كل المعطيات تدل على ان الاتفاق اللبناني الاميركي على بدء مفاوضات ترسيم الحدود البحرية في الجنوب، سيوضع موضع التنفيذ خـــلال الاسابيع القليلة المقبلة في انتظار ان يقرر "الراعي" الاميركي ان التحضيرات انتهت ولا بد من جلوس الجانبين اللبناني والاسرائيلي على طاولة واحدة برعاية اميركية وحضور دولي يتمثل بقيادة القوات الدولية العاملة في الجنوب والتــي سوف يستضيف مقــر قيادتها في النـــاقورة الجـــانبين اللبناني والاسرائيلــي و"الراعي" الاميركي!.
الاتفاق اللبناني- الاميركي الذي تم التوصل اليه هو اتفاق على الاطار الذي ستتم على اساسه عملية التفاوض، وهو الاطار الذي وضعه لبنان كشرط اساسي للقبول بالمفاوضات وأهمها رفض فصل الحدود البرية عن البحرية، ورفض التفاوض المباشر مع العدو الاسرائيلي بخلاف ما كانت تريد الولايات المتحدة واسرائيل. والجديد في هذا الاتفاق الذي لا يزال ينتظر موافقة رسمية علنية بعد موافقة مبدئية ابلغت الى الجانب الاميركي- انه ينص على ان تكون المفاوضات امتداداً للجنة "تفاهم نيسان 1996" وللاجتماعات الثلاثية اللبنانية والاممية والاسرائيلية التي تنظر عادة في الخروق البرية والتي تجتمع دورياً في الناقورة.
ووفق المعلومات المتوافرة، فإن اجتماعات التفاوض المرتقبة متى اتى القرار الاسرائيلي النهائي، ستكون في مكتب تابع لــ "اليونيفيل" في الناقورة برعاية الامم المتحدة وحضور مندوب اميركي لـــه صفة "الوسيط والمسهل" والجلوس سيكــــون في قاعـــة واحــدة في مقــر "اليونيفيل" ويفصل بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي ممثل الامين العام للامم المتحدة في لبنان "يان كوبيتش" وقائد "اليونيفيل" من جهة، والمندوب الاميركي من الجهة الاخرى.
لا حديث متبادل سيحصل بين اعضاء الوفدين اللبناني والاسرائيلي، بل الكلام سيكون موجهاً دائماً الى الفريق الاممي او الوسيط الاميركي، ويأتي الرد من خلالهما. وسيكون الى جانب كل فريق في التفاوض مجموعة من الخبراء في ملف الترسيم. وتأمل مصادر ديبلوماسية ان تنجح الاتصالات الاميركية مع اسرائيل لاطلاق عملية التفاوض كي لا يتكرر ما حصل قبل اربع سنوات حين وضعت اسس الاتفاق مع نهاية عهد الرئيس الاميركي "باراك اوباما" وقبيل الانتخابات الرئاسية التي حملت "دونالد ترامب" الى البيت الابيض، لكن عملية التفاوض لم تنطلق لأسباب اميركية واسرائيلية لم يعلن عنها صراحة.
نقاط الخلاف
مصادر لبنانية متابعة تقول إن الخلاف مع اسرائيل قائم على الجزء الجنوبي من المنطقة البحرية الاقتصادية اللبنانية، وتبلغ مساحته نحو 860 كيلومتراً مربعاً في البحر (نتيجة الاطماع الاسرائيلية، كما نتيجة خطأ ارتكبه لبنان في ترسيم الحدود البحرية مع قبرص) اضافة الى 13 نقطة "تحفظ" على طول الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة. وعلى مدى سنوات، طالبت اسرائيل مدعومة من واشنطن بفصل ترسيم الحدود بين البر والبحر. كانت تطالب بترسيم الحدود البحرية، ثم الانتقال الى الحدود البرية، واحياناً طالب الاميركيون بترسيم الحدود البرية حصراً، دون البحرية، اما لبنان فكان يتعامل مع الحدود البحرية بصفتها استمرار للحدود البرية وان اي تعديل في البر سيؤدي الى تغيير كبير في البحر. تشرح المصادر الامر بمثل عن النقطة الحدودية المعروفة بــ B1 الواقعة على الشاطىء عند رأس الناقورة جنوباً، حاول العدو اجراء تعديلات عليها عبر دفع الحدود لنحو خمسين متراً شمالاً، بذرائع امنية، وباغراء منح لبنان مساحة اكبر في منطقة اخرى "متنازع عليها" رفض لبنان الامر لسببين: الاول هو عدم التفريط بمساحة لا نزاع عليها، والثاني هو ان التعديل ولو لمتر واحد شمالاً يعني حتماً خسارة لبنان عشرات الكيلومترات المربعة في البحر.
وتوالت بعد ذلك اقتراحات من موفدين اميركيين ابرزهم "فريديرك هوف" و"آموس هوكشتاين" ثم السفير "ديفيد ساترفيلد"، لكن الموقف اللبناني ظل على حاله علماً ان من بين الاقتراحات التي قدمت ابقاء المنطقة المتنازع عليها على ما هي حالياً وتكليف شركة متخصصة استخراج النفط والغاز والعمل فيها على ان توضع الارباح في صندوق وتقسم لاحقاً باتفاق بين لبنان واسرائيل برعاية اميركية!. لكن لبنان رفض هذا العرض لسببين، الاول مبدئي يتصل برفض اي تعاون مع اسرائيل، والثاني تقني يرتبط باستحالة تقسيم الارباح بهذه الصورة قبل ترسيم الحدود.
ومرت سنوات قبل ان يعود الملف الى الواجهة وفق الشروط التي وردت آنفا وعرفت بــ "الاطار" الذي تبرز اهميته في انه لا يتيح لاسرائيل تحقيق اي هدف من اهدافها، ذلك انها فشلت في جعل المفاوضات مباشرة لئلا تستثمر في اطار "التطبيع"، كما الزم الاتفاق على الاميركيين والاسرائيليين تلازم الترسيم والرعاية الاممية ما يعني ان لا تجزئة فإما الحصول على كل الحقوق او لا تفاوض.
التقاء المصالح
وفي هذا السياق تؤكد المصادر اللبنانية المعنية بالمفاوضات ان ما سيتم التوصل اليه ليس اتفاق هدنة بل ترسيم للحدود يكرس حق لبنان في المنطقة التي يراها العدو متنازعاً عليها، وهو ما سينعكس ايجاباً على عمل الشركات التي اتت للتنقيب عن النفط. لأن ترسيم الحدود يعني تأمين المنطقة بشكل يتيح للشركات العمل في النقاط المحاذية للحدود من دون الشعور بالخطر. اما في حال بقاء الوضع كما هو عليه فذلك يعني ان الشركات ستبقى بعيدة عن الحدود ولن تغامر بالتنقيب في بلوكات حدودية. وقالت المصادر ان المفاوضات ستبدأ فور الاعلان عن اتفاق الاطار. والسؤال هل يحصل ذلك قبل الانتخابات الاميركية؟ وتجيب المصادر ان الرئيس الاميركي قد يكون بحاجة الى تحقيق مثل هذا الانجاز ليستثمره في المعركة الانتخابية الرئاسية، لكن لبنان ينطلق من قبوله بهدف الوصول الى النتائج التي يريدها لتحقيق المكاسب التي كان يتطلع اليها للاستفادة من ثروته النفطية والغازية. اما مصلحة اسرائيل فتكمن بسعيها الدائم الى حفظ الامن على الحدود البحرية من دون اي ارتباط مع استخراجها الغاز والنفط. ويريد لبنان تثبيت حقوقه والسماح لشركات التنقيب عن النفط والغاز بالعمل في المنطقة المحاذية للحدود الجنوبية لاسيما وأنها منطقة واعدة بوجود مكامن كبيرة من الغاز الطبيعي فيها، في المقابل تريد اسرائيل ان تنزع فتيل التوتر الامني من البحر كي تتمكن من التنقيب قرب حدودها من دون اي خشية من اندلاع اي نزاع مع لبنان يمكن ان يتطور ليصبح نزاعاً امنياً.
وفيما ينتظر ان يتحرك الملف مع مجيء السفير "ديفيد شنكر" الى المنطقة، تتوقع مصادر متابعة ان يكون التفاوض على الترسيم اصعب بكثير من التفاوض على الاطار، خارجياً وداخلياً، فاسرائيل لن تقبل بسهولة التنازل للبنان عن حقه في المنطقة الاقتصادية من دون تحصيل اثمان امنية وسياسية، فيما ستدعمها الولايات المتحدة من خلال زيادة الضغط على لبنان وفرض العقوبات واطباق الحصار. والاخطر ان بامكان هذا الامر ان ينسحب على الداخل فيخلق صراعاً حول الملف، بحيث تؤثر العقوبات او التهديد بها على مكونات سياسية فتضغط في اتجاه تقديم التنازلات من اجل التسريع في الحل، ومسايرة واشنطن لحماية نفسها من مكتب الخزانة الاميركية، اذا لم يخلف الاميركيون بوعدهم هذه المرة وينقل عن الرئيس نبيه بري "ان المعركة ستكون قد بدأت الآن لكن لا مع العدو حصراً، بل في الداخل اللبناني ايضاً".