بقلم وليد عوض
ذات ليلة من مطلع عام 1945 كان رئيس وزراء بريطانيا <ونستون تشرشل> ينزل ضيفاً على الجناح الرئاسي في البيت الأبيض الأميركي، حين خرج من الحمام عارياً، و<ربي كما خلقتني>، عندما فوجئ أمامه بالرئيس الأميركي <فرانكلين روزفلت> شريكه في حرب الحلفاء، ولما لاحظ عليه بعض الارتباك قال له: <يا سيدي الرئيس ليس عند انكلترا ما... تخفيه>!
ويبدو أن الرئيس الأميركي <باراك أوباما> لم يعرف بهذه الواقعة في البيت الأبيض، بدليل أنه يخفي الكثير عن حلفائه في التحالف الدولي ضد <داعش> وفي المفاوضات مع إيران حول الملف النووي.
وساعة الصفر في المصارحة الأميركية لحلفائها دقت ليل الثلاثاء الماضي من <لوزان>، حيث جرى تعديل برامج بعض كبار الزوار مثل وزير الخارجية الأميركية <جون كيري> الذي صرف النظر عن رحلة من <لوزان> الى واشنطن للمشاركة في إحياء ذكرى السناتور <ادوارد كينيدي>. كذلك صرف وزير خارجية فرنسا <لوران فابيوس> النظر عن العودة الى باريس، واتصل بالمستشارة الألمانية <أنجيلا ميركل> تليفونياً لتكون أول من يزف إليها خبر الاتفاق النووي مبدئياً.
ولكن الحدث الذي خطف بكل ما فيه من تحالف وجدية في القرار وتصويب على الأحداث، كان <عاصفة الحزم> التي تولى أخذ القرار فيها الملك سلمان بن عبد العزيز، واستبقها بمزيد من التحضيرات التي بقيت طي الكتمان. و<عاصفة الحزم> التي استهدفت معاقل الحوثيين في اليمن، كانت تحتاج الى الضرورات الآتية:
ــ أولاً: ما يجري في اليمن، من مظاهر انقلابية ضد رئيس السلطة الشرعية الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، وشحن للأسلحة الى الحوثيين في طائرات إيرانية آتية من طهران، خطر يتهدد البيت الخليجي برمته فلا تتكرر مقولة الثور الأبيض الذي قال: <أكلت يوم أكل الثور الأسود>، وهذا استدعى بطبيعة الحال استنفاراً للاتصالات الديبلوماسية مع أهل البيت الخليجي، فانضموا كلهم الى <عاصفة الحزم> بكل امكاناتهم القتالية واللوجستية والمالية باستثناء سلطنة عمان التي لا تريد إثارة أزمة مع جارتها إيران، وإبقاء نفسها خط مصالحة في الآتي من الأيام بين إيران ومجلس التعاون الخليجي، وهو ما أشار إليه الرئيس نبيه بري داعياً الى أن تكون سلطنة عمان أرض المصالحة.
ــ ثانياً: معركة <عاصفة الحزم> أزالت كل خلاف في البيت الخليجي ذهاباً من انضمام الصقر القطري الى هذه العاصفة، وعدم بقائه خارج السرب. ولا يبقى إلا رأبالصدع في العلاقات بين مصر وقطر بعدما احتضنت الدولة القطرية الاخوان المسلمين بدءاً من الشيخ يوسف القرضاوي، وسمحت لهم بشن حملات مأجورة ضد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وقيام قناة <الجزيرة> القطرية بنقل تغريدات الاخوان المسلمين، وزادت الفجوة بذلك بين مصر وقطر، بحيث أعرض الرئيس عبد الفتاح السيسي في منتصف الشهر الماضي عن لقاء أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الذي كان يؤدي مناسك العمرة.
ــ ثالثاً: لقد أحاط الملك سلمان بن عبد العزيز خطة <عاصفة الحزم> بزنار عسكري دولي، فانضمت الى هذه <العاصفة> الولايات المتحدة وانكلترا وألمانيا وايطاليا وفرنسا، وحتى كندا. وكان ذلك أقل ما يمكن من رد جميل بعد مشاركة السعودية والكويت والإمارات وقطر في التحالف الدولي ضد <داعش> في العراق.
الحريري هدهد المعركة مع تركيا
وكان الملك سلمان يريد أن يوسع دائرة التحالف ضد الحوثيين في اليمن بحيث تشمل تركيا، مع ما لتركيا مؤخراً من علاقات اقتصادية وجمهورية إيران. ولكن المحاولة لا تضر، وكلما اتسعت دائرة التحالف، كلما توفرت لخطة <عاصفة الحزم> فرص المزيد من النجاح. وتعالَ يا رئيس وزراء لبنان السابق سعد الدين الحريري، صديق الرئيس التركي <رجب طيب أردوغان> وكنْ الهدهد الذي يرسله البيت الخليجي الى أنقرة، لدخول تركيا حلقة المؤازرة، وعاد الرئيس الحريري الى الرياض وهو يحمل وعداً من <أردوغان> بتقديم كل ما أمكن من مساعدات لوجستية لحرب <عاصفة الحزم>. وهذا بالطبع لن يكون برداً وسلاماً على إيران التي نزلت بقضها وقضيضها الى جانب الحوثيين في اليمن. وكان الغضب واضحاً في آخر اطلالة لأمين عام حزب الله حسن نصر الله حليف إيران، واطلاقه حملة التجني على المملكة السعودية والزعم بأنها هي التي تمنع انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وقد فتح السيد حسن نصر الله بهذا الخطاب شرخاً مع شريحة واسعة من اللبنانيين، ولاسيما أولئك العاملين في المملكة السعودية والمحاطين بأعلى درجات الرعاية.
وحدها روسيا بقيت خارج هذا التحالف ضد الحوثيين، واكتفى الرئيس الروسي <فلاديمير بوتين> بالدعوة الى إطفاء الأزمات في الشرق الأوسط، فجاءه الرد من مؤتمر صحفي في شرم الشيخ لوزير الخارجية السعودية الأمير سعود الفيصل حين قال له إن إطفاء أزمات الشرق الأوسط يكون من سوريا التي تمدها موسكو بالسلاح المدمر لمئات آلاف السوريين الأبرياء.
إنقاذ لليمن وإنقاذ للجامعة العربية
وجاءت <عاصفة الحزم> لتلعب كذلك دوراً سياسياً في حياة الجامعة العربية في عيد تأسيسها السادس والستين. فالجامعة بسبب خلافاتها السابقة على عدة جبهات، كادت تفقد ثقة المواطن العربي، إن لم تكن قد فقدتها، وأصبحت مؤسسة مترهلة لا تحاكي الربيع العربي، رغم أن أمينها العام يحمل اسم نبيل العربي. وقد مرت عليها أحداث المنطقة مر السحاب، فلا أبلت بلاءً حسناً في سوريا، ولا أمسكت بمفاصل الحل في ليبيا، ولا أبعدت عن العراق كأس الدم النازف يومياً، وأخيراً لم تلتمس حلول الانقاذ في اليمن، فبدا هذا البلد الذي يسمى بالبلد السعيد أتعس البلدان التي خلقها الله على الأرض، فجاءت <عاصفة الحزم> التي أطلقها الملك سلمان بن عبد العزيز في التصدي لمحاولة الانقلاب الحوثية إنقاذاً للجامعة العربية نفسها، وجعلها تسترد أنفاسها في مرحلة مصيرية من تاريخ العرب. فكانت قمة الجامعة في شرم الشيخ الرافعة المطلوبة لسمعة الجامعة بعدما قصرت عن دورها التاريخي الذي بشر به مؤتمر أنشاص في الاسكندرية ربيع عام 1945.
ومنذ العام 1945 تعاقب على الجامعة عدة أمناء عامين بدءاً من وزير الخارجية المصرية عبد الرحمن عزام، وظهر أمناء عامون حاولوا أن يحفروا الجبل بإبرة، مثل الدكتور عصمت عبد المجيد بطل مفاوضات طابا أواخر السبعينات، وعمرو موسى العقل الدستوري المنظم، وكان عذرهم في التقصير ان الجامعة كانت جامعة للخلافات العربية. إلا ان سلاح الموقف كان يخترق أحياناً هذا الجمود أو الشرود عن القضايا العامة. ومن محاضر الجامعة يمكن اخراج ذلك الموقف التصادمي عام 1945 بين وزير الخارجية اللبناني هنري فرعون في حكومة الرئيس عبد الحميد كرامي ووزير خارجية العراق نوري السعيد. فقد وقف نوري السعيد الى جانب أخذ القرارات بالأكثرية، أي ان أصوات 12 مندوباً باتت تكفي لإصدار أي قرار، وعلى الباقين من معارضين أو ممتنعين عن التصويت أن يلتزموا بقرار الأكثرية.
فما الذي حصل؟
اعترض وزير خارجية لبنان هنري فرعون على أخذ القرارات بالأكثرية، وطلب أن يكون القرار بالاجماع، فاعترض نوري السعيد قائلاً: <ان اعتراض معالي الاستاذ فرعون في غير محله> لأن الجامعة لا يمكن أن تلحق الضرر بأي بلد عضو في الجامعة، وطلب التصويت على مبدأ أخذ القرار بالأكثرية، فما كان من هنري فرعون إلا أن نهض من المقعد المخصص للبنان، وقال لأمين عام الجامعة عبد الرحمن باشا عزام: <سجل يا حضرة الأمين العام انني منسحب>.
وساد هرج ومرج، وتعاون الوفدان المصري والسوري على تهدئة روع هنري فرعون، وعلى مطالبة نوري السعيد بالاعتذار لوزير خارجية لبنان، ففعل، وعاد فرعون الى مقعده، ويا دار ما دخلك شر. لكن الشر دخل في الدار في تصادمات مختلفة، ومن ذلك دخول مصر عبد الناصر في حرب اليمن ضد الحكم اليمني المؤيد من جارته المملكة العربية السعودية، ودعم ثورة المشير عبد الله السلال، ثم وضعت تلك الحرب أوزارها بفعل ظروف العدوان الاسرائيلي على سيناء ربيع عام 1967. ومع ذلك لم تتأثر المملكة العربية السعودية بحرب مصر في اليمن، فكان الملك فيصل بن عبد العزيز، طيب الله ثراه، المبادر الأكبر في حرب العبور ربيع 1973 عندما قطع النفط عن الغرب حتى يرد اسرائيل عن احتلال سيناء والوصول الى قناة السويس. وفعل قطع النفط فعله، وأتاح لحرب العبور أن تنتصر وتتكلل جبهة العرب بالغار.
كان انسحاب لبنان من الجامعة العربية، لو حصل عام 1945، سيذهب بوهج الجامعة، فللبنان خصوصية في العالم الغربي، والمغتربات، ووجهه الحضاري والتعددي مصدر غنى للجامعة العربية، وجزء من حضورها في العالم، وهو من أوائل المؤسسين. إلا ان لبنان وضع نصب عينيه الخطر الاسرائيلي على أراضيه، وتعزز احساسه بهذا الخطر بهجمتين اسرائيليتين شرستين على أراضيه، واحداهما وصلت شرورها الى قلب بيروت عام 1982، ولذلك لم يتقيد بنظرية هنري فرعون من حيث طلب الأكثرية لأي قرار في الجامعة، وضرورة حصول الاجماع، لأن توقيع الرئيس أنور السادات على اتفاقية <كامب دايفيد> مع رئيس وزراء اسرائيل <ميناحيم بيغن> برعاية الرئيس الأميركي <جيمي كارتر> في البيت الأبيض فيها ضرر للبنان الذي يستضيف على أرضه يومذاك نصف مليون فلسطيني، فكان تصويته الى جانب نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة الى تونس وتعيين التونسي الشاذلي القليبي أميناً للجامعة.
لبنان و.. العاصفة
ومن طبع الرياح والعواصف أن تبعثر المجتمعات، ولكن <عاصفة الحزم> عكست الآية وغايتها أن تنقذ اليمن من التشرذم الذي تسببت فيه مجموعات الحوثيين مدعومة بالمال والسلاح والطائرات من إيران. ففي اليمن رئيس شرعي جاء باتفاق خليجي في جدة، وهو عبد ربه منصور هادي، إلا ان عبد الملك الحوثي زعيم الحوثيين تملكه الشعور بأنه قادر على الإطاحة بالرئيس الشرعي، فحاصر مقره الرئاسي في صنعاء، وأشعل المعارك بين القبائل، ومارس أسوأ أنواع التهجير، ووضع في حسبانه أن المملكة السعودية لن تهاجم اليمن لإنقاذ حليفها عبد ربه منصور هادي، خصوصاً بعد فراره من صنعاء مع وزير خارجيته رياض ياسين الى عدن، الكتلة الجغرافية الوازنة في البلاد. لكن ما أن اقترب الحوثيون من عدن، حتى هبت <عاصفة الحزم> بطائرات مقاتلة تضم خمس دول خليجية الى جانب الأردن والمغرب، ومؤخراً باكستان الدولة الاسلامية المالكة للقنبلة النووية التي تشتهي إيران الحصول على نظير لها.
وبذلك انتقلت مجموعات الحوثيين من الهجوم الى الدفاع، دون أن تجد نصيراً إلا في تصريح مقتضب لإيران، وهجمة شرس من أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، فيما جاءت المساندة من كل بلدان العالم، والفضل في ذلك للسلطات السعودية التي عرفت كيف تحوّل المعركة مع الحوثيين الى معركة ضد الارهاب قاطبة، ومَن مِن دول العالم لا يعاني الآن من.. الارهاب؟
ونأتي في نهاية المطاف الى الموقف اللبناني. فقد حمل وزير حزب الله حسين الحاج حسن على الرئيس تمام سلام بتهمة أنه ذهب بعيداً في تأييد <عاصفة الحزم>، وهو يدرك أن هناك انقساماً في مجلس الوزراء حول هذا الموضوع. إلا ان الرئيس سلام لم يحفل بهذا الاعتراض، وإن كان يصنفه من باب <حرية الرأي>. والرئيس سلام يعرف أن ضمير أكثرية اللبنانيين هو الى جانب المملكة السعودية في حرب إنقاذ اليمن من انقلاب الحوثيين، وغدرهم بأبناء البلد. ويعرف تماماً ان السياسة موصولة بالمصالح، وعندما يكون للبنان جالية لبنانية في السعودية تزيد عن مئتي ألف شخص، ويكون للمملكة فضل تموين الجيش اللبناني بأسلحة فرنسية متطورة بقيمة 3 مليارات دولار، إضافة الى مليار دولار أخرى يتم توزيعها بمعرفة وإشراف الرئيس سعد الحريري، زائد الوديعة السعودية في مصرف لبنان، فلا يمكن للبنان إلا أن يكون الى جانب <عاصفة الحزم> آخذاً بعين الاعتبار ان هناك شريحة من اللبنانيين يمثلها حزب الله عاطفتها مع الحوثيين لا مع <عاصفة الحزم>.
والحرب سجال، والمعركة قد لا تكون قصيرة وتفرض الحل في أيام أو أسابيع، لأن تطهير اليمن من جيوب الحوثيين قد يحتاج الى إنزال بري. ولكن الملك سلمان يمسك بالسيف باليد اليمنى وبسلاح الحوار باليد اليسرى، وحين يرى ان الحوثيين ألقوا السلاح وأعلنوا ذهابهم الى مائدة المفاوضات، يعتبر ان العاصفة قد هدأت وان الكلام صار ملكاً لمائدة الحوار. وبدلاً من السؤال: <أين أصبحت عاصفة الحزم؟>، يقتضي السؤال: <أين أصبح الحوثيون؟>.