بقلم جورج بشير
بانتظار أن يقوم الرئيس ميشال عون <بردّ الرجل>، حسب التقاليد، للدكتور سمير جعجع بزيارة معراب بعد زيارة عون للرابية، فإن اللقاء الذي تمّ بين الرجلين المرشحين القويين لرئاسة الجمهورية داخل مقر الرئيس عون في الرابية كان ولا يزال محطّ اهتمام بالغ في جميع الأوساط اللبنانية على اختلافها، كونه كان منتظراً من هذه الأوساط منذ ان بدأ الحوار بين التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، وهما حزبان فاعلان في لبنان ويحتل كل منهما مقاعد مؤثرة بالقرار الوطني في مجلس النواب وإن بنسب متفاوتة حيث يشغل تيار عون مقاعد أكثر من المقاعد التي يشغلها حزب القوات اللبنانية. لكن لقاء الرابية بين عون وجعجع كانت له ردود فعل إيجابية غير مسبوقة في الوسط المسيحي اللبناني، هذا الوسط الذي يطالب منذ ما قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال سليمان بأن يتمثل في مراكز الحكم والقرار في الدولة، وبالتحديد في سدة رئاسة الجمهورية بأشخاص يتمتع كل منهم برصيد سياسي وشعبي في البلد لا يسمح بالقول انه بمنزلة <شرابة خرج> في مراكز الحكم والقرار في البلاد، خصوصاً رئيس الجمهورية الذي درجت العادة منذ سنوات على ان يجري اختياره من خارج البلاد ومن داخلها من مرشحين <لا حول لهم ولا طول، ولا رأي لهم ولا موقف، ومن الذين لا يتمتعون بتمثيل سياسي أو قاعدة سياسية أو شعبية، يسهل بعد انتخابهم، أو بعد تعيينهم التأثير على قراراتهم ومواقفهم بما لا يعبّر عن موقف من يمثلون من مكوّنات الشعب اللبناني>..
لقد وصل الأمر بممثلي الوسط المسيحي اللبناني أو بمن يعتبرهم اللبنانيون الأوسع تمثيلاً أن تنادوا للاجتماع التاريخي في بكركي برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أكثر من مرة (الرئيس أمين الجميل، الرئيس ميشال عون، الدكتور سمير جعجع، الوزير سليمان فرنجية)، وهؤلاء يعتبرون ممثلي الوسط المسيحي اللبناني الأوسع في لبنان، والمعبّرين عن رأيه وموقفه من حيث انهم يترأسون الكتل النيابية والأحزاب الأوسع تمثيلاً في الوسط المسيحي وقد رفعوا المطالب بشكل علني ومتواصل <بضرورة العمل الوطني على ضبط الشراكة الوطنية بتصحيح قانون الانتخابات النيابية بقانون جديد ينبثق عنه مجلس نيابي يمثل الشعب اللبناني بشكل حقيقي وفاعل وعادل، ويصحّح تمثيل المسيحيين اللبنانيين الذين يشعرون بالغبن عبر وجود أكثر من ثلاثين نائباً مسيحياً لا ينتخبونهم أو لا يؤثرون في انتخابهم بسبب قانون الانتخاب الذي فرضته الهيمنة الخارجية السابقة إبان الوجود العسكري السوري في لبنان، ممّا سهّل الطريق أمام اختيار رؤساء للجمهورية، وشاغلي مناصب سياسية مؤثرة في القرارات الوطنية لا يمثلون فعلاً الشراكة الوطنية والتطلعات الوطنية للمسيحيين اللبنانيين>. والذين تلاقوا في بكركي كقيادات مسيحية كان لهم مطلب واضح وصريح وعلني بالنسبة للاستحقاق الرئاسي الى جانب مطالب قانون الانتخابات النيابية الجديدة، تلخّص بانتخاب رئيس جديد للجمهورية يمثل المكوّن المسيحي فعلاً لا قولاً، ويكون قوياً بالمعنى السياسي والشعبي كون الرئيس بعد انتخابه يصبح رئيساً لكل اللبنانيين ويقسم اليمين على تطبيق الدستور.
المـرء لا يـلدغ من جحر
مرتين وأكثر
الخلل الحاصل المتمادي في التمثيل المسيحي في الحياة السياسية اللبنانية وفي مراكز القرار بفعل قانون الانتخابات النيابية من جهة، وبفعل اختيار رئيس للبنان يمثل المكوّن المسيحي في الحكم (اي في الرئاسة) من جهة أخرى أنتج امتعاضاً كبيراً في الوسط المسيحي وشعوراً متمادياً بالغبن والاحباط زاده التهرّب من استحقاق إجراء الانتخابات النيابية والاحتكام الى الشعب في اختيار ممثليه في مجلس النواب، باللجوء الى وسيلة تمديد ولاية مجلس النواب مرتين وهي وسيلة ملتوية تتعارض مع أبسط قواعد العمل الديموقراطي والاحتكام الى الشعب صاحب الحق الأول والأخير في انتخاب ممثليه، والحجج مختلفة، لكنها واهية أبرزها تهرّب المجلس النيابي والحكومات المتعاقبة من الوفاء بالتزامها المقطوع للشعب <بسن قانون انتخاب جديد يؤمن العدالة وصحة التمثيل قبل شروع البرلمان بأي بحث آخر بعد التمديد>...
السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: لماذا كان هذا الهروب من الالتزام؟!... هذا هو بيت القصيد. والجواب الذي أدى الى تمسك الذين التقوا في بكركي بمطالبهم هو عدم رغبة السياسيين المستفيدين من الثلاثين مقعداً المخصصة للمسيحيين في مجلس النواب بإعادة تلك المقاعد الى أصحابها الشرعيين بموجب قانون جديد للانتخابات النيابية تجرى الانتخابات على أساسه.
والكتل السياسية المستفيدة هذه معروفة (كتلة جنبلاط وكتلة بري وكتلة حزب الله وكتلة الحريري). وفي هذا السياق، فإن كتلة حزب الله استجابت لمطلب لقاء بكركي عبر وفد قيادي منها زار البطريرك الماروني وأبلغه تجاوبها مع المطلب وأعلن الوفد ذلك أمام وسائل الإعلام. أما الآخرون، فقد اعتبروا ان تمديد ولاية مجلس النواب وإن كان متعارضاً مع الدستور والنظام الديموقراطي هو الطريقة الأفضل لعدم الوفاء بالالتزام وتصحيح قانون الانتخابات. وهنا لا بد من تسجيل الخطأ الذي ارتكبته الكتل السياسية التي أيدت التمديد مسايرة للآخرين.
لا انتخابات ولا رئيس
بيت القصيد ان مجلس النواب ممدّد لنفسه، ومن دون العودة الى الشعب. وقانون الانتخابات النيابية على علاته، والبلد بـ24 رئيساً بدلاً من ان يكون له رئيس واحد ورأس واحد.
لقد سجل الدكتور سمير جعجع بزيارته للرئيس ميشال عون في الرابية نقلة نوعية في تأكيد موقف المسيحيين اللبنانيين الذين اجتمعوا في بكركي، أين منها النقلة النوعية التي سجلها ممثلا التيار والقوات في الحوار الذي أنتج <إعلان النيات> قبل لقاء بعبدا، وهما النائب ابراهيم كنعان والمستشار السياسي للدكتور سمير جعجع الزميل ملحم رياشي، ذلك الحوار الذي لعب فيه ومن خلاله كل من كنعان ورياشي دوراً ديبلوماسياً وطنياً شاقاً بامتياز كان له ردّة الفعل الإيجابية الفارقة في الأوساط السياسية، خصوصاً في وسط الرأي العام المسيحي - اللبناني.
في هذا المجال، طرح المراقبون سؤالاً بديهياً حول ما أنتجه لقاء عون وجعجع على صعيد المشاكل التي يعانيها لبنان وفي طليعتها طبعاً ملء الفراغ الحاصل في أعلى سلطة في البلاد ألا وهي رئاسة الجمهورية. هل اقتنع جعجع بأن عون يجب أن يكون مرشحه للرئاسة؟ أم ان عون اقتنع بأن جعجع هو المرشح؟!
عشرون دقيقة استغرقها اللقاء الثنائي بين الرجلين.. وما جرى خلال هذا اللقاء بقي في كرسي الاعتراف من دون إعلان. ولعلّ أهم ما أعلن الى جانب <إعلان النيات>، وصف جعجع لعون بأنه يمثل أوسع كتلة مسيحية في لبنان. وما عدا ذلك، يبقى لقاء زعيمي التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية بجزئيه: الأول، في حضور نجميّ الحوار كنعان ورياشي. والثاني الذي اقتصر على عون وجعجع هو الحدث والأساس الذي لا بد وان يفرز اتفاقاً سياسياً يكرّس عملانياً ما توصّلت إليه لقاءات بكركي وفي طليعتها الاتفاق على ترشيح زعيم مسيحي قوي أخلاقياً وسياسياً وشعبياً لرئاسة البلاد، كما يتمكن بالنتيجة من ان يكون رئيساً لكل اللبنانيين، وهذا ما توافق عليه عون وجعجع على ما يبدو.
صحيح ان جهات سياسية لبنانية مؤثرة لم يرقها لقاء الرابية، ولا <إعلان النيات>، ولا التقارب الحاصل بين القوى الممثلة للمسيحيين، لكن في المقابل، فإن هذا اللقاء استقبلته الأوساط المسيحية على اختلافها بإيجابية وترحاب، وسيترجم كخطوة أولى بالإصرار على ضرورة إقرار مشروع قانون استعادة الجنسية للبنانيين المنتشرين في العالم في مجلس النواب قبل تشريع أي قانون آخر، بانتظار ان ينضج التوافق على رئيس الجمهورية القوي مسيحياً ولبنانياً، وهذا الاحتمال لم يعد مستبعداً بعد لقاء الرابية.