تفاصيل الخبر

"الملائكة الصاعدة" لفاطمة ضيا تخطت التوقعات..

19/08/2020
"الملائكة الصاعدة" لفاطمة ضيا تخطت التوقعات..

"الملائكة الصاعدة" لفاطمة ضيا تخطت التوقعات..

بقلم عبير أنطون

  [caption id="attachment_80410" align="alignleft" width="354"] الأرزة صامدة لعلي بسام[/caption]

 لهيب الانفجار الهائل في الرابع من آب (اغسطس) الجاري في مرفأ بيروت وصل الى الأعماق، وفيضان الدماء والدموع الذي عمّ الشوارع والاحياء، كان شديد الأثر على الجميع بشكل خاص الفنانين والرسامين، فكانت لوحات وتصاميم من قلب الانفجار وتداعياته، من وحي "بيت الجد" الذي تهدم وانمحت فيه أجمل الذكريات، الى الأرزة الخضراء الشامخة وسط الركام، وصولاً الى "الملائكة الصاعدة" اللوحة التي لاقت صدى كبيراً، وغيرها الكثير حتى إن بينها ما سبق الانفجار الهائل، وكان طبعاً لبيروت ورموزها ومسائلها الشائكة الحصة الأكبر فيها.

فمن هم رسامو تلك اللوحات، وعن أية أحاسيس ومشاعرعبّروا، وماذا يقول الفنان والخطاط يزن حلواني، الذي تربطه بشوارع بيروت علاقة مميزة، وكان على جدرانها رسم فيروز وصباح وله فيها أكثر من بصمة خاصة؟

 "الملائكة الصاعدة" للرسامة اللبنانية فاطمة ضيا انتشرت بشكل فاق توقع صاحبة العمل الفني حتى، فقد وصلت مع وسائل التواصل الى أصقاع الأرض، وبسرعة البرق. اعتبرتها الفنانة نوعاً من التعبير عن مشاعر الصدمة الطاغية، وقد رسمتها خلال اليومين الأولين من المأساة. فصورة "صعود الملائكة" إلى السماء، تمثل بحسب فاطمة الأرواح الطاهرة التي كانت ضحية للتقصير والإهمال. إنه انتقال من بيروت النابضة بالحياة والألوان، إلى مشهد تصاعد الدخان الرمادي، ومن بعده مشهد دويّ الانفجار الذي خيمت ظلمته على نصف بيروت، ليحصد عشرات الأرواح البريئة...

 لحظة وقوع الانفجار "المرعب" كانت ضيا في منزلها البعيد نسبياً عن منطقة وسط بيروت، وعلى الرغم من ذلك فإنها شعرت بعصفه وقد عرفت للتو أنه انفجار غير عادي. اطمانت على عائلتها، وبشكل اول شقيقتها التي كانت في عملها في وسط بيروت.

[caption id="attachment_80414" align="alignleft" width="190"] هيروشيما لبنان لتييري شهاب[/caption]

 وتشرح ضيا :

"لم اجد طريقة لتفريغ مشاعر الصدمة التي انتابتني جراء هذا الانفجار الاليم مع ما ولّده من مشاعر الخوف والغضب والذعر والأسى، الا عبر رسمي لهذه اللوحة".

 ونذكر أن ضيا صوّرت المراحل التي رسمت بها لوحتها من خلال التصوير المتقطّع، والذي يترجم الحالة النفسية التي كانت تنتابها حينها، وقد لاقى هذا التصوير إعجاباً كبيراً وانتشاراً. وما زاد عليه بحسب ضيا نفسها، واعتبرته القيمة المضافة للوحة، كانت كلمات أغنية فيروز الشهيرة "لبيروت"، من أداء الفنانة اللبنانية عبير نعمة، إذ شعرت أن كلمات الأغنية تترجم ما يدور في رأسها من مشاعر وأفكار.

مزاد .. للمساعدة

بعد التفاعل الواسع الذي حققته لوحة "الملائكة الصاعدة" قررت فاطمة بيعها في مزاد علني يجري في 30 آب (اغسطس) الجاري لمساعدة أكبر عدد ممكن من المتضررين من الإنفجار، وطرأت فكرة المزاد من شقيقتها التي تدرس في الخارج والتي هالها ما رأته، وقد وصلت المزايدة على اللوحة إلى مبلغ 43 ألف دولار حتى الآن، وستتبرع ضيا بنسبة 100 في المئة من المبلغ للأشخاص الذين فقدوا منازلهم وتأثروا بهذه المأساة، خاصةً أولئك الذين لديهم موارد محدودة...

 هيروشيما ..

[caption id="attachment_80413" align="alignleft" width="375"] فيروز تنطق بالجمال في شارع الجميزة[/caption]

وإن كانت لوحة "الملائكة الصاعدة" الطريقة الفضلى التي وجدتها ضيا للتعبير فإن ما رسمه تييري شهاب تحت عنوان "هيروشيما لبنان" كان أداته للتعبير ايضاً . شهاب سلم من الانفجار بسبب الحجر الذي فرضه الـ"كوفيد 19" وجعله يعمل من منزله بدل المكتب القريب من موقع الانفجار، الذي وبحسب وصفه، "جمّد الوقت بحيث يصير العقل خارج اي استيعاب" .

توثيق شهاب للانفجار بلوحة "هيروشيما لبنان"، فضلاً عن رسمه لمنزل جده الذي تضرر، لاقته وبأمل واضح بالصمود، رسمة "لؤلؤة الوطن" للمصمم اللبناني علي بسام، وفيه ترتفع الارزة شامخة، كما يصفها علي. فهي"وسط الدمار والحروب والتفجيرات والفساد المستشري ستبقى صامدةً لا تهتز ولا تحرق" ومهما ارتفع الدخان الاسود وساد الخراب.

 ويصف علي لحظات الانفجار بالقول: "كأننا نشاهد فيلماً سينمائياً"، إلا أن هذه المرة كان سكان بيروت شركاء في هذا الفيلم، مضيفاً "كان الأمر صعباً للغاية لأننا أحسسنا بألم كبير لهول ما رأيناه.. نتحدث عن مدينة.. عن عاصمة تحولت فجأة لساحة حرب ولكن بمشاهد أصعب وبصدمة كبيرة" .

واضاف:

 لم أفكر يوماً أن أعيش أمراً مماثلاً، أن أشاهد هذا الدمار في أرجاء المدينة، وأشاهد الجرحى والشهداء على الطرقات، والمستشفيات المدمرة، والنساء والأطفال والرجال كلهم مثقلون بألم الجراح وفراق الأحبة..ما جرى بعد الانفجار خطف من أعمارنا وأرواحنا كل ما فيهما ..كنا نعيش كل هذه السنوات وسط قنبلة مميتة نمر بجانبها يومياً، ونجلس بجوارها، ونتابع أعمالنا دون أن ندري أننا نعيش مع الموت".

يزن..والوحدة الحقّة

[caption id="attachment_80415" align="alignleft" width="375"] يزن حلواني يرسم على حائط في الجميزة[/caption]

 "العيش مع الموت" في لبنان يبدو قدراً . لكن هل من امل، وما هو وجهه ؟ وما دور الفنان وافكاره الجديدة فيه ؟

في هذا السياق، كان الحديث مع الفنان يزن حلواني مقتحم الشوارع بسلاح الفن، ومن لحظات الانفجار بدأ:

كنت في الجميزة قبل عشرين دقيقة وتوجهت الى البيت عند منطقة المصيطة.

 وقع الزجاج في البيت، كما طالت الاضرار المرسم في الجميزة علماً أنه تحت الارض، وهو اشبه بالملجأ، بابه حديدي ضخم يشبه ابواب الخزنات، انفجر قفله جراء الضغط الهائل ولم اتصور يوماً أن قوة يمكن أن تفتحه. الشخص الاول الذي فكرت بالاتصال به هو اخي في شركته في مار مخايل، وكان اول من كلمته.

قبل الانفجار بلحظات لاحظت حريقاً في المرفأ، يقول يزن، فتبادر الى ذهني، انه قد يكون مخزن سلاح، او أن هناك مواد مخزنة بطريقة غير مناسبة، او أنها حتى خزانات النفط .. شعرت بهزة ارضية ومن ثم كان الانفجار الهائل ..

 ولما نسأله عن اللحظات الاولى بعد هول ما عشناه، يجيب يزن: جعلتني هذه اللحظات افكر بالدولة السيئة جداً، حيث ما من أدنى ثقة بها او احترام لها . هناك إنحطاط لدى الطبقة السياسية وهي كارتيل او مافيا متحكمة بكل المفاصل .  

 الصور الاولى التي انطبعت في وجدان يزن بعد أن نزل الى الشوارع المتضررة والتي طالما جابها حاملاً عدته للرسم على جدرانها، كانت الدمار الهائل طبعاً كما يقول . لكن ما لفته بشكل خاص ايضاً كانت صورة القوى الامنية التي بدل أن تساعد المنكوبين بقيت على تصرفاتها العسكرية، تراقب عن بعد، علماً أننا في حالة طوارئ، وهذا ما يدل نوعاً ما على أن الدولة بأجهزتها لا يهمها سوى حماية السلطة السياسية، علماً أن الدمار هائل ودور الدولة الاول يجب أن يكون مساعدة المواطن .

 ويزيد يزن:

[caption id="attachment_80412" align="alignleft" width="250"] فكرة الهجرة.. انتبهوا لها ليزن حلواني[/caption]

في السابق كنا نقول إن المسؤولين ليست لديهم إلامكانيات للمساعدة وشح الدولار يمنع تأمين خدمات المواطن الاساسية، لكن هنا فإن لدى السلطة السياسية موظفين وقوى يمكنهم ان يكونوا عوناً للمواطنين، فكان الخيار السياسي فقط حماية السلطة ومواقعها . الانفجار كان الصورة الابلغ، ليس عن انعدام المسؤولية بقدر ما هو التشبث بالسلطة، الامر الذي يلخّص العقلية السياسية التي في لبنان، اي الصراع على القوة والنفوذ وليس الصراع على المسؤولية واداء الدور الوطني المفروض.

ولما نسأل يزن إن كان اطمأن الى صور جدارياته التي يعرفها كل اهل بيروت ولبنان بدءأ من صورة السيدة فيروز في "الجميزة"، الى جدارية الشحرورة صباح في شارع الحمرا وغيرها العديد أجاب:

 للصراحة لا . فهذه الرسومات، تتراجع اهمية بقائها بالنسبة لي على ما يحدث حالياً . هناك امور اكثر اهمية في الوضع الراهن حيث المعركة الاساسية هي المعركة الثقافية، وتدور على محور: "ما هو الصواب"؟

بالنهاية السياسة اساسها الثقافة، يزيد يزن، والسياسيون في لبنان يسعون حالياً الى فرض الهيمنة من باب الثقافة، فيتحفوننا بالقول أن ليس الوقت الآن للحديث في السياسة، او انتقاد النظام الاقطاعي والطائفي انما للحديث عن المساعدات وطريقة الحصول عليها، وهذا برأيي، نوع من معركة ثقافية - سياسية يفرضون بها علينا المواضيع التي يمكن أن تثار ويحق لنا الحديث بها او لا يحق، في محاولة للتعمية على المسؤوليات والادوار. ما يجب أن يرفع على الجدران يجب أن يكون مخالفاً تماماً الآن . يجب أن نتنبه للمعركة الاقتصادية التي تشن علينا والهجرة التي نُحثّ عليها، وهم مرتاحون لها لا بل يدفعون اليها، حتى يبقوا في مواقعهم، وسياساتهم الخاطئة، فتسد اموال المغتربين حاجات اللبنانيين وتخلو لهم الساحة. لأجل ذلك، تجدونني اعتمد منذ فترة على استخدام اللغة البصرية للهجرة، من خلال شخص "يضب" شنطته، او يرى بيروت من الطائرة المغادرة الى غيرها من الرسومات، وهذا ما اعمل عليه منذ ثلاث سنوات تقريباً .. إنها صور موجعة، الا أنها تتحول في ذاكرتنا الحالية وكأنها خلاص ونجاح اللبناني الذي يجوب العالم ويتكلم اللغات، علماً أنها فعلياً، عوارض نظام اقتصادي وسياسي يهجّر سكان البلد، حتى يتحكم السياسيون فيه.

ومن ناحية أخرى، يزيد يزن، تقع على هؤلاء المغتربين مسؤولية دعم عائلاتهم مادياً وانما ايضا واجب الدعم السياسي والاجتماعي للحالات التي يمكن أن تشكل تغييراً ما، حتى لا يبقى لبنان بلد التصدير لابنائه انما لبقائهم فيه.

[caption id="attachment_80411" align="alignleft" width="333"] الملائكة المتصاعدة لفاطمة ضيا[/caption]

 ومع الفنان الشاب عدنا الى ما رسمه تحت عنوان "الوحدة الوطنية"، وقد لفتتنا لوحة لزجاجتي بيرة من ماركتين لبنانيتين معروفتين وضعهما تحت هذا العنوان . سألناه كيف ذلك ؟ فشرح لنا : .

مذ كنت صغيراً، تطالعني رموز الوحدة الوطنية من خلال صورة بين شيخ وخوري الواحد بجانب الآخر يمسكان بايدي بعضهما البعض، او صورة الجامع والكنيسة الخ ، الا أنها في العمق ليست وحدة حقيقية اذ لكل جانب مصالحه . اليوم ومع الاعتداء على الاملاك الخاصة لمختلف الاطياف، ومدخرات المواطنين من كل الطوائف باتت المصالح الاقتصادية هي ما يجمع الناس وفي ذلك وحدة وطنية حقيقية أكثر اذ هم تساووا في الضرر، وقد جسدت ذلك من خلال زجاجتي بيرة احداهما مع كحول والاخرى من دونه، على شكل "مولوتوف" . هنا  حيث مصالح الناس ومدخراتها وودائعها ، يمكن لمفاعيل الوحدة الوطنية أن تكون حقيقية فعلاً.

ويضيف يزن:

لم يعد من فصل بين الاملاك العامة والخاصة وانخلطت الاوراق. في الثورة يركزون على خمسين شخصاً يدمرون ويقومون بالشغب الامر الذي لا اوافق عليه، الا أنهم يتناسون أن ذلك ياتي نتيجة لجريمة سبقت وهي سرقة اموال المدخرين والمودعين، وسرقة حاجات المواطن واساسياته والتي هي حق له. يركزون على هؤلاء ليقولوا أن الثورة مخرِبة، ويعتدون على الآلاف الذين ينشدون التغيير الحقيقي.

 من وحي انفجار 4 آب (اغسطس) تحديداً، لم يرسم يزن بعد :"اريد أن استوعب اولاً، وقد يعود ريع بعض رسوماتي الحالية الى من تضرروا، كما أنني في صدد جمع "فاند ريزينغ" من اصدقاء خارج لبنان وداخله للمساعدة". لا شيء معين في رأسي، ولا اتسلق على الحدث فور وقوعه. فهدف العمل الفني أن يتقدم بالفكر الجماعي، وما زال من المبكر بالنسبة لي تقديم "مادة ذكية" في هذا الشأن.