كأننا في لبنان والمنطقة نعيش شعر أمير الشعراء أحمد شوقي: <اطرح النار يا فتى/ أنت غادٍ على خطر>. فالخطر يحدق بنا من كل مكان، وجاءت أحداث غزة لتفاقم هذا الخطر. فعندكم لجهة الشرق تنظيم <داعش> واعداماته الميدانية، وتسببه في تهجير قوافل جديدة باتجاه سوريا، لا بدأن تحط رحالها آخر الأمر في لبنان. ومن الجنوب يخشى أن تستغل اسرائيل هذه الصواريخ العشوائية التي تنطلق من قرى جنوبية على شمال الأرض المحتلة لتشعل حرباً مع لبنان، ولا تجد حركة المقاومة مناصاً من دخول هذه الحرب وارسال ما استجد عندها من صواريخ لتسقطها فوق حيفا ويافا وتل أبيب والمستعمرات!
وفي الداخل تتحرك الأحداث في طرابلس، وكل يلقي بالتهمة على الآخر. وفي العاصمة بيروت، مركز السلطة، تغيب السلطة الرئاسية، لشغور مقعد الرئاسة الأولى، وتتوارى السلطة التشريعية فلا جلسة برلمانية، ولا مطرقة تشريع تلوح في يد الرئيس نبيه بري، وتترنح السلطة التنفيذية التي تحمل بعض صلاحيات رئاسة الجمهورية، ولا تستقر على حال، الى درجة يهدد معها الرئيس تمام سلام بالاستقالة، وتحويل الحكومة الى مهمة تصريف الأعمال لا أكثر!
في هذا الجو المشبع بالتوترات والجمود في السلطات الثلاث، يأتي تصريح لمنسق الأمم المتحدة المقيم للشؤون الانسانية <روس ماونتن> ليقول: <إن لبنان يواجه خطر التفتت كدولة ألقي على عاتقها عبء مليون ومئة ألف لاجئ سوري>.
وزاد <ماونتن> قائلاً:
<إن الأمر لم يعد مسألة طوارئ انسانية بل كما وصفه رئيس سابق (العماد ميشال سليمان) بأنه يواجه أزمة تتعلق بوجود لبنان وبأمن البلاد واستقرارها>.
وعندما يتكلم <ماونتن> فهو في هذا الكلام رسول الأمين العام للأمم المتحدة <بان كي مون>. وهذا تأشير واضح على أن الانقاذ في لبنان هو مهمة اللبنانيين أولاً، لأن العالم مشغول بتوترات أخرى، والدول المانحة ــ كما يقول <ماونتن> ــ لم تف بالتزاماتها لدعم الإغاثة في لبنان.
ومثلما يلفتنا تصريح <روس ماونتن>، تنبهنا استقالة <مارك أنديك> قطب مفاوضات السلام بين الفلسطينيين واسرائيل، من مهمته الى أن الوضع مسدود الحلول.. وأبواب مقفلة بدون مفاتيح.
ومن جدة، مربط خيله الى حين انفراج في لبنان، يحاول الرئيس سعد الحريري أن يمسك بخيوط التهدئة في طرابلس، ويستقبل بالأمس لهذه الغاية وفداً يرئسه وزير العدل اللواء أشرف ريفي، ومعه نائبا طرابلس سمير الجسر ومحمد عبد اللطيف كبارة، والاجتماع بالثلاثة يعني ضرورة التهدئة في طرابلس، وقطع السبل على التسلل السياسي والمذهبي لتنظيم <داعش> الى العاصمة الثانية، من الحدود الشمالية.
سلام وحدود الصبر!
والرئيس تمام سلام صبور أكثر من الجمل نفسه، ويأخذ الأمور في مجلس الوزراء بصدر رحب، ويعطي كل وزير حقه في المساءلة والاعتراض والاقتراح، والتوقيع على المراسيم، برغم ما يشوب بعض هذه التوقيعات من خطأ. فوزير الدفاع سمير مقبل له الحق في أن يوقع بهذه الصفة، ولكن لا يملك الحق في التوقيع كنائب رئيس وزراء دون ذكر عبارة <وزير الدفاع> لأن نيابة رئاسة الحكومة غير موجودة في الدستور، ولا يجوز ايرادها في المراسيم!
وتمام سلام يحمل إرثاً غالياً هو إرث الرئيس الراحل صائب سلام، طيب الله ثراه، صاحب شعار <التفهم والتفاهم> وشعار <لا غالب ولا مغلوب>، وشعار <لبنان واحد لا لبنانان>، وبالتفهم والتفاهم يسوس تمام سلام أعمال مجلس الوزراء، دون أن يكون هناك غالب أو مغلوب، ولكنه بالمقابل لا يرضى أن يكون الشمعة التي تحترق، وأن يتحمل وحده أوزار الخلافات السياسية داخل مجلس الوزراء، ولاسيما في موضوع أساتذة الجامعة اللبنانية، وهو موضوع تلقفته أهواء بعض الوزراء من حيث ارتباطها بالكتلة التي تمثلها في الحكم، وتسبب في انفراط عقد جلسات مجلس الوزراء، وعدم استعداد تمام سلام للدعوة الى جلسة مجلس وزراء جديدة، ما لم يتفق الوزراء على جامع مشترك، لا قاسم مشترك، في موضوع تشكيلات أساتذة الجامعة اللبنانية.
ومن حق الرئيس نبيه بري أن يتهم مجلس الوزراء بممارسة سلطات همايونية والتسبب في تعطيل مصالح البلاد والعباد. وتعطيل العمل في مجلس الوزراء ينسحب على تعطيل السلطة التشريعية، وتعطيل سلطة التشريع ينعكس على تعطيل الوصول الى حل في مسألة سلسلة الرتب والرواتب، وبالتالي تعطيل انعقاد جلسة لانتخاب رئيس الجمهورية العتيد.
وفي رأي خبراء السياسة اللبنانية أن أفق الحل المطلوب لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد للبنان، كامل الانسداد ما لم تتوفر فرص حوار سعودي ــ إيراني حول هذا الموضوع. ولكن أين إيران الآن من مد الحبال الى معركة رئاسة الجمهورية شراكة مع المملكة العربية السعودية؟ فانشغالها بزيادة التخصيب النووي أكثر من عشرة بالمئة، يطغى على كل انشغال آخر. وهذا ما تبينه وزير الخارجية الأميركي <جون كيري> وهو يجتمع في فيينا يوم الأحد الماضي مع وزير خارجية إيران <محمد جواد ظريف>، وهذا ما اكتشفه وزير خارجية فرنسا <لوران فابيوس> ونقل ملابساته الى الرئيس <فرانسوا هولاند> الراعي الجديد لمعركة الرئاسة في لبنان!
إيران ليست على الخط!
لقد انصب اهتمام وزير الخارجية الإيراني في هذه المحادثات على عدم تقديم أي تنازلات للدول المؤثرة في مجلس الأمن ما لم يكن الحل الموصوف للملف النووي الإيراني مقروناً بأمرين: الأول عدم تعطيل الورشة النووية الإيرانية لتقديم الخدمات السلمية، وأولها الخدمات الطبية، وخدمات الطاقة الشمسية، وتنقية البيئة. والثاني اعلان رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران. أي ان حبل المفاوضات طويل، وللملف النووي الإيراني أولوية فوق كل الأولويات الأخرى، ومنها توفير الفرص أمام انتخاب رئيس جمهورية في لبنان، أو تعديل مسار الحكم في سوريا حليفة إيران.
انما مهلة الثلاثة أشهر قد تكون حبلى بأحداث جسام. وشرارة هذه الأحداث هي الآن تلك الصواريخ عابرة الحدود من لبنان الى نهاريا، وبعض قرى الشمال الاسرائيلي، ولا يعلم أحد من يقف وراء خطة اطلاقها، فهي في الأساس لدعم قطاع غزة الذي سقط من أهاليه، ولاسيما الأطفال والنساء، أكثر من مئتي شهيد حتى كتابة هذه السطور.. واسرائيل تبحث عن أي مبرر لشن العدوان على لبنان، مستغلة انشغال مقاتلي حزب الله بالمعارك في سوريا، وفي ظنها، وان بعض الظن إثم، ان حزب الله لا يستطيع في هذه المرحلة أن يحارب على جبهتين: جبهة سوريا، وجبهة الأرض المحتلة. ودخوله حرباً جديدة ضد اسرائيل يتطلب انسحابه أولاً من سوريا، وهذا الأمر في غير الوارد حالياً. أي ان الانتظار سيد الأحكام. وها هو وزير العدل اللواء أشرف ريفي يقول بأن لا رئيس للبنان قبل ثلاثة أشهر، وهي المدة التي يتعين أن تنضج فيها المباحثات الإيرانية ــ الأميركية ــ الأطلسية في فيينا، ويقول وزير الخارجية الإيراني <محمد جواد ظريف> عندئذ: <الآن.. هاتوا لنتحدث عن انتخاب رئيس جديد للبنان>!
إنها مشكلة القرار الدولي 1701. فإذا اجتاحته اسرائيل، إنما تكون بذلك قد اجتاحت إرادة مجلس الأمن. وان تجاوزه حزب الله مع الجيش اللبناني فقد لبنان دعمه الخارجي، إلا إذا كانت هناك حالة دفاع عن النفس، وهو حق مشروع لا يمكن الطعن فيه.
لغة... الصواريخ
ولكن اطلاق الصواريخ من الخطوط الأمامية للجنوب قابل للاستمرار، ما دامت أحداث غزة تحصد دماء الأبرياء. وهذا يتطلب ركون اسرائيل وحركة <حماس> الى الوساطة المصرية بين الطرفين، لوقف اطلاق النار ابتداء من صبيحة يوم الثلاثاء 15 تموز (يوليو) الجاري. وفي الوقت الذي قبل فيه رئيس وزراء اسرائيل <بنيامين نتانياهو> الوساطة المصرية، قالت حركة <حماس> انها لم تتبلغ الوساطة رسمياً، وان وقف اطلاق النار رهن باتفاق هدنة اجمالي وليس بحالة تهدئة تخرقها اسرائيل ساعة تشاء ويقوم المستوطنون الاسرائيليون بحرق أجساد الفتية الفلسطينيين أحياء كما فعلوا بالفتى الشهيد محمد أبو خضير.
وما من شك بأن حركة <حماس> بمواجهتها الصاروخية لاسرائيل، وثباتها في المواجهة العسكرية، قد خطفت بعض وهج من زعامة الرئيس الفلسطيني محمود عباس لصالح رئيس مكتبها السياسي خالد مشعل ورفيقه اسماعيل هنية.
ومن محاسن الصدف أن تتكون قيادة عسكرية فلسطينية مشتركة في المخيمات الفلسطينية، ليمارس فلسطينيو لبنان النأي بالنفس عن المشاكل اللبنانية، وهذا يتطلب منهم، كما تقول الدوائر اللبنانية، كشف المتورطين منهم في اطلاق الصواريخ على الأرض المحتلة، لأن الاستمرار في اطلاق هذه الصواريخ، سيستدعي التدخل العسكري لاسرائيل ولو بالمقاتلات الجوية، وهذا يعني ان الحرب الثالثة في لبنان ضمن دائرة الاحتمال. بدأت عام 2000، وتجددت عام 2006، وترسل إنذاراتها الآن!
ورب يوم نقول فيه إن الأمس كان أفضل من.. الغد!