بقلم عبير أنطون
[caption id="attachment_83516" align="alignleft" width="474"] التجانس في الاختلاف.[/caption]بكثير من الحب لبيروت، قدّم المؤلف الموسيقي والموزع جان ماري رياشي أغنيته "بيروت أمي" التي كتب كلماتها الشاعر أحمد ماضي، عشية عيد الاستقلال. العنوان يختصر علاقة رياشي وكل من شارك في الأغنية والكليب المشاعر التي يبادلونها لبيروت، وهي اليوم أم جريحة، تتحامل على أوجاعها لتقوم وتحضن أبناءها من جديد .
تضرّرُ مطعمين له في قلب منطقة الجميزة ورحيل اثنين من روادهما في تلك اللحظة المشؤومة، كانا ثقيلي الوطأة على جان ماري الفنان المرهف الذي وبكثير من الإصرار، يعود لينهض ويعمر ما تهدّم، لأن بيروت لا تستحق إلا الجمال، وأبناء هذا الوطن، في الكثير منهم، صنّاع جمال، وهنا قوة لبنان برأي جان ماري .
الأغنية الدافئة ليست بدون أنياب، تمر فيها الرسائل الى أولئك الحاقدين، المبغضين لكل قيمة من قيم الحق والخير والجمال، وتنذرهم كلماتها بأنهم لن يبقوا أسياد اللعبة فتقول "رح شيلِك من إيدن ..وعد... يا بيروت" في وطن ينتظره "مستقبل عظيم" وهذا ايضاً برأي جان ماري .
فكيف ولدت الأغنية في ظروف صعبة ؟ ما الذي كشفه جان ماري عن مشروع جديد وقّع العقد بشأنه يوم حديثنا اليه، وماذا كشف عن لقائه بالسيدة فيروز يوم دخلت استوديو التسجيل الخاص به؟
في لقاء "الأفكار" كل التفاصيل بدءاً من السؤال :
- هل جاءت الأغنية على اثر انفجار المرفأ في الرابع من آب والضرر الذي نتج؟
نعم. لقد لحّنت الأغنية عقب الانفجار، إلا أنني ارغب دائماً في توثيق كل حدث نمرّ به في بلدنا بأغنية تعبّر عن المرحلة، وهذا ما كنت بدأته منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري في العام 2005 وقدّمت حينها أغنية "لا ما خلصت الحكاية"، ومن ثم في 2014 ومع المشاكل الاقتصادية التي عصفت بنا كانت أغنية "انا رايح ع دبي"، لتأتي من بعدها أغنية "طار البلد" (مع النجم راغب علامة). أنا اليوم أعبّر عن المرحلة الحالية من خلال اغنية "بيروت أمي". كنا سابقاً عزمنا على جمع الفنانين الشباب وتقديم حفلة في مار مخايل في الجميزة، بحيث ندعو الناس للاستمرار في الحياة على الرغم من كل شيء، الا انه ، وبسبب جائحة كورونا لم نستطع تنفيذ هذا المشروع، وربما يمكننا إحياءه في شهر ديسمبر، من خلال "مشروع بيروت مدينة الحياة" "Beirut city of life" فنذكّر الناس كيف كنا نعيش منذ فترة وجيزة. نحن لا نفتش عن بيروت قبل العام 1975 بل قبل سنة وسنة ونصف السنة، وكنا نعيش حياتنا، كل منا في عمله، مع أحلام كبيرة وسط اقتناع بأنه رويداً رويداً تتغير الامور ويمكننا تحقيقها، الى ان حدث ما حدث!
[caption id="attachment_83517" align="alignleft" width="483"] أنا وخيي منعمرها.[/caption]- الأغنية لاقت صدى واسعاً مذ طرحت. إلام يعود سبب نجاحها وانتشارها وقد تميزت بابتعادها عن اية صور او مشاهد عنيفة او مأساويّة؟
نجاحها يعود الى انها بسيطة وصادقة. الأصوات فيها جديدة، ولم اتّكل على اسماء كبيرة لايصالها. إنّهم مجموعة شباب وصبايا يجمعهم الـ "هارموني" والتناسق فيما بينهم، والجديد في اللحن يكمن في "التوليفة الصوتية" (Arrangement vocal) التي تختلف عن أغنية اخرى فيها مزج بين تقنيتي الغناء الشرقي والغربي، وقد أدخلت العجم إلى لحن الأغنية. وبين من غنّوا فإن مانيل ملاط ويمان الحاج معروفتان بالغناء الغربي، وكذلك انطوني من فريق ادونيس، وانضم ميشال شلهوب الى كاظم شمص الذي يغني الشرقي الجميل كما لين حايك (الفائزة في برنامج ذي فويس كيدز 2016)، وكل هذا المزيج شكّل "نكهة" مميزة، فضلاً طبعاً عن الكلمات الجميلة التي كتبها أحمد ماضي. واعتقد ان تشبيه بيروت بالعائلة، بدءأ من الأم ثم الأب والأخ والأخت فيه رمزية ولا أرقى. أما لناحية الصور وغياب اي مشاهد للعنف والدمار والدماء فيها، ولا حتى اي اشارة للبكاء، فإنه امر طلبته من مخرج الكليب داني صليبا. لا صور انفجار ولا زجاج متناثر ولا جرحى او ضحايا. أردنا التركيز على الفرح والإيجابية والضحكة، ولا يمكننا الا ان نتأمل فلا نبقى مقفلين على أنفسنا.
- عادة ما تتصل بالشاعر نزار فرنسيس لأغانيك التي ترتبط بحدث ما. لماذا احمد ماضي في هذه الاغنية؟
جاء ذلك بالكثير من العفوية، وهي المرة الاولى التي أقدّم فيها اغنية وطنية او اجتماعية من دون نزار. صودف أن كان احمد في الاستوديو عندي بعد الانفجار بأسبوع وكنت لا أزال "مشوّشا" و"مضروباً على راسي". قلت له أريد ان اقدم أغنية على اثر ما حدث، فأجابني: انا ارسل لك النص. أحببت نخوته، وأول ما قرأت النص، طلع اللحن . ما كتبه كان جميلاً فعلاً ومعبّراً . إن تشبيه بيروت بالعائلة يمسّ كل واحد منا. فبيروت هي امي ، وهي اختي التي تقيم خارج لبنان وتعود الى بيروت عند كل عيد و كل صيف. والأغنية أيضا تحمل رسالة . فبيروت لنا، ويجب ان تعيدوها لنا، ان تردّوها لأهلها المحبّين الخلاّقين.. من هنا تسمعون في كلماتها، نحنا الحب .. وانتو الحقد والبغض.. هي رسالة تصيب كل من لا يحب بيروت.
- وهل منهم من سيسمع برأيك؟
المهم أن نبقى على النخوة والشجاعة واعلاء الصوت بأن في هذا البلد ناساً تحب الحياة، وتحب العيش بجمال، وهذا اهم من الحياة نفسها. ونحن في لبنان شاطرون في تقديم الأمور الجميلة في البيوت والمأكولات والتصاميم والازياء والفنون، وهذا ما ننجح فيه. فلبنان هو بأشخاصه، وابتكارهم وابداعهم، وهنا رأسماله ، وليس بالمناظر الطبيعية والحلوة فقط.
[caption id="attachment_83518" align="alignleft" width="479"] جان ماري رياشي رأسمال لبنان هو إبداع ابنائه[/caption]- ما كانت صعوبات التصوير؟
الصعوبة الأولى والأكبر شكّلتها "كورونا". أنا لا اعرف ان اقدّم ما هو " نص نص" على الرغم من أننا نمر بظروف اقتصادية صعبة وضاغطة وهذا فيديو انتاجه ضخم لأننا أصررنا أيضاً على فيديو كليب مرتّب! الكل خضع لفحوص الـ " بي سي ار"، وهذا لوحده تطلّب ميزانية. كذلك فإن مدير المسرح كان يقظاً جداً بشأن الكمامات ووضعها، واشتغلنا بشكل ذكي ان تكون العائلات جنب بعضها البعض، كما اننا استعنّا بشركة تعقيم معروفة واكبتنا طوال ايام التصوير في الكراسي والمسرح ومختلف الاماكن، حرصاً على سلامتنا.
- لم يظهر أي أثر للجائحة في الكليب..
تماماً، لأننا نستعيد فيه حياتنا وعيشنا قبل كل هذه الفترة.
- وهل كان جمع الفنانين صعباً؟
لم يكن سهلاً لناحية ايجاد التجانس بين التنوّع الذي يشكّلونه، خاصة وان الأصوات المشاركة لا تشبه انما تكمل بعضها، ولو أنني أتيت بأصوات تشبه بعضها لما كانت افضت الى هذه النتيجة.
- ماذاعن اطلاق الاغنية وأدائها بشكل مباشر في بيروت، هل سيكون ذلك من ضمن حملة معينة؟
مذ بدأت بالترويج لاطلاق الأغنية اتصلت بي مجموعة من المتضررين مما جرى في بيروت في أشغالهم او مطاعم وغيرها من الاستثمارات، وقد شكلوا مبادرة "بيروت سيتي أوف لايڤ - بيروت مدينة الحياة" التي ترعاها وتنظمها نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي، وشركة "ستروبيري"، واعتبروا الاغنية بمثابة الاغنية الرسمية للحملة، على ان يجري تقديمها بشكل مباشر في ليلة من ضمن احتفاليات "بيروت سيتي اوف لايف" في ديسمبر لترافق شهر الأعياد بعد الاعلان عن انتهاء الاقفال العام بسبب كورونا ، وسعدت بأنّ الأغنية عززت الدافع لدى المجموعة.
والجيران أيضاً...
- في الكليب أجيال مختلفة، فنشاهد المغنين وأهلهمّ، ومن ناحيتك فإن عائلتك الصغيرة شاركت ايضا وتعرفنا اليها من خلاله. ماذا تحدثنا عن هذه المشاركة ؟
فعلاً فمن تشاهدونهم في الكليب هم اهالي الفنانين المشاركين . من ناحيتي، لقد لحّنت الاغنية في البيت عقب الانفجار ومع الاقفال العام بسبب الجائحة. ولمّا الحّن في البيت فإن العائلة كلها تحفظها، لأنني أعجن اللحن الى حين اقتنع وأتشبع أنا منه ، حتى إن الجيران يحفظونه (يقول جان ماري ضاحكاً). بالعادة لا احب أن ادخل زوجتي كارن ولا عائلتي في عملي، الا ان ما قدمته لا أضعه في خانة العمل. فأنا كأب اقضي الوقت مع عائلتي في فراغي ونلعب معاً وهذا ما صورناه ...قلت لهم "فلنصور ما نقوم به عادة".
– في أغنيتها "بيروت الأنثى" توجهت نانسي عجرم ايضاً في الفيديو كليب المرافق الى معنى العائلة وجمعتِها في غنائها عن المدينة. هل هو الدفء الجامع بين صورة العائلة وصورة المدينة الحاضنة والجامعة؟
بالتأكيد. والعائلة هي السبب الرئيسي لكثيرين حتى يستمروا في البلد .فمن بقي هو بسبب العائلة وليس لاي سبب آخر.
- أين كنت لحظة الانفجار، واي ضرر لحق بك؟
كنت في الاستوديو، اما المطعمان اللذان أسستهما في الجميزة فقد تضررا تقريباً بالكامل، الاول تسعين في المئة والثاني تهدّم كلياً، ويتطلّب اعادة بنائه من جديد، وقد بدأت ذلك بمجهود خاص فلا مساعدة ولا شركة تأمين ولا جهة رسمية تعين او تدعم... بعض الجمعيات غير الرسمية ساعدت من ناحيتها في المجال الذي تستطيعه. نصيبنا في هذا البلد أن نعيد اعمار ما سبق وبنيناه بعرق جبيننا.
[caption id="attachment_83521" align="alignleft" width="375"] جان ماري رياشي مشاركاً في الكليب.[/caption]- والأموال التي قيل انها لدعم اعادة الابنية التراثية الى سابق عهدها، الم تصل صوبكم؟
"ولا حدا"،علماً انني في بناية تراثية يفوق عمرها المئة والعشرين عاماً، وكنت رمّمتها لما قررت افتتاح المطعم لنحافظ على جمالها وهيكلها. البناية تصدّعت ونعمل على إعادة ترميمها لنفتح ابوابنا من جديد. لن نتأخر لنعود. اتينا بالخبراء ووضعنا التقارير وما تتطلبه أمورالتأمين وغيرها ولم نصل الى نتيجة. لدينا خمسون عائلة تعتاش من هذا الاستثمار، وهي من كل لبنان، ولن نتركها، وسنعود ونقف واياهم من جديد.
- بعد كل ما حصل، والأسوا منه قطع خيوط الأمل بفرج قريب ينذرنا بشؤمه جميع المسؤولين، هل ما زلت على ايمانك بقيامة لبنان؟
لو أردت الاستماع الى الآراء التي تنعتني بالجنون لمّا يعرفون باستثماري في لبنان لما كنت اقدمت على اية خطوة. اليوم أؤسس لمطاعم خارج لبنان في مصر وفي السعودية. منذ بدأت ما مررنا بسنة على خير في لبنان، لكنني في المقابل أقول إن لم اقدم على ذلك ابقى في مكاني. "أُختير" وأرحل عن هذه الدنيا وأنا أنتظر. اليوم تحديداً وقّعت على عقد توسيع الاستوديو الخاص بي هنا في لبنان ليشمل غرفة خاصة بميكساج الافلام.
- وهل من عمل جديد لعيد الميلاد الجديد؟
لم أشبع من البوم "كستنا" بعد. لم أملّ منه ولم يضح قديماً. اشتاق له جداً في كل سنة، ولا تزال اغانيه هي الاكثر انتشاراً بعد اغاني السيدة فيروز الميلادية.
-السيدة فيروز زارتك في هذا الاستوديو صحيح؟
لا ارغب بالتكلم عن ذلك وافضل ان ابقيه خاصاً. نعم اتت السيدة فيروز الى الاستوديو، وبناء على طلب منها أخليناه ، وسجلنا تراتيل الجمعة العظيمة وآلام السيد المسيح. رجوتها بأن التقط معها صورة ولم اوفّق، وهي لحظات لا انساها ، حتى ان ذاك الشعور بالرهبة استعيده لما اتحدث عن ذلك.
- ولم تشعر به امام اي فنان آخر، وانت تعاملت مع ارفع الاسماء من حول الوطن العربي ؟
على الاطلاق... ليس تجاه اي فنان آخر.
ومتى كان هذا اللقاء؟
منذ حوالي السبع سنوات .
- ما كلمتك الاخيرة الآن؟
سوف ابقى اشتغل في الموسيقى. هذا ما أتقنه. والموسيقى صورة عن المجتمع. وسوف نقدم الصورة الأحلى. هناك "موسيقى" بشعة، وهي صورة عن مجتمع موجود، لكننا سنبرهن بأننا على قيد الحياة، ونحن نستحقّها.
- واقعياً، وفي ظل ما نمر به،هل عندك أمل فعلي في لبنان؟
نعم، وأمل كبير جداً. اذا مرت هذه المرحلة على خير، وهي مرحلة صعبة بكل تأكيد، فسيكون للبنان مستقبل فظيع!