ملف بلدة عرسال يرخي بأثقاله السياسية والأمنية على الوضع العام في البلاد التي تعيش التعطيل الرئاسي والمجلسي ويضع مصير الحكومة على كف عفريت، مع الانقسام الحاصل بين مكوّناتها حول النظرة الى معالجة الوضع الأمني في عرسال الرازحة أصلاً تحت وطأة الممارسات الإرهابية للمجموعات التكفيرية التي تحتل جرودها... فكيف يمكن التصرّف من وجهة نظر عسكرية وأمنية بعيداً عن المزايدات السياسية للخلاص من أزمة عرسال والحفاظ على الحد الأدنى من التضامن الحكومي؟!
<الأفكار> استضافت في مكاتبها الخبير العسكري الاستراتيجي العميد الركن المتقاعد نزار عبد القادر وحاورته في هذا الخضم من الأخطار المحدقة بلبنان عسكرياً وأمنياً بدءاً من السؤال:
ــ الوضع الأمني في عرسال يهدّد بتطيير الحكومة ويوسّع الشرخ القائم بين مكوّناتها. فكيف تقارب من وجهة نظر عسكرية ما يجري هناك؟
- موضوع عرسال هو عبارة عن ضجة إعلامية كبيرة سبق وأثارها الإعلام دون أن يفهم ماهية هذه المعضلة التي تسمى عرسال.. فالمشكلة هناك ليست مشكلة أمنية أو عسكرية، وإنما هي مشكلة تقع في قلب هذا التنافس السياسي اللبناني، واللبناني السوري في الوقت ذاته، بحيث ان حزب الله كلما أراد أن يضغط على منافسيه من قوى 14 آذار وخاصة تيار <المستقبل> يخرج بطاقة عرسال ويعرضها على الإعلام. وأنا هنا أتساءل: في ظل هذا الحوار الجاري بين حزب الله وتيار <المستقبل>، لماذا تستخرج هذه الورقة التي لا حلّ لها إلا إذا كنا نريد أن نسلك طريق الفتنة، لاسيما وان حزب الله يدرك تماماً مخاطرها على المستوى الديموغرافي في البقاع الشمالي وعلى مستوى الانقسام السني - الشيعي، وعلى مستوى الانقسام الوطني والإقليمي؟!
وأضاف:
- من أهم الموانع للدخول في معركة عرسال ليس فقط محاولة تجنّب تفجير هذا الانقسام الحاصل ودفعه الى مواجهة بين الناس، بل ان هناك جملة التزامات، وهي أولاً: سلامة العسكريين الأسرى لدى الجماعات المسلحة بحيث ان الجيش عندما يقوم بأي عملية ضد هذه الجماعات خارج إطار الدفاع عن عرسال، فهذا معناه تعريض هؤلاء للقتل المحتم. وثانياً: فهذا الجيش الموجود في مناطق عرسال والذي أثبت فاعليته في الدفاع عن هذه المنطقة، ولا شوائب على سلوكية المقاتلين فيه ولا على سلوكية قيادة الجيش، لا يمكن الآن الطلب إليه القيام بعمل معين يشكّل خطراً على تماسكه الداخلي أولاً، وثانياً يضيع دوره ويتحول الى نقطة خلاف بين اللبنانيين، وما إذا كان على مسافة واحدة من كل الأفرقاء أم لا... وثالثاً: فنحن نقول بوجود بعض المخاطر في عرسال أو بعض الفئات في عرسال وليس البلدة كلها وهؤلاء أقلية، أو مخاطر آنية في تجمّع النازحين في عرسال، لكن هنا لا بد من مراعاة نقطتين أساسيتين: الأولى ان هذه البلدة سبق ودخلها الجيش في الأسبوع الماضي بقوة وبعراضة عسكرية وكان رد فعل الاهالي ان نثروا الأرز والورد على الجنود وصفقوا لهم، وهذا يخلق إلزاماً وطنياً يؤكد ان هذه البلدة ليست معادية للجيش كما يصورها بعض الإعلام القصير النظر، لا بل الإعلام المأجور من خلال الحملة على عرسال، والثانية هي انه لا يجب أن ننسى ان هؤلاء النازحين هم من سكان بلدة القلمون نفسها ونزحوا الى أقرب منطقة آمنة وبقوا فيها، والقسم الأكبر من هؤلاء هم من أهالي وعائلات المسلحين المنتشرين في جرود القلمون وعرسال، خاصة وان 90 بالمئة من مسلحي القلمون ينتسبون الى <جبهة النصرة> وبقية التنظيمات وهم من سكان القلمون وحملوا السلاح ضد النظام منذ بداية الأحداث، لذلك فنقل النازحين حتى لو لم يتعرض الجيش للمسلحين سيدفع هؤلاء للرد على هذا الإجراء لأنه يضر بمصالحهم وعائلاتهم. ومن هنا لا بد من أخذ كل المسائل في الاعتبار عند الحديث عن عرسال سواء سياسياً أو أمنياً أو حتى على المستوى الوطني، لما فيه مصلحة الوطن والجيش، بغية الحفاظ على هذا الموقع القوي للجيش وعلى وحدته أيضاً، خاصة وان كل مؤسسات الدولة الأساسية انهارت وبقي العمود الفقري وهو الجيش، وبالتالي لا يجب وضعه في أي خطر يتهدد وحدته.
عدم السقوط في فخ الفتنة
وتابع يقول:
- هنا لا بد من تهنئة لبنان واللبنانيين بأنه بعد أربع سنوات من الصراع في سوريا ودخولنا في السنة الخامسة، استطعنا تجنّب الفتنة في الداخل اللبناني، وعندما صدر لي كتاب <الربيع العربي والبركان السوري - نحو سايكس بيكو جديد> عام 2012، كنت متشائماً من ان هذه الحرب في سوريا ستقودنا الى الفتنة في لبنان، لكن الآن بعد هذه السنوات يبدو أننا تجاوزنا الفتنة، ووجدت تفسيراً لذلك كما يبدو هو ان اللبنانيين استفادوا من هذا التنظير الذي تحدث عنه <فرانسيس فوكوياما> في نظريته التي تقول إن الأمم تمر بحدث تاريخي وبعده تتكون لديها مناعة هائلة وتتجه نحو الأفضل. ولذلك أعتبر اننا بعد 17 سنة من الحرب اللبنانية استفدنا من هذا الحدث التاريخي وتكونت لدينا مناعة نحو الأفضل. والآن المطلوب ان نتجاوز كل ما يحصل كي لا تسلك الفتنة في الداخل من جديد بسبب الغباء السياسي وقصر النظر..
ثم أضاف:
- وأنا هنا أفهم إلحاح حزب الله وأقواله دون ان أتحدث من منطلق العداء لحزب الله، وهو ان المشروع الإيراني بات مهدداً على صعيد الإقليم من اليمن مروراً بالعراق وصولاً الى سوريا. وطبعاً إذا تهدد في سوريا الى درجة أسوأ مما هو عليه الآن، فيتهدد المشروع الإيراني في لبنان أيضاً وينعكس سلباً على حزب الله. فهذه الدرجة العالية من الإحراج التي تواجهها الاستراتيجية الإيرانية على مستوى الإقليم قد تطلبت القيام ببعض الخطوات في سوريا التي تشكل المسرح الأساسي وإذا انهار هذا المسرح ينهار كل المشروع خاصة وان العراق لا يزال بلد الثغور وسوريا وحدها هي القلب والطريق المفتوح باتجاه لبنان والبحر.
الجيش ووضعية الدفاع
ــ تتهم حزب الله ووزير الداخلية نهاد المشنوق قال ان عرسال محتلة، وسبق ان تعرض الجيش لهجمات من الإرهابيين وسقط شهداء وجرحى، ناهيك عن السيارات المفخخة التي حصدت الأبرياء، والمقصود بالتحرير جرود عرسال وليس البلدة. بمَ ترد؟
- هناك نقطتان: الأولى هي ان الجيش يدافع عن النقاط التي تعتبر مفاتيح الأرض شرق وجنوب عرسال، وهي الممرات الأساسية باتجاه عرسال والقرى المجاورة، ولذلك فهذه المواقع هي التي حكمت بتمركز الجيش عند هذا الخط القائم حالياً، وإذا كنا نريد ان يقوم الجيش بأمر آخر، إنما ندفعه للقيام بعمل هجومي ويتحول آنذاك من الدفاع الى الهجوم، رغم ان مهمته هناك دفاعية تكمن في منع عبور المسلحين باتجاه القرى اللبنانية، وهو يقوم بهذه المهمة وفقاً لما تفرضه عليه الأرض، ولما يمتلك من قوى وأسلحة إضافة الى نوع التهديد الذي يملكه المسلحون. والثانية: هي ان جرود عرسال واسعة والحدود متداخلة مع سوريا، وسبق أن خدمت كضابط هناك في الستينات ولم نكن نعرف لا نحن ولا القوى الأمنية السورية أين تقع نقاط الحدود بالضبط حتى اننا أوقفنا مرة دورية سورية دخلت حسب معطياتنا لمسافة 5 كلم ضمن الأراضي اللبنانية، لكن المفارقة أن عناصر الدورية قالوا انهم ضمن الأراضي السورية.
واستطرد قائلاً:
- ولذلك فالجيش يقوم بالدفاع بأحسن الوسائل وبأفضل طريقة ممكنة وانطلاقاً من واقع الأرض ووسائله وإمكاناته، وبالتالي لا يمكن لحزب الله ان يقفز فوق كل هذه الاعتبارات السياسية والعسكرية والتقنية وأن يطلب من الجيش المشاركة في عملية هجومية ضد المسلحين، وإذا فعل الجيش ذلك، فسوف يخسر مواقعه التأسيسية لاسيما واننا أمام عدو شرس وكل الجيوش في المنطقة تنهار أمام هجماته، وإذا اختار الجيش هذا الخط الدفاعي الحصين وأظهر تفوّقه على المسلحين من خلاله، فلا يمكن ان نطلب منه ان يتعرض لهجمات إذا خرج من هذه المواقع.
العراضات والنفخ في بوق الفتنة
ــ وماذا لو حصل ضغط عسكري من جرود القلمون سيضطر المسلحون معه الى الانكفاء نحو عرسال ويصبح الصدام واقعاً لا محالة مع الجيش؟
- هذا صحيح، وآنذاك لنختبر هذا الجيش بحيث يكون هو السندان بعدما يهرب المسلحون من مطرقة حزب الله الآتية من جرود فليطا فيصليهم الجيش ناراً حامية ومن مواقع حصينة... فهذه مصلحة حزب الله ان يتحول الجيش الى سندان وحزب الله الى مطرقة بدل ان يتم تعريض الجيش للخطر ولتداعيات تدخله المحتملة بدءاً من شل عمل الحكومة أو إسقاطها..
ــ هل هناك مصلحة لأي طرف بإسقاط الحكومة؟
- لا... أنا أعلم ان حزب الله يحتاج الى بقاء هذه الحكومة لأسباب استراتيجية. فإذا كان حزب الله يقوم بالمشاركة القتالية في سوريا، وبغض النظر عما إذا كنت ضده أم معه، فهذا يعرضه يوماً ما لاتهامه بالإرهاب خاصة وان النظام السوري متهم بالإرهاب وحزب الله حليفه، ويمكن ان يعرضه أيضاً لإقامة دعاوى ضد المسؤولين في حزب الله في المحكمة الجنائية الدولية في <لاهاي>، إنما مشاركته في الحكومة تعطيه نوعاً من المناعة والمظلة الواقية، كونه جزءاً من الشرعية اللبنانية من خلال هذه المشاركة، ولذلك هو حريص على بقاء الحكومة رغم ان بعض حلفائه استدرجوه الى مكان أبعد مما تناوله أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله سواء بالنسبة للوزير سليمان فرنجية أو الوزير جبران باسيل، والخطب التي قام بها أو بالنسبة للعماد ميشال عون. فحزب الله حريص على الجيش ويعرف أهمية الحفاظ على دور الجيش ومؤسسة مجلس الوزراء، وبالتالي أقول إنه إذا كانت هناك أسباب لدى حزب الله للضغط فليتم ذلك خارج إطار انتشار الجيش في عرسال، لأن الجيش والقوى الأمنية الأخرى يقومان بمهمات دقيقة وبوعي تام لدقة هذه المهمات التي تتم بنجاح من خلال التعاون بين كل الأجهزة، بحيث لم يحدث ان شهدنا مثل هذا التعاون والتنسيق في أي فترة سابقة في لبنان.
ــ وهل من تأثير للجدل حول التعيينات الأمنية على اداء الجيش والقوى الأمنية للمهام المنوطة بهما؟
- الموضوع مرده الى الخلاف السياسي الكبير بين مكوّنات الحكومة والحاصل في كل البلد، ناهيك عن أن الإعلام يقوم بتأجيج هذا الصراع، لا بل أقول إن هناك ضجة إعلامية أكثر من كونها حقيقة، ولكنها تؤثر على السياسيين وتصريحاتهم وتنعكس سلباً وتساهم في إشعال الحرائق هنا وهناك، كما تؤثر على معنويات الناس. وما يحدث في البقاع من عراضات عشائريات مسلحة وحديث عن إنشاء ما يسمى <لواء القلعة> إنما يخلق عدوى تعيدنا سنوات الى الوراء من أيام الحرب الأهلية، حتى انني سمعت من أطراف سنية ومسيحية عن أي مدى يمكن تأجيل أو تأخير تسلح هذه الاطراف من أجل درء الخطر المقبل إذا حدثت الفتنة لا سمح الله.. فهذا نفخ في الفتنة عند الذهاب الى سواد الناس وتحريك مشاعرهم باتجاه قرار معين مشفوع بتظاهرات مسلحة ما يجعل المشجع لهذه المظاهر رهينة خطأ أي فرد من أي عشيرة في أن يورط الجميع في الفتنة.