في وقت غابت فيه <الرعاية اللبنانية> عن ملف الانتخابات الرئاسية باستثناء المواقف التي صدرت في خطب عيد الفصح لدى الطوائف المسيحية الغربية والشرقية وفي <أدبيات> التهاني التي تبادلها السياسيون في ما بينهم أو عبر وسائل الإعلام، سُجلت عودة لافتة للاهتمام الدولي بهذا الملف من دون أن يعني ذلك إنضاج حلول للأزمة الرئاسية التي تستعد بعد أيام لإنهاء شهرها الحادي عشر ودخولها شهرها الثاني عشر بحيث تطفئ يوم 25 أيار/ مايو المقبل شمعتها السنوية الأولى!
إلا ان هذا الاهتمام الدولي الذي ظهر من خلال وجوه مختلفة حافظ على <نغمة> واحدة طغت على ما عداها من <نغمات>، وهي ضرورة تفاهم اللبنانيين في ما بينهم، والاتفاق على اختيار رئيس للجمهورية في أسرع وقت ممكن، من دون الاتكال على أن يأتي الترياق من الخارج. وهذا التوجه برز جلياً في <النصائح> التي قدمها مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى <أنطون بلينكن> الذي أمضى في بيروت أكثر من 48 ساعة، وفي الموقف الواضح الذي صدر عن نائب وزير الخارجية الإيرانية مرتضى سرمدي الذي اعتبر أن الممر الأساسي للحلول في الملف الرئاسي هو <الاتفاق بين اللبنانيين والدول تدعم أي اتفاق يتوصل إليه اللبنانيون>، وفي الإشارات الفرنسية التي سبقت زيارة البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي لباريس للقاء الرئيس الفرنسي <فرنسوا هولاند> بعد تدشين المقر الجديد للأبرشية المارونية في فرنسا وأوروبا والتي ركزت بدورها على <دور اللبنانيين في انتخاب رئيسهم العتيد>!
إنجاز الاستحقاق يحمي الاستقرار
وتعتبر مصادر متابعة للملف الرئاسي ان الأولوية التي أعطتها الدول الكبرى للاستقرار الأمني في لبنان طوال الأشهر الماضية استقرت على درجة ثابتة ليتقدم الاستحقاق الرئاسي اللبناني من جديد الى موقع آخر من الاهتمام الدولي، بعدما توافرت لدى أصحاب القرار معطيات تشير الى ان بقاء لبنان من دون رئيس سيشكل مدخلاً لـ<تقويض الاستقرار> تدريجياً، ما بات يحتم الإسراع في إنجاز هذا الاستحقاق لضمان استمرار الاستقرار. وتضيف المصادر نفسها ان موقف المبعوث الأميركي <بلينكن> كان واضحاً مع الرسميين والسياسيين الذين التقاهم في بيروت لجهة إبراز التناغم بين الموقف الأميركي حيال الملف الرئاسي اللبناني، وبين ما صدر في البيان الرئاسي عن مجلس الأمن الدولي الشهر الماضي لجهة استعجال انتخاب الرئيس والتحذير من أن يحدث الفراغ انتكاسة في الاستقرار الأمني. صحيح أن <بلينكن> لم يقدم باسم إدارة الرئيس الأميركي <باراك أوباما> أي تصور يتسم بالواقعية للخروج من الأزمة الرئاسية، لكنه كان واضحاً في دعوة القيادات اللبنانية الى عدم الرهان على التطورات الإقليمية والدولية للشروع في ملء الشغور في قصر بعبدا، بل المبادرة الى <عمل ذاتي> لاسيما وان القول الذي يشير الى ان الاتفاق - الإطار بين إيران ومجموعة الدول الخمس + 1 قد يحمل انعكاسات إيجابية على الملف الرئاسي اللبناني هو قول مبالغ فيه لا يجوز الركون إليه لأن ما حصل في <لوزان> - حسب تعبير <بلينكن> - بداية لمسار قد يكون طويلاً ويخشى أن يشهد <مطبات> كثيرة وتعقيدات تتجاوز الأشهر الثلاثة التي حددتها الروزنامة الزمنية التي وضعت لمرحلة ما بعد إعلان <لوزان>.
أكثر من ذلك، تضيف المصادر نفسها، ان الموفد الأميركي كان مهتماً بمعرفة ردود الفعل اللبنانية على الاتفاق مع إيران بالتزامن مع إظهاره أهمية استثنائية لموضوع الإ رهاب والإرهابيين والتمدد الحاصل في عدد من الدول العربية للخلايا الإرهابية، سواء أكانت فاعلة جداً في دول معينة مثل سوريا والعراق واليمن، أو نائمة في دول أخرى تنتظر الوقت المناسب للتحرك. وفي هذا السياق، جدد <بلينكن> تصميم بلاده على دعم الجيش اللبناني في مواجهة قوى الإرهاب، وتوفير الإمكانات الضرورية له لوضع حد لأي تمدد خصوصاً على الحدود البقاعية. وفيما أظهر <بلينكن> اهتماماً بأوضاع الأقليات في دول المشرق العربي، ولاسيما الوجود المسيحي في هذه الدول، برزت إشارته في أكثر من مناسبة الى أن المسيحيين في بعض الدول العربية المضطربة ذهبوا ضحية الخلافات المذهبية بين السنّة والشيعة، مبدياً اهتماماً بما اقترحه عليه الرئيس نبيه بري خلال لقائهما لجهة لعب دور فاعل لوقف الخلافات بين السنّة والشيعة وإزالة الأسباب التي تزيد من منسوب التقاتل بين الطرفين. ولم يغب موضوع النازحين السوريين والفلسطينيين الى لبنان عن محادثات <بلينكن> الذي يقوم بجولة على عدد من الدول، غايتها شرح الموقف الأميركي من الاتفاق النووي والاستماع الى <ملاحظات> هذه الدول وانطباعاتها.
من هنا، بدا أن الملف الرئاسي بات - حسب التوجه الأميركي والغربي - المدخل لاستمرار الاستقرار الأمني في لبنان، لاسيما وان المسؤول الأميركي <حذر> من مغبة حصول أي اهتزاز على حالة <الستاتيكو> الأمني التي ينعم بها لبنان، متحدثاً عن <مجهول> يمكن أن تدخل فيه الساحة اللبنانية إذا ما حصل أي خلل يهدد الاستقرار والأمن في البلاد. وفي هذا المنحى الأميركي الذي عبّر عنه <بلينكن> يبرز التناغم مع البيان الرئاسي الذي صدر عن مجلس الأمن في الشهر الماضي والذي أعطى الاستحقاق الرئاسي اللبناني حيزاً غير مسبوق في الشكل والمضمون، مبدياً القلق على ثبات الاستقرار في ظل استمرار الشغور الرئاسي، مستعملاً عبارة <بلا إبطاء> أكثر من مرة، وهي العبارة نفسها التي استعارها الموفد الأميركي خلال أحاديثه في بيروت. وفي تقدير مصادر ديبلوماسية متابعة ان ما قاله <بلينكن> للمسؤولين والسياسيين اللبنانيين حول الترابط بين الإسراع في إنجاز الاستحقاق واستمرار الاستقرار الأمني رسالة واضحة لا تحمل الطابع الأميركي فحسب، بل هي رسالة <المجتمع الدولي> الذي عبّر في البيان الرئاسي عن مخاوف وعرض وقائع واقترح حلولاً، ولعله - تضيف المصادر - دق ناقوس الخطر على ديمومة الهدوء الأمني في البلاد، جاعلاً من إجراء الانتخابات الرئاسية المعبر الإلزامي للمحافظة على الاستقرار في لبنان.
سرمدي: لا نتدخل.. ونحترم خيار اللبنانيين
في المقابل، بدت رسالة الموفد الإيراني مرتضى سرمدي في ما خص الاستحقاق الرئاسي <متناغمة> مع كلام الموفد الأميركي، إذ قال - حسب مصادر ديبلوماسية مطلعة - ان بلاده ليست في وارد التدخل في الملف الرئاسي اللبناني، وان هذا الموقف ينبغي أن ينسحب على مواقف <الآخرين> لأن طهران تعتبر ان الاتفاق بين اللبنانيين هو الممر الأساسي لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، وعلى الدول أن تدعم مثل هذا الاتفاق. وتوسع سرمدي - وفقاً للمصادر نفسها - في الحديث عن أهمية <الخيار اللبناني> الذي يجسد إرادة اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، لافتاً الى أن بلاده لم تقل يوماً لحزب الله انها مع هذا المرشح أو ذاك، بل تركت لها - أي لقيادة حزب الله - ان تتعاطى مع هذا الملف من خلال الاعتبارات اللبنانية فحسب. وحرص سرمدي في هذا السياق على إبلاغ الرئيس تمام سلام وقبله الرئيس نبيه بري هذا التوجه، متمنياً على الرئيسين ان ينقلا عنه ان الملف الرئاسي هو ملف لبناني لا شأن لطهران ولغيرها به.
وإذا كان المبعوث الأميركي قد <نصح> ولم يقدم آلية عمل فاعلة، فإن الموفد الإيراني آثر هو الآخر عدم الدخول في <التفاصيل الرئاسية>، وبدا مستمعاً في هذا الإطار أكثر منه متكلماً، لاسيما وان الهدف الأساسي من زيارته كان الاتفاق النووي من جهة، وشرح الموقف الإيراني من الأحداث في اليمن، لاسيما بعد التدخل السعودي ميدانياً.
باريس تتحرك من جديد وعينها على واشنطن
في هذه الأثناء، توقعت مصادر متابعة ان تعود باريس الى إبراز اهتمامها بالملف الرئاسي اللبناني من خلال زيارة البطريرك الراعي بعدما راجعت العاصمة الفرنسية <حساباتها> في هذا المجال، من خلال حصيلة الجولات التي قام بها الموفد الفرنسي <جان فرنسوا جيرو> قبل أسابيع على عدد من الدول المعنية بالاستحقاق الرئاسي، والتي لم تحقق أي اختراق يذكر. وأفضت هذه المراجعة - حسب المصادر نفسها - الى ان باريس ستعيد حراكها الإقليمي والدولي، على ان يبقى ضمن إطار معين بحيث لا يبدو وكأنه يسابق الحراك الأميركي الذي برز بعد جولة <بلينكن> وما صدر عن الإدارة الأميركية من مواقف. وبذلك ستفسح باريس في المجال أمام الإدارة الأميركية لـ<تجرب حظها> في الجهود الآيلة الى إنجاز الاستحقاق، لاسيما وان ردود الفعل اللبنانية على السعي الفرنسي الذي قام به السفير <جيرو> لم تتوافر له مقومات النجاح، علماً ان باريس تعتبر ان القيادات اللبنانية مسؤولة عن عدم انتخاب الرئيس العتيد، وتركز خصوصاً على القيادات التي تتأثر بالخارج والتي لم تقطع صلتها به بعد. إلا أن المصادر المتابعة نقلت عن ديبلوماسيين فرنسيين ان الولايات المتحدة الأميركة ستعيد في النهاية الملف الرئاسي اللبناني الى الإدارة الفرنسية لتواصل مساعيها. وفي انتظار ذلك، ستكمل باريس جمع المعلومات والمعطيات واستمزاج الآراء الى أن يحين موعد الحسم الذي لا تريد المصادر نفسها ان <تتورط> في تحديده، لأنها لا تعرف كيف سيكون مسار الملف اللبناني في الآتي من الأيام، حيث تتسارع التطورات على أكثر من صعيد، لاسيما على الحدود اللبنانية - السورية حيث تتحدث المعلومات عن <مواجهة> منتظرة على أكثر من جبهة.