في ذكرى مجزرة اهدن .... وما تلاها من مجزرة في القاع ــ رأس بعلبك
حين نعود الى كتاب الحرب اللبنانية، نشعر فوراً ان صفحاته ملونة بالدماء البريئة التي سالت، ومليئة بصور ضحايا مجازر متنوعة كانت من صنع قاتل واحد، ومن إخراج أعداء لبنان الذين تآمروا على وطن النور، فزرعوا الموت واليباس في ربوعه... ففي ذكرى مجزرة اهدن وما تلاها من مجازر طالت بلدات القاع والفاكهة ورأس بعلبك، نفتح كتاب الجروح لنتذكر المآسي التي حلت بوطننا، حتى لا نعود لتكرار حرب عبثية كانت فعلاً <حرب الآخرين على ارضنا>، كما قال الكبير الراحل غسان تويني، ونحن نعيش ذكرى رحيله الثانية.
في 13 حزيران/ يونيو 1978، وقعت مجزرة إهدن، وهو الاسم الذي أطلق على الهجوم الذي قامت به عناصر من حزب الكتائب على بلدة إهدن والذي أدى إلى مقتل مسؤول ميليشيا <المردة> النائب طوني فرنجية وزوجته فيرا وابنته جيهان وعدد من أنصاره.
وقعت المجزرة بعد أن بلغ التوتر ذروته بين <المردة> وحزب الكتائب في منطقة الشمال اللبناني، وقد ظهرت بوادر الانشقاق بين الطرفين المنتميين إلى الجبهة اللبنانية بعد تنامي الخلاف بين سليمان فرنجية وباقي أعضاء الجبهة حول الدور السوري إضافة إلى التنافس التقليدي بين الحزبين. وزاد الخلاف مع محاولة الشيخ بشير الجميل توحيد البندقية المسيحية تحت راية القوات اللبنانية. التوتر والاشكالات أديا الى مقتل مسؤول الكتائب في منطقة زغرتا ــ الزاوية جود البايع عند ساحل عكار، لذا قرر الشيخ بشير الجميل القيام بعملية عسكرية تكون بمنزلة عملية تأديب وانتقام، واختلط الحابل بالنابل وأدت العملية الى مقتل طوني فرنجية وزوجته فيرا قرداحي وابنته جيهان البالغة من العمر سنتين ونصف السنة وأكثر من ثلاثين من أنصاره.
أدى حدوث المجزرة إلى تفجير الوضع بين <المردة> وسوريا من جهة والجبهة اللبنانية من جهة أخرى وكان عاملاً مهماً في اندلاع حرب المئة يوم في صيف 1978.
وباتت مجزرة اهدن اشكالية، وموضع جدل، خصوصاً حول المسؤول عن وقوعها، فيحاول البعض توجيه أصابع الاتهام نحو الدكتور سمير جعجع الذي كان من المشاركين في الهجوم على اهدن، الا ان الروايات تؤكد انه أصيب بيده قبل الوصول الى قصر فرنجية.
من المسؤول؟
وفي هذا الصدد، أشارت مصادر في «القوات اللبنانية» الى أنه «في إطار حملات التجني المستمرة للنيل من «القوات اللبنانية» ان كل الادعـــــاءات لجهـــــة تحميــــل مسؤولية حادثة اهدن لرئيس الهيئة التنفيذيـــــة في «القوات اللبنانية» سمير جعجع، هي أكاذيب تناقض كل الوقـــــائع والحقائق التاريخية، وتناقض مواقف النائب ســــليمان فرنجيـــــة الذي يعرف هوية المسؤول الحقيقي ولم يجد اي حرج في التحالف معه نزولاً عند رغبة السوريين. وقد أقر فرنجية علانيـــــة لبرنامج «كلام الناس» بتـــــاريخ 6 آب/ أغسطس 2009 انــــه «تصالح مــــع الذي قتل والده ووالدته>، وذلك بعدما نفى علانية خلال الشريط الوثائقي الذي عرضته محطة «او تي في» حول حادثة إهدن في حزيران/ يوينو 2008 اي علاقة لجعجع بالأمر.
وتابعت المصادر ان «حادثة اهدن المؤسفة والمستنكرة لم تأتِ من عدم وإنما سبقتها سلسلة اغتيالات سياسية مروعة نفذها «المردة» بحق عدد من المدنيين والمسؤولين الكتائبيين، وعلى رأسهم رئيس إقليم زغرتا - الزاوية جود البايع وتلتها موجة من التصفيات الجسدية والتهجير الجماعي. وفي الحقيقة ان فرنجية لو كان يمتلك أي دليل يدين جعجع لما تأخر عن إبرازه امام القضاء لحظة واحدة.
وكان النائب السابق سليمان فرنجية وفي احدى مقابلاته في برنامج <كلام الناس>، وردّاً على سؤال للزميل مارسيل غانم: لماذا سجن حنّا شليطا 8 سنوات من دون محاكمة؟ يقول سليمان فرنجية: ما خصني. كان الرئيس إميل لحود مرشحاً لرئاسة الجمهورية ومعه اللواء جميل السيد، وكان ايلي حبيقة في وجههمــــا، وكان حنا شــــــليطا في وزارة الدفاع ويقول ان ايلي حبيقة كان في مجزرة أهدن. كانا (لحــــود والســــيد) يحاولان إحراج حبيقـــــة. <أنا أعرف انه اعترف لإحراج حبيقة، اي اعترف بأن حبيقة قاتل>.
دماء في القاع- رأس بعلبك
لكن مجزرة اهدن لم تمر بشكل عادي، فكان لا بد من قيام جهات غريبة امتهنت اشعال الفتن بمجزرة مضادة حتى يتم تصويرها على انها انتقام لما جرى في اهدن، فماذا حصل؟
عندما غفا رجال البلدات المسيحية في البقاع الشمالي، بانتظار بزوغ الفجر للتوجه الى حقولهم، لم يدروا أن عدداً منهم سيكون مع بزوغ الصباح ضحية الغدر، وسينضم إلى قافلة شهداء الوطن. كانت ليلة الثامن والعشرين من حزيران/ يونيو عام 1978، هادئة في بلدات القاع، رأس بعلبك، جديدة الفاكهة، لولا أصوات الشاحنات التي أقلت حوالى 200 مسلح بلباس مدني، انطلقوا يداهمون البيوت، يعتقلون الرجال، في ظل أجواء متوترة نجمت عن مجزرة اهدن، وعمد المسلحون الى خطف 26 شاباً جرت تصفيتهم بدمٍ بارد.
ماذا حصل؟
بالاستناد الى احد التقارير السرية الذي تلقته الاجهزة الامنية في تلك الفترة <أنه نحو الساعة السادسة من مساء الثلاثاء 27 حزيران/ يونيو، شوهدت عناصر ا
لوحدات الخاصة السورية في بلدة القاع بقيـــــادة ضابط برتبة رائد يدعى علي ديب، تقوم بنــــزع ثيـــــابها العسكريـــــة وارتــــــداء ثيــــــاب مدنيــــة، قـــــــامت بدخــــــول أحيــــــاء بلـــــدة رأس بعلبك، حيث تم اقتياد مجموعة من ستة شبان، وفي الوقت نفسه دخلت مجموعة أخرى بلدة <جديدة الفاكهة> لتقتاد خمسة آخرين، وقامت قوة من المجموعة نفسها بمداهمة بلدة القاع وكانت تحمل لائحة تضم أسماء بعض أبناء القاع، واعتقلت 15 شاباً من منازلهم.
وادي الرعيان
وفق التقرير ان العديد من الأهالي تعرفوا على المسلحين وتحدثوا مع عدد منهم، وان إحدى السيدات من قرية البزالية البعلبكية أخبرت أحد عناصر الأجهزة الأمنية اللبنانية أنها شاهدت سيارات عسكرية سورية تنقل أشخاصاً مدنيين شرق البلدة في محلة وادي الرعيان، وسمعت لاحقاً دوي إطلاق رصاص بغزارة، ثم شاهدت السيارات تعود خالية من الأشخاص، وعلى أثر المعلومات التي أدلت بها السيدة توجه العنصر اللبناني إلى الموقع الذي أشارت إليه فوجد جثث 26 شاباً مكبلي اليدين من الوراء ومرمية على الأرض وممزقة بالرصاص.
نفي سوري وتهديد
وعمد ضباط الوحدات الخاصة السورية الى نفي علمهم بما حصل، ومحاولة طمس الحقائق، وتضليل التحقيق ولجأوا الى تهديد الاهالي ومنعهم من تقديم شكوى قانونية وهذا ما أكده محضر قوى الامن الداخلي، فصيلة رأس بعلبك عدد1/302 بتاريخ 28/6/1978 .
التقرير السري ذكر أسماء ورتب الضباط السوريين الذين قادوا المجموعات العسكرية داخل البلدات المذكورة، وأسماء العناصر الملثمة التي ينتمي أصحابها الى حزب لبناني وهم من رأس بعلبك.
الأب بركات: الأمن السوري
الأب ميشال بركات خادم رعية الروم الكاثوليك في بلدة <جديدة الفاكهة> في تلك الفترة أشار خلال حديثه مع < الافكار> الى هذه المجزرة مؤكداً أنه حوالى الساعة الواحدة من فجر 28 حزيران/ يونيو دخل رجال مسلحون يرتدون الثياب المدنية في الوقت نفسه إلى القرى المسيحية القاع، رأس بعلبك، وجديدة الفاكهة، وعرّفوا بأنفسهم أنهم من الأمن السوري، بعث بهم قائد القطاع ليأتوه بعدد من الأشخاص كي يستجوبهم في بعض المسائل، ثم يعودوا إلى بيوتهم. وهكذا أوقفوا الشبان واقتادوهم إلى مكان منعزل، مقفر.
تهجير المسيحيين
واضاف: مساء 28 حزيران/ يونيو استدعاني الرائد السوري علي ديب وكلّفني التوجه إلى بلدة البزالية لنقل الجثث وتسليمها إلى أهاليها، فذهبت إلى مكان ارتكاب المجزرة في وادي الرعيان، وذعرت عندما شاهدت الجثث مصفوفة بعضها إلى جانب بعض ووجوهها إلى الأرض لأن رصاصاً غزيراً إخترقها من قفا العنق. ثم تمالكت نفسي وأخذت أجمع الجثث بمساعدة بعض الجنود، فكومناها في شاحنتين، ثم أخذناها كلاً إلى قريتها، ولم نتمكن من نقل الجثث إلى الكنائس إلا بصعوبة كبيرة، وصباح 29 حزيران/ يونيو قمنا بدفن ضحايانا.
ونفى الأب بركات أن يكون الهدف من المجزرة الانتقام لضحايا مجزرة إهدن، بل هدفها تهجير المسيحيين من منطقة البقاع الشمالي الى بيروت.
استنكار واتهامات
وفي محاولة إبعاد الشبهات عن المنفذين الحقيقيين، عمدت بعض الأبواق الحليفة لسوريا الى تشييع أخبار أن منفذي المجزرة هم من الزغرتاويين رداً على مجزرة إهدن، لكن أحداً لم يقتنع بهذه الروايات. وقد نقلت الصحف المحلية الصادرة نهار الجمعة 30 حزيران/ يونيو 1978 تصريحاً للرئيس كميل شمعون أدلى به إثر انتهاء إجتماع الجبهة اللبنانية اعتبر فيه أن اتهام <المردة> الزغرتاويين بمجزرة البقاع الشمالي <كاذب كاذب كاذب>، وهو يعرف الذين قاموا بهذا العمل البربري وسيكشفهم قريباً. أما دمشق ففي أول تعليق رسمي نقلته وكالة <سانا> الرسمية منتصف ليل 30 حزيران/ يونيو، اتهم المعلق السياسي عملاء جريمة إهدن بتنفيذ مجزرة القاع ورأس بعلبك وجديدة الفاكهة، معتبراً الشائعات التي تنشر حول ظروف الجريمة هي محاولة لتضييع التحقيق ونشر البلبلة وجو من الذعر بين الأهالي. وأعلن المعلق السياسي إدانة سوريا بشدة لهذه الجريمة البربرية التي لا يستفيد منها سوى أعداء لبنان لتفجير الوضع الأمني وإعادة طرح مخطط التقسيم وهو الأمر الذي لن تسمح به دمشق على الإطلاق.أثارت مجزرة البقاع الشمالي حملة واسعة من السخط والاستنكار شملت معظم القيادات اللبنانية التي استنكرتها بشدة وطالبت بمعاقبة المسؤولين عنها، فعقد مجلس الوزراء اللبناني يوم 29 حزيران/ يونيو جلسة استثنائية برئاسة الرئيس الياس سركيس. وبعد الجلسة أعلن رئيس الحكومة سليم الحص ان ما حدث في البقاع جريمة نكراء لا يمكن أن يقبل بها عقل أو ضمير. ثم استقبل رئيس الجمهورية بطريرك الروم الكاثوليك مكسيموس الخامس حكيم يرافقه وفد من مطارنة الطائفة الكاثوليكية، أطلعوا الرئيس سركيس على حقيقة ما جرى في قرى البقاع الشمالي، كما عقد المجلس الأعلى لطائفة الروم الكاثوليك جلسة طارئة برئاسة البطريرك حكيم قرر على أثرها الطلب من الحكومة ارسال الجيش اللبناني إلى القرى المفجوعة لحماية الأهالي وإعلان يوم السبت في الأول من تموز/ يوليو 1978 يوم حداد وطني على الشهداء، وقرر المجلس قيام البطريرك حكيم نهار الأحد 9 تموز/ يوليو على رأس وفد من المطارنة والقيادات الكاثوليكية بزيارة القرى المفجوعة لمحاولة بلسمة جراح الأهالي. وفي أول تعليق له بعد تلقيه النبأ، أعلن الرئيس كميل شمعون أن الضحايا اعتقلت من منازلها وفق لوائح اسمية ولن يتم السكوت عما جرى، أما الشيخ بيار الجميل فاكتفى بالقول: <بعد كل المآسي التي مر بها لبنان أكتفي بالقول: الله يشفق على لبنان وعلى كل المنطقة>.
مطر: القضاء الدولي
وقال المحامي بشير حنا مطر في حديث مع <الافكار>: <ان هذة المجزرة لا تختلف عن المجازر التي يرتكبها النظام السوري في هذا الزمن، في عدد من المدن السورية، وهي استهدفت العزل، والمدنيين الآمنين، وتضاف الى السجل الاجرامي لهذا النظام الذي أمعن في الاغتيالات في لبنان، وسنعمل ما بوسعنا لتحويل هذا الملف الى القضاء العدلي والقضاء الدولي>.
واعتبر مطر <ان ما نسمعه اليوم عن تدخل سوري في منطقة مشاريع القاع، وعن اعتداءات على الارض، يعود سببه لهذه المجزرة التي كانت الأساس في هجرة العديد من أبناء القاع لبلدتهم، وأراضيهم التي استولى عليها عدد من اللبنانيين والمجنسين والتي باتت أرضاً مشاعاً وسائبة..>.