين القريب من وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل قوله ان الرياض لا تزال تتحدث ـــ بعد لقاء الفيصل ـــ عبد اللهيان ـــ عن أن الانشغالات الإقليمية بالحرائق التي تلتهم المنطقة وسبل مواجهتها وتطويق تداعياتها، تبقي الملف الرئاسي اللبناني شأناً تفصيلياً يخص القيادات اللبنانية التي يُفترض أن تجد المخرج المناسب من خلال التوافق على رئيس جديد للجمهورية يكون <صُنع في لبنان>، وان ثمة شخصيات رسمية وسياسية مؤهلة لقيادة حوار لحل أزمة الاستحقاق الرئاسي منها الرئيس نبيه بري والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط، إضافة الى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وما لم تلتقِ القيادات اللبنانية على <تفاهم ما>، فإن كل ما تردد عن تحديد تواريخ لموعد الانتخابات الرئاسية مجرد تكهنات لأن الموعد الثابت لن يتحدد إلا بعد التفاهم على الرئيس والحكومة المقبلة وقانون الانتخابات وهذه مهمات يقول السعوديون إنها لبنانية بامتياز!
وبين <المتفائلين> بتجدد اللقاءات السعودية ـــ الإيرانية، و<المتشائمين> بتوصلها الى اتفاق حول الرئيس المقبل للبنان، يرى ديبلوماسيون ان لقاء سعود الفيصل مع عبد اللهيان هو خطوة أولى في مسيرة طويلة لاسيما وان الرياض وطهران تؤمنان بسياسة <النفس الطويل> في التفاوض، فكيف إذا كانت المواضيع قيد البحث معقدة ومتشعبة ومرتبطة بمستقبل دول المنطقة الذي لا يصنعه الحوار السعودي ـــ الإيراني وحده، بل للدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الدور البارز في تقرير مصير هذه الدول وشعوبها، ولا يبدو أن واشنطن وموسكو قررتا التخلي عن هذا الدور أو <تجييره> لهذه الدولة الإقليمية أو تلك!