بقلم عبير انطون
العام المقبل تحتفل بعلبك بمهرجاناتها الستين . أحجار كريمة من زمرد وياقوت زينت جيد القلعة التاريخية في منطقة لها موقعها الجغرافي المميز ، ولها مواقعها التاريخية في المراحل المتعاقبة . مدينة الشمس ، جارة القمر ليست اليوم في احلى حالاتها مع العواصف العاتية التي تلف المنطقة العربية بأسرها ، فالنار والارهاب والعسكر المخطوف ليست بعيدة عنها ، وهي الى كل ذلك ستبقى منتصبة تشهد للفن والجمال والفرح . هذه المرة ، بعلبك هي المكرمة وبمهرجان ضخم كبير ، كرد جميل لمن جعلت لبنان كما غيرها من المواقع الاثرية متحفاً مفتوحاً على امتداد العشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومتراً مربعاً.
فماذا في بعلبك من استثنائي لهذا العام؟ ما علاقة فرنسا و<اكس ان بروفانس> تحديداً بقلعة <بعلبق> التي ذكرها أنيس فريحة في كتابه <أسماء المدن والقرى اللبنانية> وتعني <بعل> اي <مالك> أو <سيد> أو <رب> وكلمة <بق> وتعني البقاع؟ ما دور كل من ناديا تويني وصلاح ستيتية وعبد الرحمن الباشا ومارسيل خليفة ورفيق علي أحمد وكل الأسماء اللامعة التي تجتمع لترد الجميل لقلعة ومدينة تحتفل كل عام- الا استثناء - بين مدارج الهياكل والمعابد؟
تحدٍ.. وعربون وفاء
رئيسة مهرجانات بعلبك نايلة دو فريج ضاعفت جهودها مع عدد من أبرز الفنانين والمثقفين لتعلن مبكراً هذا العام عن الاحتفال الضخم. ستقدم هذه الاحتفالية في قلعة بعلبك في الحادي والثلاثين من شهر تموز/ يوليو بحضور الكتّاب والموسيقيين المشاركين الوافدين من الخارج، برفقة الأوركسترا <الفيلارمونية اللبنانية> إلى جانب نخبة من الفنانين اللبنانيين. وسينظم الحفل على أدراج معبد باخوس ليكون العرض الافتتاحي موسيقى وغناء وشعراً باللغتين العربية والفرنسية مع ترجمة مباشرة من إنتاج مهرجانات بعلبك الدولية.
تقول دو فريج:
- لقد اجتمعنا هذه السنة في وقت أبكر من سائر السنوات لنعلن بفخر عن تنفيذ مشروع عزيز على قلبنا، وهو في طور التحضير منذ شهور عدّة وعنوانه: <إلِك يا بعلبك>. وهي تحيّة الى بعلبك المدينة، الهياكل والمهرجان. كما يعلم الجميع، تمرّ بعلبك بظروف صعبة منذ أكثر من سنتين ورأينا ان من واجبنا التصدّي لهذه الصعوبات ومجابهة القدر إن صحّ التعبير. انه من مسؤوليتنا التذكير بالأهمية الثقافية والسياحيّة لهذه المدينة وموقعها الساحر الذي يدفع باللبنانيين والأجانب الى الحلم والإلهام . لقد قرّرنا تنظيم احتفالية كبيرة تجمع الجمهور، الفنانين، الشعراء والموسيقيين في سهرة استثنائيّة مهداة الى بعلبك.
لتحقيق هذا التكريم، اتصلنا بهؤلاء اللبنانيين المبدعين الذين يرفعون عالياً مشعل الثقافة اللبنانية في العالم والذين تربطهم علاقة خاصة ببعلبك وطلبنا منهم تأليف أعمال موجزة، موسيقية، أدبية او شعريّة يهدونها الى بعلبك. أقرّ بأن هذا المشروع لم يكن ليرى النور لولا تشجيعهم واندفاعهم والتزامهم الفوري.
ترغب لجنة مهرجانات بعلبك الدولية بوضع هذا الحدث في خانة التضامن والتعددية. لذلك، لم نطلب من مبدعينا فقط أعمالاً فنية، بل دعوناهم للقدوم الى بعلبك مساء العرض والإمساك بالأيادي ليعبّر كلّ فرد عن مدى تعلّقه ببعلبك.
وتضيف دو فريج بحماسة:
- هذا العمل الفني الذي سيعرض في بعلبك مع الأوركسترا <الفيلهارمونيّة اللبنانيّة> بقيادة المايسترو <هاروت فازليان> تمّ تصميمه ليتم عرضه في أنحاء العالم كافة، وهكذا يمكن تعديله حسب مكان العرض مع الحفاظ على جوهر هذا التكريم لبعلبك في عنصريه الموسيقي والأدبي. ويمكن أن يعرض بأشكال مختلفة من الحفل الموسيقي الذي يقتصر على الغناء والشعر والعزف على البيانو، الى الحفل <الأوركسترالي> مع عزف منفرد وجماعي، فهذا العمل سيعرض، بنسخة حميمية، يوم 7 تموز/ يوليو المقبل في مهرجان (Aix-en provence) وما يسعدنا جداً هو أن بطاقات هذا العرض في فرنسا نفذت جميعها ويدرسون الآن إمكانية عرضه في <مرسيليا> ولدينا اتصالات عديدة لعرضه في عواصم مختلفة من العالم. وكما يقول الدكتور طالب رفاعي أمين عام منظمة السياحة العالمية ان مهرجان بعلبك هو بمنزلة <براند> أي شعار، فمن واجبه حمل رسالة لبنان الثقافية والسياحية عبر العالم .
الأظن .. وحلم بعلبك
نبيل الاظن ، المخرج - الربان في عمل <إلك يا بعلبك> له بالمدينة علاقة خاصة. هي المرة الثانية التي يشارك فيها في مهرجاناتها بعد أولى له أخرج فيها مسرحية لجورج شحادة (L’Émigré de Brisbane) عام 2004 كما كان قد أصدر كتاباً بالفرنسية حول الرئيسة السابقة لمهرجانات بعلبك ميّ عريضة بعنوان <مي عريضة حلم بعلبك>.
الأظن المولود في الأشرفية في بيروت كان يتابع دراسته العليا بدرجة <ماجيستير> في العلوم السياسية والإدارية في جامعة القديس يوسف عندما اندلعت الحرب في لبنان. أقام في باريس واكتشف هناك شغفه بالمسرح وتخصص به في جامعة <السوربون>. وهو يبدي اهتماماً خاصاً بالكتابات الدرامية المعاصرة ويطوّر مبدأ <العالم المسرح>، وذلك عبر إحياء عروض متقاطعة الثقافات قادته إلى معظم بلدان الشرق الأوسط إضافة إلى الصين وإيسلندا وبلجيكا، ونال وسام الفنون والآداب في باريس عام 1993.
حول <إلك يا بعلبك> وما سيتضمنه يشرح المخرج:
- لقد دعوت فنانين لبنانيين يعيشون في الخارج للعمل مع آخرين يقيمون فيه لنعمل سوياً. النصوص المختارة للعمل تعود لأدونيس، ناديا تويني، طلال حيدر، صلاح ستيتيه، إيتيل عدنان، عيسى مخلوف، وجدي معوض، والموسيقى لعبد الرحمن الباشا، بشارة الخوري، غدي الرحباني، ناجي حكيم، مرسيل خليفة، ابراهيم معلوف، زاد ملتقى وغبريال يارد. والأداء للأوركسترا <الفيلهارمونية اللبنانية> بقيادة المايسترو هاروت فازليان، وغناء ونصوص: فاديا طنب الحاج، وتمثيل رفيق علي أحمد مع مشاركة استثنائية لمارسيل خليفة في قطعة تؤديها الاوركسترا واغنية ستشكل مفاجأة المهرجان، فضلاً عن ابراهيم معلوف (ترومبيت)، فرقة دبكة <المجد البعلبكية>، بإشراف خالد نبوش، طارق رمو (رقص بهلواني).
وختم الاظن ان تصميم الأزياء يعود لربيع كيروز، صور <فيديو> لعلي شري، الإضاءة لـ<فيليب لاكومب>، وتنسيق الموسيقى لرنيه صالح كيالي، ومساعد مخرج هو نديم دعيبس.
الرحابنة وبعلبك
غدي الرحباني سعيد بمشاركته في الهدية الى بعلبك . المؤلف والموسيقي والشاعر والكاتب ومنتج وقائد الاوركسترا ولد في عائلة عريقة بالإبداع الموسيقي وتربى على يد أبيه منصور الرحباني الذي افتتح يوماً ضمن المثلث الذهبي عاصي منصور وفيروز مهرجانات بعلبك العربية اللبنانية سنة 1957. لهذه المشاركة كتب قصيدة جديدة عنوانها <بعلبك> تحمل رسالة فيها كثير من الحنين والقساوة معاً علها توقظنا من الغيبوبة التي نغرق فيها كلبنانيين. القصيدة ألّفها ولحنها ووزعها غدي، وستؤديها فاديا طنب الحاج وهي مهداة أصلاً إلى <ثالوث الرحابنة> .
من ناحيتها، تعتبر طنب، وهي من مغنيات الأوبرا، من القليلات اللواتي يجمعن بين تقنيات الصوت الشرقية والغربية ولقد أمضت سنين المراهقة في لبنان كمغنية منفردة في أكثر من عمل للأخوين رحباني، قبل ان تسافر الى <ميونيخ> لتتابع دراسات متقدّمة في الغناء الكلاسيكي والاوبرا في <كونسرفاتوار> الدولة وتتخصص بالأناشيد الدينية ان بعلبك تستحق التكريم مشيرة الى ان <مشاركتنا في العمل بمنزلة مهمة وطنية نقوم بها>.
من ناحيته، الممثل القدير رفيق علي أحمد الذي سبق له ان شارك في اعمال الرحابنة المسرحية ايضاً، وهو المعروف ايضاً بتمثيله منفرداً على خشبة يملؤها فناً ووجعاً وجمالاً، اعتبر مشاركته في بعلبك كمن يشرب من نبع حب بعلبك والوطن كله.
الأمن .. ممسوك؟!
الاحتفال ببعلبك سيأخذ شكل العيد، وستتداخل الأغاني والموسيقى والنصوص واللغات وتعابير الجسد والصورة في بَوتقة واحدة، وفق صيغة مبتكَرَة ومتنوّعة وُضعَت خصيصاً لإحياء هذا الحدث، وفي إطار ساحر يُنَوِّر سماءَ القلعة وتتردّد أصداؤه في أرجائها ليعكس صورة الإبداع الفني في أشكاله المختلفة. وستكون نهاية الاحتفال، كبدايته، إيذاناً باللحظة القصوى لقوس قزح بألف لونٍ ولون.
اذاً، الجهود جبارة والجميع متحمسون. لكن ماذا عن الاوضاع الأمنية في المنطقة وهل ستعيد المهرجانات الكرة وتنقل فاعليات المهرجان الى مناطق اكثر اماناً في الوطن؟
وزير السياحة ميشال فرعون قال ان الجيش أمّن السنة الماضية نجاح المهرجانات، ولا بد من شكره لوجوده في أكثر من 190 نقطة أمنية في بعلبك وحولها، بحيث تحوّلت إلى مدينة آمنة أكثر من بيروت متابعاً:
- سأروي لكم قصة حدثت معي بعد عملية خطف الجنود اللبنانيين في عرسال. فبعد مرور نحو أسبوع، اتصل بي قائد الجيش قائلاً لي انه بالرغم مما حصل وبالرغم من سقوط الضحايا لدى الجيش، فإذا أردتم إقامة حفلة أو حفلتين في بعلبك، فالجيش مُستعد لتأمين الحماية.
من جهته ، تمنّى محافظ بعلبك الهرمل بشير خضر <أن تكون كل الحفلات في المدينة ولا نضطر إلى نقل أي حفلة خارجها>، اما رئيس بلديتها حمد حسن، فأكد ان <هذا التحدّي هو حقيقي وواقعي لأننا نؤمن بمُقاومتنا الثقافيّة والفنيّة تجاه أعداء الحياة والإنسانيّة>.
من ناحيتها، استبشرت عرابة المهرجان الوزيرة ليلى الصلح حمادة خيراً بالمهرجان في هذه المنطقة التي كانت ولا تزال نموذجاً للعيش المُشترك والوحدة الوطنية، فعندما ترى ما يجري في القاع ورأس بعلبك، مقاتلين من جميع الفئات والأحزاب والملل يُدافعون عن هذه القرى، ترى ان الإنتماء للوطن لم ولن يضيع، وسيبقى لبنان دائماً سيداً عزيزاً مستقلاً. أما وزير الثقافة روني عريجي فاعتبر ان إقامة الاحتفال هو فعل تشبث بعراقة مدينة الشمس ورمزية مهرجاناتها.
كل المجتمعين في العمل يدركون الظروف الصعبة الناتجة من تداعيات الحرب السورية على لبنان. ومن المعروف أنّ المعارك التي اندلعت في عرسال السنة الماضية دفعَت باللجنة التنفيذية الى تقديم نشاطات المهرجان في بيروت بعد حفلات الافتتاح الثلاث التي استقطبت جمهوراً واسعاً.
اذاً، تعي لجنة مهرجانات بعلبك حجم العقبات والتحديات التي تواجهها ومع ذلك واستجابةً لهذه التحديات، قرّرت افتتاح موسمها للعام 2015 بهذا الاحتفال الضخم. مُهدى إلى... بعلبك، كمن يردّ الوديعة إلى أصحابها.
جمهور من الكتّاب والموسيقيين والفنانين اللبنانيين سيرفعون عالياً اسم لبنان في العالم، بالإضافة إلى مبدعين لبنانيين تجمعهم بالقلعة أواصر صداقة قديمة. لقد طُلبَ منهم أن ينجزوا شهادات أدبية وفنية مقتضبة تكون بمنزلة تحيّة إلى بعلبك وما يرمز إليه هذا الصرح الأثريّ، بل وما يمثّله على المستوى الثقافي في لبنان والعالم .