بين إسقاط الفتنة التي رمى إليها التفجير الإرهابي المزدوج في جبل محسن، وإسقاط <إمارة> سجن رومية بعد أقل من 48 ساعة، قاسم مشترك لا يمكن تجاهله وهو أن الأمن في لبنان هو <أمن سياسي> ولم يكن ولن يكون أمناً عسكرياً فقط مهما تطورت قدرات المؤسسات الأمنية عدداً وعتاداً وتوافر لها الدعم الدولي والإقليمي. ذلك أنه لولا الحوار السياسي القائم بين تيار <المستقبل> وحزب الله، لكانت محاور طرابلس قد اشتعلت مجدداً في جولة تحمل الرقم 24 كردة فعل على التكفيريين في جبل محسن. ولولا <الغطاء السياسي>، لما تمكن وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق من إنهاء <أسطورة> سجن رومية التي كانت فصولها تتعزز سنة بعد سنة، رغم تولي وزراء من تيار <المستقبل> مسؤولية وزارة الداخلية في السنوات الماضية. واستطراداً فإن أي محاولة لتعميم <الأمن الوطني> على البقاع الشمالي لن تحصل ما لم يتحصن قرار البدء بها بالتغطية السياسية المطلوبة.
من هنا، تقول مصادر مطلعة ان مجزرة جبل محسن التي حصدت 9 أبرياء وأكثر من 38 جريحاً، انتهت مفاعيلها السلبية بعيد ساعات من تشييع الضحايا وسط تزايد الأصوات من <الجبل> ومن طرابلس نفسها بضرورة <امتصاص> ما حصل ومنع اشتعال الفتنة التي خطط لها الذين نفذوا جريمة التفجير المزدوج في المقهى والذين كانوا يراهنون على أن يؤدي سقوط القتلى والجرحى الى ردود فعل انتقامية تعيد إشعال محاور طرابلس. وقد ساعدت زيارة الوزير المشنوق الى مسرح الجريمة ومواساته أهل الضحايا وإشادته بردود الفعل الهادئة لأهل المنطقة، في تعميم المناخات الرافضة لـ<الانتقام> مما حدث، وفي جعل طرابلس تنجو من فتنة محققة، ما أحيا الأمل - وفقاً للمصادر نفسها - في إمكان البناء على ما حصل لإقفال صفحة نزاع تاريخي مستمر منذ نحو 40 عاماً بين أهل <الجبل> وأهل الأحياء الطرابلسية المجاورة، ومنها <حي المنكوبين> الذي انطلق منه الانتحاريان طه الخيال وبلال مرعيان لتنفيذ الهجوم الانتحاري في جبل محسن. وقد تبين لاحقاً ان أحد الانتحاريين طه الخيال انتقل من جرود القلمون الى مخيم عين الحلوة في مدينة صيدا أواخر الشهر الماضي، حيث تواصل مع الإرهابي الفار شادي المولوي، ليعود في 8 كانون الثاني/ يناير الجاري الى طرابلس الى حين وقوع العملية الإرهابية.
تمدّد إرهابيين وأحزمة ناسفة
وفي الوقت الذي تتحرك فيه من جديد محاولات إعادة وصل ما انقطع بين طرابلس وجبل محسن خلال الاعوام الماضية، خصوصاً بعد انكفاء نواب المدينة عن زيارة <الجبل> وتقديم التعازي بضحايا التفجيرين، وتنشط لهذه الغاية الاتصالات بعيداً عن الإعلام ومحورها رئيس المجلس الإسلامي العلوي الشيخ أسد عاصي، لوحظ أن الرئيس سعد الحريري أوفد النائب أحمد فتفت لتقديم واجب العزاء مع الوزير رشيد درباس الذي مثل الرئيس تمام سلام في التعزية، ولم يوفد أي من نواب طرابلس <المستقبليين> لئلا تشكل زيارة أحدهم <ردة فعل> في الجبل الى حين يعود الهدوء والصفاء تدريجياً الى العلاقة بين أهالي <الجبل> وتيار <المستقبل>. إلا ان المصادر المطلعة ترى أن نجاح أي تواصل متجدد بين أهل طرابلس وأبناء <الجبل> يُفترض أن تواكبه إجراءات أمنية مشددة لملاحقة الإرهابيين الذين كلفوا بإشعال الفتنة من جديد في طرابلس والذين تمكنت القوى الأمنية من اعتقال بعضهم خلال الأسبوعين الماضيين، فأدلوا باعترافات واضحة عن <المهمات> الموكولة إليهم لإعادة إشعار المحاور الطرابلسية، ومن بين هؤلاء حسام النابوش الذي أوقفته مديرية المخابرات في الجيش بعدما رصدته وهو يتنقل بـ<حزام ناسف> وهو ينتمي الى <جبهة النصرة>.
وفي هذا السياق، تتحدث المصادر الأمنية عن أن أكثر من 400 شاب من طرابلس والشمال عموماً غادروا قبل سنوات الى سوريا للقتال ضد الجيش السوري النظامي، ومنهم من عاد الى طرابلس بعد تلقيهم الدروس القتالية اللازمة، وبعد <تجنيدهم> للقيام بعمليات انتحارية لإعادة التوتر الى المناطق اللبنانية عموماً والشمال خصوصاً، ولعل ما حصل في جبل محسن شكّل بداية لسلسلة ممارسات من ضمنها إلقاء قنابل ليلاً في أكثر من مكان لزرع البلبلة، والاعتداء على بعض النقاط العسكرية تنفيذاً لتعليمات ترد الى هؤلاء المسلحين من تنظيم <داعش> أو <جبهة النصرة>. وإذ تشدد المصادر الأمنية على امتلاكها معلومات دقيقة حول المنتمين الى <داعش> و<النصرة> الذين شكلوا خلايا إرهابية تنام وتصحو عند الحاجة، لفتت الى أن التضامن الذي برز بعد تفجيري جبل محسن يشكل ضمانة إضافية لمواجهة الإرهابيين، وهذا ما ظهر من خلال تعاون الأهالي في معظم المناطق مع الإجراءات الأمنية التي يتخذها الجيش، الأمر الذي ساعد على توقيف عدد من المطلوبين المتهمين بالإتصال بمجموعات إرهابية. إلا أن ذلك - تضيف المصادر الامنية - لا يلغي استمرار المحاولات لضرب الاستقرار في طرابلس والشمال، وكل لبنان عند الضرورة، من خلال تحريك الخلايا الانتحارية، وفق ما جاء في اعترافات موقوفين كشفوا عن تمدد عناصر <داعش> و<النصرة> في مناطق شمالية لتنفيذ اعتداءات إرهابية وفق توقيت قيادتي <داعش> و<النصرة>. ولفتت المصادر الى خطورة ما حصل خلال التحرك الاحتجاجي الذي حصل في البداوي الأسبوع الماضي تحت عنوان الانتصار لقضية الموقوفين الإسلاميين في سجن رومية، وتخلله رفع علم <داعش> في استفزاز واضح للدولة وأجهزتها العسكرية والخطة الأمنية في المنطقة. كذلك سجلت المصادر حادثة العثور على عبوة تزن 10 كيلوغرامات من المواد المتفجرة تمّ تفكيكها وهي كانت موضوعة على طريق مجدليا - طرابلس، إضافة الى العثور على سيارة مفخخة بما يزيد عن 120 كيلوغراماً من المواد الشديدة الانفجار كانت موضوعة على طريق ترابية قريبة من حاجز الجيش في منطقة عين الشعب بين عرسال واللبوة، وقد تمكن سائقها من الفرار. كل ذلك وسط حركة ناشطة لحملة الأحزمة الناسفة الذين يتحركون في الشمال وفي مناطق عدة بالتزامن مع عودة لوائح تحمل أسماء انتحاريين في سيارات مفخخة، ما استوجب تعزيز الإجراءات الأمنية في أكثر من منطقة لبنانية.
إسقاط <إمارة> سجن رومية
وتعتبر المصادر الأمنية أن الإنجاز الأمني غير المسبوق الذي تحقق في سجن رومية بعد 48 ساعة من تفجيري جبل محسن كان معداً للتنفيذ قبل ذلك التاريخ، إلا ان ساعة الصفر التي حددها الوزير المشنوق أملتها معطيات أظهرت أن ما حصل في جبل محسن أتى بالتنسيق مع <غرفة العمليات> التي أقيمت في سجن رومية منذ سنوات والتي تعزز دورها بعد بداية الحرب السورية وتوالي العمليات الإرهابية والتنسيق بين <النصرة> و<داعش>. وأظهر نقل السجناء من المبنى <ب> في سجن رومية الى المبنى <د> بعد إعادة تأهيله أن مقر إقامة السجناء الإسلاميين كان <محمية> بكل معنى الكلمة، ولم يكن يُسمح لقوى الأمن الداخلي بالدخول إليها أو التدقيق في محتوياتها من تجهيزات الكترونية ووسائل اتصال وأجهزة إرسال والتقاط وشبكة <انترنت> وخطوط خلوية إلخ... وأدى إسقاط هذه <الإمارة> الى قطع التواصل بين السجناء الإسلاميين والخارج ما سيساعد في الحد ولو نسبياً من قدرة الخلايا النائمة على التحرك في غياب <الأوامر> التي كانت تصلها من <القادة> الإسلاميين الموجودين في السجن. ويستدل أن عملية <عزل> السجناء عن بعضهم البعض ستساهم في <ضبط> تحركاتهم أكثر فأكثر، لاسيما بعد توزيع نحو 370 سجيناً إسلامياً على 180 غرفة، داخل المبنى <د> بمعدل سجينين من الموقوفين الإسلاميين داخل كل غرفة بات يقيم فيها سجناء بتهم جنائية أخرى، ولن يتعدى عدد السجناء في الغرفة الواحدة الثمانية.
والملفت في الإجراءات المتخذة بعد <تحرير> المبنى <ب> هو توزيع <القادة> وأعضاء <اللجنة الشرعية> على غرف المبنى <د> بشكل أدى الى قطع الاتصال بين أعضائها. وما سيساعد على تنفيذ الإجراءات بدقة <إتلاف> ما يعتبر <عدة الشغل> للإسلاميين من أجهزة تواصل واتصال، إضافة الى تجهيز المبنى <د> لمنع أعمال الشغب والتمرد والفوضى وفرض <الأمر الواقع>. ومن التجهيزات الأساسية أبواب حديد يستحيل خلعها وكاميرات مراقبة، وقد تقرر منع جلب الطعام من الخارج والاكتفاء بما <يُقدم> في السجن.
خطوات مكملة لـ <تحرير> رومية
وفي موازاة ما حققته عملية سجن رومية من مكاسب على صعيد إعادة السجن الى حضن الشرعية، تتحدث المصادر المطلعة عن <التنسيق الكامل والتام> بين الجيش وقوى الأمن الداخلي في تنفيذ العملية العسكرية، حيث كان فوج المغاوير بإمرة العميد شامل روكز في استعداد كامل للتدخل عند الحاجة، وكانت طوافات الجيش تحلّق في المنطقة لمراقبة أي تحركات داخل السجن أو خارجه. وتعلّق المصادر نفسها أهمية خاصة على استمرار هذا التنسيق الذي كان نموذجياً وأنهى عصراً من الفلتان في المبنى <ب> في سجن رومية، خصوصاً إذا ما تقرر تعميم إنجاز رومية لتنفيذ الخطة الأمنية في البقاع الشمالي للقضاء على الظواهر الشاذة المنتشرة في عدد من البلدات والقرى البقاعية، وللاستفادة من الحوار القائم بين تيار <المستقبل> وحزب الله بهدف توفير التغطية السياسية المطلوبة لإعادة سلطة الدولة الى مناطق اشتاقت إليها منذ سنوات.وترى مصادر معنية أن <إنجاز> سجن رومية لن يكتمل ما لم تتخذ سلسلة خطوات أولها البدء بمحاكمة الموقوفين الإسلاميين الذي قضى بعضهم نحو عشر سنوات من دون محاكمة، وسيكون على المجلس العدلي أن يفعّل جلساته بعدما بات في إمكان العناصر الأمنية جلب الموقوفين الى قاعة المحكمة، وكان هؤلاء قد امتنعوا عن المثول أمام هيئة المجلس العدلي مرات عدة، ما أرجأ النظر في محاكمتهم إذ تتعذر المحاكمة غيابياً مع وجود المتهمين موقوفين. بالتزامن - تضيف المصادر نفسها - لا بد من إحكام السيطرة على سائر مباني سجن رومية خصوصاً، وكل السجون عموماً، ووضع حد للفساد الذي يعشش فيها خصوصاً بعد توقيف عسكريين من مختلف الرتب تورطوا في تهريب وسائل اتصال وممنوعات الى السجناء في سجن رومية، وهذا ما بدا واضحاً من كلام وزير الداخلية الذي هدد <بقطع رأس> أي ضابط أو عسكري يسهّل إدخال ممنوعات الى السجن، كما كان يحصل في السابق، ولدى الوزير المشنوق خطة لإعادة تأهيل سجن رومية وبناء سجون أخرى في عدد من المناطق اللبنانية، إضافة الى تحسين أوضاع السجناء وتنظيم دورات تدريب لإعادة تأهيلهم.
الى البقاع الشمالي... درّ!
وفي الوقت الذي تمتنع فيه المصادر الأمنية عن تحديد موعد بدء الخطة الأمنية في البقاع، تشير الى أن عامل المفاجأة يلعب دوره في نجاح مثل هذه العمليات العسكرية التي ستتم من خلال خطة أمنية <صارمة ودائمة> للحد من تجارة المخدرات والخطف لابتزاز أهالي المخطوفين مادياً، وسرقة السيارات وغيرها من الأعمال المشينة التي أساءت الى سمعة أهالي منطقة بعلبك - الهرمل الذين يرفعون الصوت مطالبين بتدخل الدولة لإعادة الأمن والاستقرار الى المنطقة، مع إلحاحهم على وضع خطة إنمائية يرصد لها المال اللازم لتأمين فرص عمل لشباب المنطقة المحرومة من <نِعم> الدولة وخيراتها.
وفي الوقت الذي سجلت فيه مراجع سياسية وأخرى بقاعية انه من الخطأ الحديث المسبق عن فرض الأمن في البقاع الشمالي لئلا يؤدي ذلك الى هروب المطلوبين، كما حصل قبيل تطبيق الخطة الأمنية في طرابلس، أبدت مراجع حزبية استغرابها لتحديد بلدة بريتال كمحطة أولى في إطار تنفيذ الإجراءات الأمنية الموعودة، مشيرة الى أن التركيز على هذه البلدة يُفسح في المجال أمام تواري المطلوبين فيها عن الأنظار، ويجعل نجاح الخطة الأمنية أو فشلها مرتبطين بما سيحصل في بريتال، خصوصاً أنه من غير الجائز <حصر> الفلتان الحاصل في البقاع ببلدة واحدة، في حين ان المعاناة الأمنية تمتد الى أكثر من بلدة. ولفتت المراجع الحزبية الى ان <الهيصة> التي أعطيت للإجراءات المنوي تنفيذها في بريتال لا تأتلف مع الواقع القائم ومع <جدية> العمل الأمني الذي ينتظره البقاعيون بفارغ الصبر، داعية المعنيين الى التعاطي بواقعية أكثر وبتواضع في مقاربة تنفيذ الخطة الأمنية بقاعاً، لئلا يكون نصيبها هذه المرة كما حصل في المرات السابقة التي كانت فيها الإجراءات الأمنية <استعراضية> ولم تدم طويلاً، إذ سرعان ما كان الوضع يعود الى ما كان عليه قبل تنفيذ الإجراءات، فضلاً عن <النقص الحاد> في الوجود الأمني في المنطقة نتيجة النقص في عديد قوى الأمن الداخلي رغم المطالبات العديدة بزيادة عدد القطعات العملانية وتجهيز المخافر والفصائل بالآليات والأسلحة الكافية، فضلاً عن استحداث سرية لقوى الأمن الداخلي في الهرمل، وغيرها من الإجراءات.
ورأت مراجع أمنية أن ما حصل في بريتال لجهة القبض على شربل خليل المتهم بالتحريض على اغتيال الشاب إيف نوفل في منطقة فاريا - كفرذبيان يعتبر <عملية نظيفة> تشبه عمليات أخرى نفذت في المنطقة، ويفترض أن تتكرر عندما يبدأ العد العكسي للخطة الأمنية بقاعاً. وقد رفضت المراجع نفسها إقامة أي رابط بين عملية سجن رومية، والعملية المنتظرة في البقاع الشمالي، نافية منطق <المقايضة> الذي تردد صداه بعد إنجاز سجن رومية، علماً أن الأمرين تم الاتفاق المسبق عليهما، أما مسألة توقيت التنفيذ، فقد تركت للأجهزة الأمنية والعسكرية.