تفاصيل الخبر

المحارق ومخاطرها الصحية وتكاليفها المالية!

14/12/2018
المحارق ومخاطرها الصحية وتكاليفها المالية!

المحارق ومخاطرها الصحية وتكاليفها المالية!

 

بقلم طوني بشارة

يتجه لبنان إلى اعتماد المحارق لحل أزمة نفاياته، ولكن هل أن هذا الاتجاه ستكون نتيجته كلفة صحية ومالية أكثر على الدولة والمواطن؟ وهل فعلا أثبتت التجارب العالمية فشل هذا الحل وخطورته؟ وبالتالي نتيجة لهذا القرار هل سيتحمّل العهد <القوي>، الذي يعوّل عليه كثيرون، وِزر سرطنة البلد؟

ابي راشد والصفقات!

 

 رئيس <جمعية الأرض لبنان> بول أبي راشد نوه قائلا: <تفاجأنا بتحول القانون الذي ننتظره منذ 20 سنة من قانون إدارة مستدامة للنفايات إلى آخر لتسهيل دخول المحارق والخصخصة والصفقات، على الرغم من أننا كنا كبيئيين متأملين خيراً بموافقة السلطة على طرح الاتحاد الاوروبي الذي سعى إلى شبه حوار وطني لإصدار القانون الأمثل لإدارة النفايات، على أن تكون البلديات والخبراء والصناعيون والمجتمع المدني شركاء في هذا الحوار مع النواب، وقد كنا مطمئنين أنهم لن يقروا القانون قبل عقد اجتماعات من هذا النوع>.

ويؤكد أبي راشد أنه بحسب مسودة مشروع القانون التي هي بحوزة البيئيين، فإن هذا المشروع لا يراعي الهرم البيئي التسلسلي لمعالجة النفايات، وهو مشروع تدميري للزراعة والصناعة في لبنان لأن حرق النفايات من دون اعتماد التدوير يضر بالقطاع الصناعي، كما أن عدم اعتماد التسبيخ يضر بالقطاع الزراعي.

 وتابع ابي راشد قائلا:

- مع اعتماد المحارق هناك خطر انبعاث للمواد العضوية مثل الديوكسين والمعادن الثقيلة مثل الكادميوم والزئبق، وجزئيات الغبار والغازات الحمضية مثل ثاني أوكسيد الكبريت وحمض الهيدروكلوريك، وهذه الانبعاثات لها تأثير ضار على الصحة العامة وفيها جزئيات مسرطنة، واخطر ما في محارق النفايات هو رماد أسفل المحرقة والمداخن، والذي ينبغي التعامل بحذر معه على اعتبار انه من المواد السامة جدا، كما وتتركز الانبعاثات السامة والمواد الخطرة في الرماد المتطاير وقد تشكل مشكلة بيئية وصحية ما لم يتم التعامل معها بشكل دقيق جدا قبل التخلص منها في مكبات خاصة غير متوافرة أصلا في لبنان، الأمر الذي سيؤدي الى تضاعف خطر الإصابة بالسرطان والأمراض المزمنة الأخرى إلى مستويات ملحوظة.

قديح ورؤية المستقبل!

 

 بدوره الخبير البيئي الدكتور ناجي قديح أوضح قائلاً:

- نحن منذ فترة نجادل ونناقش الاستشاريين الأجانب والمحليين الذين حضَّروا ويحضِّرون الدراسات والمشاريع ودفاتر الشروط في الأبعاد التقنية، ونناقش في البلديات وفي الحكومة والبرلمان اللبناني في الأبعاد السياسية والإستراتيجية والإدارية والتنظيمية للخيارات في إدارة النفايات، البعض يتسلح ومن ضمنهم السيد رئيس بلدية بيروت بالقول أن لا خيار إلا المحرقة لنفايات بيروت، ونحن نقول ليس من هنا تبدأ المسألة، وفي السياق ذاته نؤكد بان رؤية البعض تنتمي إلى الماضي، لاسيما من يجتهد في التفتيش عن مكان أو طريقة للتخلص من النفايات، ولذلك عقلهم محصور بين المطامر والمحارق، إلا أنه وفق رؤيتنا، التي تنتمي إلى الحاضر والمستقبل، نجهد لإرساء نظام متكامل لإدارة النفايات، يؤمن فصل مكوناتها من المصدر، ولو في المرحلة الأولى بين العضوي وغير العضوي، ونقلها المنفصل في شاحنات لا تضغط النفايات إلى مراكز للفرز الإضافي والتعريب وتحضير الموارد لتدويرها وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية لصناعاتنا، وذلك تشجيعا لتوفير فرص عمل جديدة، وتوفيرا في الموارد الأولية عبر إدخال الموارد الثانوية في حلقة الإنتاج، وتوفيرا للطاقة، وتنمية للصناعة اللبنانية باعتبارها قطاعا منتجا يولد قيمة مضافة حقيقية وليست وهمية كما بعض القطاعات الريعية الأخرى.

قديح والعوادم!

 واستطرد قديح قائلا:

- يتحدث من يشجع المحارق عن المتبقيات التي تسمى <عوادم>، فنراهم يتوقعون أن تكون بنسبة 85 - 90 بالمئة من النفايات، كما كانت دائما في ظل سياساتهم وإدارتهم لهذا الملف حتى اليوم، وذلك لأنهم في رؤيتهم لا يتحضَّرون للفرز والتدوير ومعالجة موارد النفايات إلا بنسبة ضعيفة جدا، من 5 - 15 بالمئة، وهذا يعني بالضبط أنهم ينوون نقل البلد من تحت <دلفة> المطامر إلى تحت <مزراب> المحارق، ولن يتحسن شيء بمستويات المخاطر الكبيرة حيال البيئة والصحة العامة والمال العام، بل ستشهد ارتفاعا إلى مستويات أكبر بكثير.

ــ وما الحل الأفضل إذاً؟

- نحن نسعى لإرساء نظام متكامل لإدارة النفايات يتضمن تشريعات تستهدف تخفيف النفايات عموما، وبالأخص منها تلك التي تتميز بصعوبة إدارتها والتخلص منها، ويتضمن تطبيقا حقيقيا وصادقا للفرز من المصدر حتى لو بدأنا أولاً بالفصل بين العضوي وغير العضوي، ناهيك عن وضع نظام للجمع المنفصل للنفايات التي تم فرزها ونقلها إلى مراكز للفرز الإضافي والتعريب والتدوير في المصانع اللبنانية المتعطشة لاستقبالها وإدخالها في دورتها الإنتاجية نظرا لأثرها الإيجابي على النشاط الصناعي والإقتصادي عموما، ونقل المكونات العضوية المجموعة بشكل منفصل أيضا إلى معامل للتسبيخ <Composting> وفق تقنيات متقدمة، وليس بدائية كما هو الحال حتى الآن في كثير من مراكز التسبيخ في لبنان، لتصنيع <كومبوست Compost> <فئة A>، التي يستوردها السوق اللبناني اليوم بملايين الدولارات، أو تنقل إلى معامل للهضم اللاهوائي <Anaerobic Digestion>، كما معمل النفايات في صيدا، لإنتاج البيوغاز الغني بالميثان، وذلك لتوليد الطاقة.

 

المحارق وتلوث الهواء!

ــ رئيس بلدية بيروت كما غيره من رؤساء البلديات يعتبرون المحرقة تقنية متطورة، فما ردك على ذلك؟

- يقول رئيس بلدية بيروت أن محرقة <التفكك الحراري> هي تقنية متطورة، ويقصد المحارق الحديثة المجهزة بغرفتين للإحتراق، وبتجهيزات مكافحة تلوث الهواء، والفلاتر اللاقطة للجزئيات الصغيرة، وأبراج غسيل الغازات كيميائيا لتعديلها، والمجهزة أيضا بسخانات تسمح بتحويل الطاقة الحرارية إلى بخار حامل للحرارة، وبالتالي إلى طاقة كهربائية عبر تشغيل توربينات حرارية، ونحن لا نناقش التقدم التقني للمحارق، ونعرف تماما أن في البلدان المتقدمة صناعيا، هناك محارق نفايات لا زالت تعمل ويعملون على تطويرها، ولكننا نعلم جيدا أيضا، أن هذه المحارق المتطورة لا زالت مصدرا لتلويث الهواء ببعض أنواع الإنبعاثات الخطيرة على الصحة العامة، وكذلك ببعض أنواع الجزئيات المتناهية الصغر والنانوية القياس، والتي لا تزال تتفلت من أكثر أكياس وأغشية الفلاتر تقدما في العالم الصناعي اليوم، ونعلم أيضا، أن إدارة النفايات الخطرة المتولدة عن المحارق التي تلتقطها تجهيزات مكافحة التلوث، الصلبة منها والسائلة، يتم معالجتها والتخلص السليم بيئيا منها في منشآت خاصة، وفي مطامر متخصصة باستقبال النفايات الخطرة الصلبة، وفي محطات لمعالجة النفايات السائلة الملوثة كيميائيا، ونعرف أيضا أن هناك حركات كبيرة من المجتمع المدني والأكاديمي وبعض مراكز الأبحاث البيئية والصحية، تعارض اعتماد المحارق وتدعو إلى التخلص التدريجي منها، وتطالب بالإقفال الفوري للمحارق التي لا تحترم المعايير والعاجزة تقنيا عن الإمتثال لها.

ــ كيف تواجه البلدان الصناعية المتقدمة هذه المخاطر التي سبق واشرت اليها؟

- تواجهها وفق خطين متوازيين، من جهة، تعمل دائما على تطوير الميزات التقنية لمنتوجاتها ذات العلاقة بتجهيزات مكافحة التلوث المتولد عن المحارق، أي أكياس الفلاتر والأغشية، باتجاه رفع كفاءة قدرتها على الإلتقاط، وتطوير فلاتر متنوعة الحشوة مثل الفحم المنشط، والسيليكا، وغيرها من المواد المستعملة لامتصاص <Absorption> الملوثات الكيميائية العضوية وغير العضوية، ومن جهة أخرى، تعمل على تشديد معايير الحماية البيئية <Environmental Standards> دوريا، أي تخفيض المستويات المقبولة للعديد من الملوثات الخطيرة المنبعثة من محارق النفايات، وبناء على هذا التشدد بالمعايير والتشريعات البيئية، الذي شهد الإتحاد الأوروبي جولة حديثة منه في الأشهر الماضية، تم تقديم إنذارات بالإقفال للعديد من المحارق الأوروبية التي لا تتمكن من التقيد بها والإمتثال إليها.

وتابع قديح قائلا:

- في هذا السياق نعتبر إن استخدام أي تقنية يكون مقبولا عند توافر كل الشروط الضرورية والمناسبة لاستخدامها، ولذلك نحن لا نناقش تقنية الحرق لذاتها، على الرغم من أننا على قناعة علمية حازمة بضررها البيئي والصحي، حتى في أكثر البلدان الصناعية تقدما، حيث هناك العديد من التقارير العلمية المتخصصة التي تبحث في هذه الشؤون تصدر في البلدان الصناعية المتقدمة عن مراكز الأبحاث في الطب البيئي والصحة البيئية، لذا واستنادا الى ما سبق نحدد اعتراضنا على مستويين:

المستوى الأول: عدم سلامة الخيار السياسي الاستراتيجي باعتماد المحارق لإدارة نفايات لبنان، والمستوى الثاني: عدم توافر أي من الشروط الضرورية على الإطلاق لإقامة المحارق في لبنان.

ونحن نقول بعدم سلامة الخيار السياسي الاستراتيجي لاعتماد المحارق في لبنان، لأن النفايات بنظرنا، هي موارد ثانوية علينا وضع منظومة الإدارة المناسبة لاسترداد قيمتها، توفيرا لهدر الموارد الطبيعية، وتوفيرا للطاقة، ولاسترداد جزء من كلفة إدارتها السليمة بيئيا والآمنة صحيا، لذا فما نقول به هو على توافق تام مع فلسفة  الحفاظ على البيئة بمواردها، وحماية أوساطها من التلوث الذي تتسبب به خيارات الطمر الكلي والحرق الكلي (أو شبه الكلي لـ 90 بالمئة من النفايات)، على اعتبار ان طمر النفايات أو حرقها هو تحقيق خسارة مزدوجة، من جهة هو هدر لقيمة الموارد الثانوية التي تتكون منها النفايات، ومن جهة أخرى كلفة الطمر والحرق عالية على البيئة وعلى الصحة العامة وعلى الإقتصاد والمال العام، اذ لا يخفى على احد إن خيار رمي النفايات في المكبات العشوائية وفي المطامر، الذي اعتمدته الحكومات اللبنانية المتعاقبة منذ مطلع التسعينات حتى اليوم، أدى في الواقع إلى تلويث كبير للهواء والتربة والمياه السطحية والبحر، وإلى تدمير للمنظومة البيئية البحرية في مناطق عديدة من الشاطئ اللبناني، وأدى أيضا إلى هدر مئات ملايين وربما مليارات الدولارات على هذا القطاع، دون تحقيق نجاحات استراتيجية في إدارته، بل بقي ولا يزال يشكل أزمة مستمرة وضاغطة على كل المجتمع اللبناني وبيئته وصحة اللبنانيين ومالهم العام، ولكنه أدى، من جهة أخرى، إلى ملء جيوب العديد من المستفيدين من أتباع الفئات النافذة في السلطة السياسية.

وشدد قديح قائلا:

- كذلك فإن الذهاب اليوم إلى خيار اعتماد محارق النفايات هو أيضا مسار يتعارض كليا مع السياسة السليمة المفترضة حيال إدارة النفايات، إذ إن حرق النفايات هو على تعارض كامل مع استرداد الموارد الثانوية أي تدويرها وإعادة إدخالها في الدورة الإنتاجية، توفيرا للموارد الأولية وللطاقة وتجنباً للتلوث البيئي والهدر، والحرق هو كما الطمر تماما يشكل خسارة مزدوجة، من جهة خسارة وتدمير للموارد، ومن جهة أخرى تسديد كلفات عالية جداً مرتبطة بالتلوث البيئي والتدهور الصحي والخسارة الاقتصادية.

ليختتم بالقول:

- إن التفكير الاستراتيجي السليم والعقلاني يدعونا إلى بحث كل هذه المسائل، وحسابات الربح والخسارة على كل المجتمع، باقتصاده وبيئته وصحته وماله، وتحديد الخيارات السليمة على ضوء ذلك.