تفاصيل الخبر

الحجر من حول العالم في "أربعون لوحة..ولوحة"

13/08/2020
الحجر من حول العالم في "أربعون لوحة..ولوحة"

الحجر من حول العالم في "أربعون لوحة..ولوحة"

 

 

بقلم عبير أنطون

  

[caption id="attachment_80188" align="alignleft" width="250"] التفلت من القيود[/caption]

 ذكّرني معرض لوحات الفنان التشكيلي رينالدو صايغ "أربعون لوحة ولوحة للحجر" بالصورة الفوتوغرافية التي التقطت للممرضة البطلة في مستشفى الروم باميلا زينون وهي تحتضن ثلاثة رضع هم علي ونوا وسيدرا يوم الانفجار الهائل في مرفأ بيروت لتنتقل بهم سيراً على الاقدام لحوالي خمسة كيلومترات لانقاذ حياتهم، خاصة وأنهم خدّج ولا يزن الرضيع منهم فوق الكيلوين الإثنين. ولما سُئل المصور الصحفي بلال درويش عما جعله يلتقط تلك الصورة لباميلا وسط مئات المشاهد التي قد تجذب العدسة النهمة في ظروف مماثلة قال: لأنها تتناقض والجو المحيط بها. فهي حملت كل معاني إرادة الحياة التي تنتصر..الولادة في وجه الموت، والأمل في وجه الألم.

على هذه الموجة، يأتي معرض رينالدو صايغ المستمر في "إده ياردز" في جبيل، حيث يستخرج بريشته الجمال من قلب البشاعة، مقاوماً الموت باللون. فالمرض والحجر وإرادة البقاء الذي فرضها الفيروس المستجد عبّر عنها رينالدو بوجوه وزوايا مختلفة، حافلة بالالوان. فماذا في المعرض الذي أراده تحية ومقاومة ؟ كيف انطلق به، هل كان يتوقع بيع هذا العدد من لوحاته في ظروف الحجر والوضع الاقتصادي المتردي؟ وماذا بعده؟

[caption id="attachment_80199" align="alignleft" width="250"] رينالدو صايغ .. لا خوف على الفن.[/caption]

 الإنفجار الرهيب في المرفأ في بيروت، لم يقشع غيمة الـ"كوفيد 19" التي تزداد حالاته يوماً بعد يوماً في لبنان وسط ازدياد عدد الوفيات، فأصبح الانفجار والفيروس وجهين لعملة الالم والموت الواحدة . وقبل الزلزال البيروتي في الرابع من آب (أغسطس)، اختار رينالدو أن يجول العالم وأحواله في ظل "كورونا" من زاويته الجبيليّة الفنية التي لا يضاهيها جمال ولا وحي، في معرض استغرق تحضيره أربعة اشهر.

 

 

جبيل..توأم الروح

 

[caption id="attachment_80196" align="alignleft" width="188"] داخل المعرض[/caption]

 لم يدرس رينالدو الفن او يتتلمذ على يد أحد، وهو يرسم لذاته أولاً . بنى نفسه بنفسه في هذا العالم، حتى افتتح متجره الخاص للوحات، والقطع الفنية والحرفية، إلا أن تغيّر وجه السوق في مدينة بيبلوس من فني أثري يشبه تاريخ المدينة العريق الى تجاري تنهش جنباته المطاعم والمقاهي جعله ينكفئ، ليرسم لمتذوقي فنه من بيته الخاص، وقد اضحوا كثيراً على مر السنوات في جنبات لبنان، وخارجه.

  لا يخفي رينالدو حبه لسوق جبيل التي "يتنفسّها"، إلا أن اصحاب المقاهي لا يكفّون عن مناداته وزبائنه لفنجان قهوة "على حسابهم"، كما يقول لـ"الافكار" ضاحكاً، فوجوده فيها يجذب الضيوف، وحضوره يستجلب الكثيرين خاصة ممن عرفوه بمعارضه السابقة ويذكرون أعماله التي لاقت نجاحاً كبيراً ، بينها ما يتعلق بالمدينة نفسها من خلال معارضه السابقة بينها مثلاً معرض "آثار" الذي جمع فيه أكثر من 30 لوحة غنية بالألوان والأبعاد، زيّن فيها مكتب الاستقبال والاستعلام السياحي التابع للجنة "مهرجانات بيبلوس الدولية في العام 2018"، مقدّماً للزوّار لمحة جذابة عن تاريخ فينيقيا شبه المفقود من العصر البرونزي إلى الغزوات الفارسية واليونانية والرومانية، والتوسّع في البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى أنقراض الفينيقيين وبعض الأحداث ذات الصلة التي تلته.

 

تحية لمن؟

 

[caption id="attachment_80193" align="alignleft" width="188"] خليك بالبيت[/caption]

بالعودة الى معرضه الحالي، كان رينالدو ينوي رسم لوحات عن الثورة التي اندلعت في 17 تشرين الأول، وله من وحيها عدة لوحات. وبين أخذ ورد سرقه الـ"كوفيد 19" من الفكرة علماً أنه لم يكن ينوي حتى أن يفرد له معرضاً خاصاً، إلا أن الأهوال التي عاشتها إيطاليا في الأيام الأولى لاجتياح الكورونا العالم، حيث له العديد من الأصدقاء، حفّزته على التعبير: "رسمت لوحة في البداية استوحيتها من ثلاث صور ايطالية، كتحية مني الى البلد الذي زرت مختلف مدنه من روما الى نابولي وجينوفا وسسيليا وسردينيا وغيرها، وكرّت السبحة فانتقلت الى رسومات أخرى فيها تعبيرات مختلفة، بينها "الشبابيك" المفتوحة على امل منتظر، وبينها الضحكة والالم والتحدي والحلم، وفيها القبلة المستحيلة، والمدنٍ التي هجرها سيّاحها واختلت بنفسها تستجمعُ ما تبقّى من قواها، وفيها العالم السجين والمؤمن الذي أبى إلا أن يعاتب ربّه، وكأنه ربط لخيوط الكوكب المحتجز تحت عبء التباعد، الى أن اضحت هذه أربعين لوحة زائد واحدة، ترجمت جميعها ستة أشهر من الحجر المكلف على مختلف الصعد.

 ولما نسأله لماذا هذه الواحدة الزائدة عن الاربعين ؟ يجيبنا رينالدو: لأنها تشبه الكابوس وحكاية شهرزاد في قصص "ألف ليلة وليلة".

 والى هذه اللوحات حول الـ"كوفيد 19" تنضم، في زاوية معينة من المعرض الحالي الرسومات المتبقية من معرض "الربيع" الذي كان رينالدو أعد له، بألوان ومعان فرحة .

 

توثيق المرحلة..

 

[caption id="attachment_80189" align="alignleft" width="250"] الفن حياة[/caption]

ما يزيد عن الأربعة عشر لوحة بيعت عن طريق "الأونلاين" من المعرض الأمر الذي لم يكن رينالدو يتوقعه على الاطلاق. اللوحات بغالبيتها بيعت الى خارج لبنان، يقول لنا، الى اشخاص من ايطاليا والامارات وحتى لبنانيين في الخارج . ففي هذه اللوحات توثيق فني لمرحلة قاسية من عمر العالم ومن عمر لبنان الذي أنهكته الكورونا الاقتصادية وحجرت على جيبه، قبل الكورونا الصحية.

 وسألناه:

هل من يريد أن يخلّد فعلاً هذه المرحلة بلوحة ؟ هل من الجميل أن نتذكر كلما نظرنا اليها معلقة او معروضة مفاعيل الفيروس وبشاعته ونستعيد عجلة الدنيا التي اوقف بخباثته دورانها، ووقف سدّاً منيعاً في ظل حاجة الناس الملحة الى اللقاء والعناق تحت وطاة الظروف العصيبة الحالية التي يعيشها لبنان اليوم؟

 قد لا يتحمل البعض اقتناء لوحة تذكره بالفيروس، يجيب رينالدو. ولكن في لوحات المعرض ما من اشارة مباشرة اليه ولا الوان قاتمة او سوداء .صحيح أن فيها الكثير مما عشناه واقعياً في ظل هذه الازمة، لكنها لا تجرح الاحساس ولا تؤلب المشاعر. فيها أمل وفيها التحديات كمثل لوحة الرجل القبرصي الذي رفع التحدي في مطبخه. حتى لوحة النعوش المصطفة فهي لا تؤذي العين، متوسطة أنهاراً رافعةً الراية البيضاء.. وفيها ايضاً الحيوانات التي خرجت تتبختر في الشوارع مستفيدة من عزل الناس في بيوتهم فاغتنمت الفرصة، كتلك الماعز التي رأيناها "تكزدر" في الشارع براحة تامة.

اما اللوحات التي تتميز بالنسبة اليه، فيشير رينالدو الى لوحة السجين الذي ينفخ سيجارته ، ذلك أنها" تمثلني" نوعاً ما، فضلاً عن اللوحة التي تمثل تحدي الرجل القبرصي.

 

أين المعارض؟

 

[caption id="attachment_80191" align="alignleft" width="188"] الماعز أخذت راحتها في الشارع.[/caption]

يتعجب رينالدو أن لا معارض كثيرة لفنانين أنتجتها هذه الفترة، علماً أنها اهل لذلك مع حجر الفنانين أنفسهم في بيوتهم ما يعطيهم الوقت والطاقة لذلك .هو يهوى ارتياد المعارض الفنية المختلفة، للوقوف على ما فيها، ويستذكر، رافعاً القبعة في هذا المجال، معرض المصرفي السابق جوزيف ساسين الفنان المبدع، الذي أخذ من عمله الإداري الأرقام ومن تخصصه الهندسي كل الخطوط ليرسم، وهو لا يخفي أنه زاره لثلاث مرات مع أشخاص مختلفين لأنه يستحقّ!

 كلام رينالدو عن "جفاف" المعارض الفنية، يلاقيه في مقلب آخر سلوك بعض مرتادي معرضه وسط التدابير التي يفرضها الـ"كورونا". ويقول في هذا الصدد:

"تجدونهم يدخلون تحت ضغط التباعد والسرعة، الكمامات مطبقة على أنفاسهم، وكأنهم ينظرون بحكم رفع العتب لا اكثر، من دون أن يرتووا مما تقدمه لهم هذه اللوحات عدا اشخاص قليلين، بينهم سيدة لا اعرفها، دخلت المعرض، تفرّست باللوحات وغادرت، لاكتشف بعد فترة وجيزة أنها كتبت انطباعها بكلام مؤثر وجميل جداً قالت فيه: "هي زاوية صغيرة تتسّع لكونٍ بكامله، ما أن تطأ عتبتَها حتى يصطحبك ذلك الساحر بريشته الى أماكنَ غريبةٍ عجيبة، لا يسعك إلا أن ترافقه في جولة خاطفة الى أصقاع الأرض كلّها، فتشدّ حزام الامان مسلّماً أمرَك للمجهول وتنطلق معه في رحلة من نسج خيالٍ مصقولٍ حباً وشغفًاً وانفلاتاً من كل القيود".

 

تذكارات..

 

[caption id="attachment_80200" align="alignleft" width="250"] هيركات[/caption]

عمل رينالدو في الرسم، يضاهيه جمالاً عمله في صنع الحرفيات المشغولة باتقان. نسأله عما اذا كان يفكر بـ "تذكارات" او حرف من وحي الـ"كورونا" قد يشتريها من يريد العودة الى ما قد يصبح ذكرى يوماً ما، فينفي الامر . فهو لن يدخل في حسبانه. لكن ما هو اكيد منه أنه لن يتوقف عن الرسم حتى لو اصبحت أدواته مرتفعة الثمن اكثر .

وهنا يخبرنا بابتسامة، أنه اسرّ لصديقة له تعيش خارج لبنان، أنه دفع ثمن مواده حوالي الالف والخمسماية دولار فاعتبره من حوله "مجنوناً" في هذه الظروف، اذا ما احتسبنا ما يعادلها صرفاً في الليرة اللبنانية. لكنه بالطبع لم يندم على الاطلاق، خاصة وأن أربعة عشر لوحة بيعت منها، فقالت له الصديقة "برافو، لقد وضعتها في المكان الصحيح".

ما يؤكد عليه رينالدو في الختام أنه لن يتوقف يوماً عن الرسم. "هذا قدري المحتوم". لوحاتي اسعارها مقبولة جداً، لأن "الناس لازم تفرح انو فيها تمتلك أي عمل فني، بالقليل يلي معها". فأنا اريد للوحاتي أن تطير على الجدران، لا أن تخزن في الأقبية !

لا يخاف رينالدو على الفن، فهو أداة لترجمة التعبير والاحاسيس ولذلك لا يمكن أن يموت، إنما يقلق على "بزنس الفن" بمعنى تسويقه وبيعه، وهي ازمة عالمية وليست محلية. إنما ما يخشى عليه فعلاً هو التربية في لبنان وما قد يرتّبه تراجعها من تداعيات!